قوله تعالى : { وَأَوْفُوا بِالعَهْدِ } ؛ يعني والله أعلم إيجاب الوفاء بما عاهد الله على نفسه من النذور والدخول في القُرَبِ ، فألزمه الله تعالى إتمامها ، وهو كقوله تعالى : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم } [ التوبة : 75 و 77 ] ؛ وقيل : أوفوا بالعهد في حفظ مال اليتيم مع قيام الحجة عليكم بوجوب حفظه ؛ وكلّ ما قامت به الحجة من أوامر الله وزواجره فهو عهد .
وقوله تعالى : { إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } معناه : مسؤولاً عنه للجزاء ، فحُذِفَ اكتفاءً بدلالة الحال وعِلْمِ المخاطب بالمراد . وقيل : إن العهد يُسأَل فيقال لم نقضت ؟ كما تسأل الموءودة بأي ذنب قتلت ؛ وذلك يرجع إلى معنى الأول لأنه توقيف وتقرير لناقض العهد كما أن سؤال الموءودة توقيف وتقرير لقائلها بأنه قتلها بغير ذنب .
قوله تعالى : { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } . قال مجاهد : " التي هي أحسن التجارة " . وقال الضحاك : " يبتغي به من فضل الله ولا يكون للذي يبتغي فيه شيء " . قال أبو بكر : إنما خَصَّ اليتيم بالذكر وإن كان ذلك واجباً في أموال سائر الناس لأن اليتيم إلى ذلك أحْوَجُ والطمع في مثله أكثر ، وقد انتظم قوله : { إِلاَّ بالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } جواز التصرف في مال اليتيم للوالي عليه من جَدٍّ أو وصيّ أب لسائر ما يعود نفعه عليه ؛ لأن الأحسن ما كان فيه حفظ ماله وتثميره ، فجائز على ذلك أن يبيع ويشتري لليتيم بما لا ضرر على اليتيم فيه وبمثل القيمة وأقل منها مما يتغابن الناس فيه ؛ لأن الناس قد يرون ذلك حَطّاً لما يرجون فيه من الربح والزيادة ، ولأن هذا القدر من النقصان مما يختلف المُقَوِّمون فيه ، فلم تثبت هناك حطيطة في الحقيقة ، ولا يجوز أن يشتري بأكثر من القيمة بما لا يتغابن الناس فيه لأن فيه ضرراً على اليتيم وذلك ظاهر متيقن ، وقد نهى الله أن يقرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن . وقد دلّت الآية على جواز إجارة مال اليتيم والعمل به مضاربة ؛ لأن الريح الذي يستحقه اليتيم إنما يحصل له بعمل المضارب ، فذلك أحْسَنُ من تركه . وقد رَوَى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ابْتَغُوا بأَمْوَالِ الأَيْتَامِ خَيْراً لا تَأْكُلْهَا الصَّدَقَةُ " ، قيل : معناه النفقة ؛ لأن النفقة تسمَّى صدقةً . وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أَنْفَقَ الرَّجُلُ على نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ " . وقد رُوي عن عمر وابن عمر وعائشة وجماعة من التابعين أن للوصيّ أن يتجر بمال اليتيم وأن يدفعه مضاربة . ويدلّ على أن للأب أن يشتري مال الصغير لنفسه ويبيع منه وعلى أن للوصيّ أن يشتري مال اليتيم لنفسه إذا كان ذلك خيراً لليتيم ، وهو قول أبي حينفة قال : " وإن اشترى بمثل القيمة لم يجز حتى يكون ما يأخذه اليتيم أكثر قيمة لقوله تعالى : { إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } . وقال أبو يوسف ومحمد : " لا يجوز ذلك بحال " . وقوله : { حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } ، قال زيد بن أسلم وربيعة : " الحُلُمَ " . قال أبو بكر : وقال في موضع آخر : { ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا } [ النساء : 6 ] فذكر الكبر ههنا وذكر الأشدّ في هذه الآية ، وقال : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } [ النساء : 6 ] ، فذكر في إحدى الآيات الكبر مطلقاً وفي الأخرى الأشدَّ وفي الأخرى بلوغ النكاح مع إيناس الرُّشْدِ . وروى عبدالله بن عثمان بن خثيم عن مجاهد عن ابن عباس : { حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } [ الأحقاف : 15 ] ؛ ثلاث وثلاثون سنة ، { وَاستَوَى } [ القصص : 14 ] : أربعون سنة ، { أوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ } [ فاطر : 37 ] قال : العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة . وقال تعالى : { حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني } [ الأحقاف : 15 ] فذكر في قصة موسى بلوغ الأشدّ والاستواء ، وذكر في هذه الآية بلوغ الأشد ، وفي الأخرى بلوغ الأشُدِّ وبلوغ أربعين سنة ، وجائز أن يكون المراد ببلوغ الأشدّ قيل أربعين سنة وقيل الاستواء ، وإذا كان كذلك فالأشُدُّ ليس له مقدار معلوم في العادة لا يزيد عليه ولا ينقص منه ، وقد يختلف أحوال الناس فيه فيبلغ بعضهم الأشُدَّ في مدة لا يبلغه غيره في مثلها ؛ لأنه إن كان بلوغ الأشد هو اجتماع الرأي واللبّ بعد الحلم فذلك مختلف في العادة وإن كان بلوغه اجتماع القوى وكمال الجسم فهو مختلف أيضاً ، وكل ما كان حكمه مبنيّاً على العادات فغير ممكن القطع به على وقت لا يتجاوزه ولا يقصر عنه إلا بتوقيف أو إجماع ، فلما قال في آية : { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } اقتضى ذلك دفع المال إليه عند بلوغ الأشد من غير شرط إيناس الرشد ، ولما قال في آية أخرى : { حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } [ النساء : 6 ] شَرَطَ فيها بعد بلوغ النكاح إيناس الرُّشْدِ ولم يشرط ذلك في بلوغ الأشد ولا بلوغ حد الكبر في قوله : { ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا } [ النساء : 6 ] ، فقال أبو حنيفة : " لا يُدفع إليه ماله بعد البلوغ حتى يؤنس منه رشداً ويكبر ويبلغ الأشدّ وهو خمس وعشرون سنة ثم يدفع إليه ماله بعد أن يكون عاقلاً " ، فجائز أن تكون هذه مدة بلوغ الأشُدّ عنده .