الثالث قوله تعالى في نسق التلاوة : { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } فأخبر أنهم لا يعارضونه ولا يقع ذلك منهم ؛ وذلك إخبار بالغيب ووجد مخبره على ما هو به . ولا تتعلق هذه بإعجاز النظم ، بل هي قائمة بنفسها في تصحيح نبوَّته ، لأنه إخبارٌ بالغيب ، كما لو قال لهم : " الدلالة على صحة قولي أنكم مع صحة أعضائكم وسلامة جوارحكم لا يقع من أحد منكم أن يمسَّ رأسَه وأن يقوم من موضعه " فلم يقع ذلك منهم ، مع سلامة أعضائهم وجوارحهم ، وتقريعهم به مع حرصهم على تكذيبه ، كان ذلك دليلاً على صحة نبوته ، إذ كان مثل ذلك لا يصح إلا كونه من قبل القادر الحكيم الذي صرفهم عن ذلك في تلك الحال .
قال أبو بكر : وقد تحدى الله الخلقَ كلهم من الجن والإنس بالعجز عن الإتيان بمثل القرآن بقوله تعالى : { قل لئن اجتمعت الإنسُ والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } [ الإسراء : 88 ] . فلما ظهر عجزهم قال : { فأتوا بعشر سور مثله مفتريات } [ هود : 13 ] . فلما عجزوا قال : { فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين } [ الطور : 34 ] . فتحداهم بالإتيان بمثل أقصر سورة منه ، فلما ظهر عجزهم عن ذلك وقامت عليهم الحجة وأعرضوا عن طريق المحاجة وصمموا على القتال والمغالبة ، أمر الله نبيَّه بقتالهم . وقيل في قوله تعالى : { وادعوا شهداءكم من دون الله } أنه أراد به أصنامهم وما كانوا يعبدونهم من دون الله ، لأنهم كانوا يزعمون أنها تشفع لهم عند الله . وقيل إنه أراد جميع من يصدِّقكم ويوافقكم على قولكم ، وأفاد بذلك عجز الجميع عنه في حال الاجتماع والانفراد ، كقوله : { لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } [ الإسراء : 88 ] .
فقد انتظمت فاتحة الكتاب من ابتدائها إلى حيث انتهينا إليه من سورة البقرة الأمر والتبدئة بسم الله تعالى ، وتعليمنا حمده والثناء عليه ، والدعاء له ، والرغبة إليه في الهداية إلى الطريق المؤدي إلى معرفته وإلى جنته ورضوانه دون طريق المستحقين لغضبه والضالين عن معرفته ، وشكره على نعمته ، ثم ابتدأ في سورة البقرة بذكر المؤمنين ووصفهم ، ثم ذكر الكافرين وصفتهم ، ثم ذكر المنافقين ونعتهم وتقريب أمرهم إلى قلوبنا بالمثل الذي ضربه بالذي استوقد ناراً وبالبرق الذي يضيء في الظلمات من غير بقاء ولا ثبات ، وجعل ذلك مثلاً لإظهارهم الإيمان ، وأن الأصل الذي يرجعون إليه وهم ثابتون عليه هو الكفر ، كظلمة الليل والمطر اللذين يعرض في خلالهما برق يضيء لهم ثم يذهب فيبقون في ظلمات لا يبصرون . ثم ابتدأ بعد انقضاء ذكر هؤلاء بإقامة الدلالة على التوحيد بما لا يمكن أحداً دفعه : من بسطِهِ الأرض وجعلِها قراراً ينتفعون بها ، وجَعْلِ معايشهم وسائر منافعهم وأقواتهم منها ، وإقامتها على غير سند ، إذ لا بد أن يكون لها نهاية لما ثبت من حدوثها ، وأن ممسكَها ومُقيمَها كذلك هو الله خالقُها وخالقكم المنعمُ عليكم بما جعل لكم فيها من أقواتكم وسائر ما أخرج من ثمارها لكم ؛ إذ لا يجوز أن يقدر على مثل ذلك إلا القادرُ الذي لا يُعجزه ولا يشبهه شيء ، فحثهم على الاستدلال بدلائله ، ونبههم على نعمه ، ثم عقب ذلك بالدلالة على نبوَّة النبي عليه السلام بما أظْهَرَ مِنْ عجزهم عن الإتيان بمثل سورة من القرآن ، ودعاهم في ذلك كله إلى عبادة الله تعالى وحده المنعم علينا بهذه النعم ، فقال : { فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } يعني والله أعلم تعلمون أن ما تدعونه آلهة لا تقدرُ على شيءٍ من ذلك ، وأن الله هو المنعم عليكم به دونها ، وهو الخالق لها . وقيل في معنى قوله { وأنتم تعلمون } إنكم تعلمون الفصل بين الواجب وغير الواجب ، ويكون معناه أن الله تعالى قد جعل لكم من العقل ما يمكنكم به الوصول إلى معرفة ذلك فوجب تكليفكم ذلك ، إذ غير جائز في العقل إباحة الجهل بالله تعالى مع إزاحة العلّة والتمكن من المعرفة ، فلما قرر جميع ذلك عندهم بدلائله الدالة عليه عَطَفَ عليه بذكر الوعيد بقوله : { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين } ثم عقب بذكر ما وعد المؤمنين في الآخرة بقوله : { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار } إلى آخر ما ذكر .
قال أبو بكر رحمه الله : وقد تضمنت هذه الآية مع ما ذكرنا من التنبيه على دلائل التوحيد وإثبات النبوة الأمر باستعمال حجج العقول والاستدلال بدلائلها ، وذلك مبطل لمذهب من نفي الاستدلال بدلائل الله تعالى واقتصر على الخبر بزعمه في معرفة الله والعلم بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن الله تعالى لم يقتصر فيما دعا الناس إليه من معرفة توحيده وصدق رسوله على الخبر دون إقامة الدلالة على صحته من جهة عقولنا .