قوله تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلاَّ بِالحَقِّ } . إنما قال تعالى : { إِلاَّ بِالحَقِّ } لأن قتل النفس قد يصير حقّاً بعد أن لم يكن حقّاً ، وذلك قَتْلُهُ على وجه القَوَدِ وبالرِّدَّةِ والرجْم للمحصن والمحاربة ونحو ذلك .
قوله تعالى : { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } . رُوي عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد في قوله : { سُلْطاناً } قالوا : حجة ، كقوله : { أوْ ليَأْتِيَنِّي بِسُلْطان مبين } [ النمل : 21 ] . وقال الضحاك : السلطان أنه مخيَّرٌ بين القتل وبين أخْذِ الدية وعلى السلطان أن يطلب القاتل حتى يدفعه إليه . قال أبو بكر : السلطان لفظ مُجْمَلٌ غير مُكْتَفٍ بنفسه في الإبانة عن المراد ؛ لأنه لفظ مشترك يعق على معانٍ مختلفة ، فمنها الحجة ومنها السلطان الذي يلي الأمر والنهي وغير ذلك ، إلا أن الجميع مجمعون أنه قد أُريد به القَوَدُ فصار الفَوَدُ كالمنطوق به في الآية ، وتقديره : فقد جعلنا لوليه سلطاناً أي قَوَداً ، ولم يثبت أن الدية مراده فلم نثبتها ؛ ولما ثبت أن المراد القَوَدُ دلّ ظاهره على أنه إذا كانت الورثة صغاراً وكباراً أن للكبار أن يقتصّوا قبل بلوغ الصغار لأن كل واحد منهم ولي والصغير ليس بوليّ ، ألا ترى أنه لا يجوز عفوه ؟ وهذا قول أبي حنيفة ، وعند أبي يوسف ومحمد لا يقتصّ الكبار حتى يبلغ الصغار فيقتصوا معهم أو يعفوا ؛ ورُوي عن محمد الرجوع إلى قول أبي حنيفة .
قوله تعالى : { فلا يُسْرِفْ في القَتْلِ } . رُوي عن عطاء والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وطَلْق بن حبيب : " لا يقتل غير قاتله ولا يمثّل به " ؛ وذلك لأن العرب كانت تتعدَّى إلى غير القاتل من الحميم والقريب ، فلما جعل الله له سلطاناً نهاه أن يتعدَّى ؛ وعلى هذا المعنى قوله تعالى : { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } [ البقرة : 178 ] لأنه كان لبعض القبائل طَوْلٌ على الأخرى فكان إذا قُتِلَ منهم العبد لا يرضون إلا أن يقتلوا الحرَّ منهم ؛ وقال في هذه الآية : لا يسرف في القتل بأن يتعدَّى إلى غير القاتل . وقال أبو عبيدة : لا يسرف في القتل ، جَزَمَهُ بعضهم على النهي ورفعه بعضهم على مجاز الخبر ، يقول : ليس في قتله سَرَفٌ لأن قتله مستحقٌّ .
قوله تعالى : { إنّهُ كَانَ مَنْصُوراً } ؛ قال قتادة : " هو عائد على الولي " ، وقال مجاهد : " على المقتول " . وقيل : " هو منصور إما في الدنيا وإما في الآخرة ، ونصره هو حكم الله له بذلك أعني للولي " . وقيل : " نصره أمر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يعينوه " . وقوله تعالى : { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً } قد اقتضى إثباتَ القصاص للنساء ؛ لأن الولي هنا هو الوارث ؛ كما قال : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } [ التوبة : 71 ] ، وقال : { إن الذين آمنوا } إلى قوله : { بعضهم أولياء بعض } [ الأنفال : 72 ] ، وقال : { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا } [ الأنفال : 72 ] ، فنفى بذلك إثبات التوارث بينهم إلا بعد الهجرة ، ثم قال : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين } [ الأنفال : 75 ] ، فأثبت الميراث بأن جعل بعضهم أولياء بعض ، وقال : { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض } [ الأنفال : 73 ] فأثبت التوارث بينهم بذكر الولاية . فلما قال : { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } اقتضى ذلك إثبات القَوَدِ لسائر الوَرَثَةِ ؛ ويدلّ على أن الدم موروث عن المقتول أن الدية التي هي بدل من القصاص موروثة عنه للرجال والنساء ، ولو لم تكن النساء قد وَرِثْنَ القِصَاصَ لما ورثن بدله الذي هو المال ، وكيف يجوز أن يرث بعض الورثة من بعض ميراث الميت ولا يرث من البعض الآخر ! هذا القول مع مخالفته لظاهر الكتاب مخالف للأصول . وقول مالك : " إن النساء ليس إليهنّ من القصاص شيء وإنما القصاص للرجال فإذا تحول مالاً ورثت النساء مع الرجال ؛ ، ورُوي عن سعيد بن المسيب والحسن وقتادة والحكم : " ليس إلى النساء شيء من العفو والدم " ؛ ومن قول أصحابنا : " إن القصاص واجب لكل وارث من الرجال والنساء والصبيان بقدر مواريثهم " .