باب بِرِّ الوالدين
قال الله تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } { وَقَضَى رَبُّكَ } معناه : أَمَر ربك ، وأمر بالوالدين إحساناً ؛ وقيل : معناه وأوصى بالوالدين إحساناً ، والمعنى واحد ؛ لأن الوصية أمر . وقد أوصى الله تعالى ببرّ الوالدين والإحسان إليهما في غير موضع من كتابه وقال : { ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً } [ الأحقاف : 15 ] ، وقال : { أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً } [ لقمان : 14 و 15 ] ، فأمر بمصاحبة الوالدين المشركين بالمعروف مع النهي عن طاعتهما في الشرك لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنّ مِنَ الكَبَائِرِ عُقُوقَ الوَالِدَيْنِ .
قوله تعالى : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا } قيل فيه : إن بلغت حال الكبر وهو حال التكليف وقد بقي معك أبواك أو أحدهما فلا تقل لهما أفٍّ . وذكر ليث عن مجاهد قال : " لا تقل لهما أفٍّ إذا بلغا من الكبر ما كانا يليان منك في الصغر فلا تقل لهما أفّ " . قال أبو بكر : اللفظ محتمل للمعنيين فهو عليهما ، ولا محالة أن بلوغ الولد شَرْطٌ في الأمر ، إذْ لا يصح تكليف غير البالغ ، فإذا بلغ حال التكليف وقد بلغا هما حال الكبر والضعف أو لم يبلغا فعليه الإحسان إليهما وهو مزجور أن يقول لهما أفٍّ ، وهي كلمة تدل على الضجر والتبرم بمن يخاطب بها .
قوله تعالى : { وَلا تَنْهَرْهُمَا } معناه : لا تزجرهما على وجه الاستخفاف بهما والإغلاظ لهما . قال قتادة في قوله : { وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } قال : " ليناً سهلاً " . وقال هشام بن عروة عن أبيه : { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ } قال : " لا تمنعهما شيئاً يريدانه " . وروى هشام عن الحسن أنه سئل : ما برّ الوالدين ؟ قال : " أن تبذل لهما ما ملكت وأطعهما فيما أمراك ما لم يكن معصية " . وروى عمرو بن عثمان عن واصل بن السائب : { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ } قال : " لا تنفض يدك عليهما " . وقال عروة بن الزبير : " ما بَرَّ والده من أحَدَّ النظر إليه " . وعن أبي الهياج قال : سألت سعيد بن المسيب عن قوله : { قَوْلاً كَرِيماً } قال : " قول العبد الذليل للسيد الفظّ الغليظ " . وعن عبدالله الرصافي قال : حدثني عطاء في قوله تعالى : { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ } قال : " يداك لا ترفعهما على أبويك ولا تُحِدَّ بصرك إليهما إجلالاً وتعظيماً " .
قال أبو بكر : قوله تعالى : { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ } هو مجاز ؛ لأن الذلّ ليس له جناح ولا يوصف بذلك ، ولكنه أراد المبالغة في التذلّل والتواضع لهما ، وهو كقول امرىء القيس في وصف الليل :
* فَقُلْتُ لَهُ لما تَمَطَّى بصُلْبِهِ * وأَرْدَفَ أَعْجَازاً ونَاءَ بكَلْكَلِ *
وليس لليل صلب ولا أعجاز ولا كلكل ، وهو مجاز ، وإنما أراد به تكامله واستواءه .
قوله تعالى : { وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } فيه الأمْرُ بالدعاء لهما بالرحمة والمغفرة إذا كانا مسلمين ؛ لأنه قال في موضع آخر : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى } [ التوبة : 113 ] ، فعلمنا أن مراده بالدعاء للوالدين خاصٌّ في المؤمنين . وبيَّن الله تعالى بهذه الآية تأكيد حقّ الأبوين ، فقرن الأمر بالإحسان إليهما إلى الأمر بالتوحيد فقال : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } ؛ ثم بيَّن صفة الإحسان إليهما بالقول والفعل والمخاطبة الجميلة على وجه التذلل والخضوع ونَهَى عن التبرُّم والتضجُّر بهما بقوله : { فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } ونهى عن الإغلاظ والزجر لهما بقوله { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } ، فأمر بلين القول والاستجابة لهما إلى ما يأمرانه به ما لم يكن معصية ، ثم عقبه بالأمر بالدعاء لهما في الحياة وبعد الوفاة . وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عظم حقّ الأمّ على الأب . ورَوَى أبو زرعة عن عمرو بن جرير عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله من أَحَقُّ الناس بحسن صحابتي ؟ قال : " أُمُّكَ " قال : ثم من ؟ قال : " ثمّ أُمُّكَ " ، قال : ثمَّ من ؟ قال : " ثُمَّ أُمُّكَ " ، قال : ثم من ؟ قال : " ثُمَّ أَبُوكَ " .