وقوله تعالى : { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين } فيه أكبر دلالة على صحة نبوَّة نبينا عليه السلام من وجوه : أحدها أنه تحداهم بالإتيان بمثله ، وقرَّعهم بالعجز عنه مع ما هم عليه من الأنفة والحميَّة ، وأنه كلام موصوف بلغتهم ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم منهم تعلم اللغة العربية ، وعنهم أخذ ، فلم يعارضه منهم خطيب ، ولا تكلفه شاعر ، مع بذلهم الأموال والأنفس في توهين أمره ، وإبطال حججه ، وكانت معارضته لو قدروا عليها أبلغ الأشياء في إبطال دعواه وتفريق أصحابه عنه ؛ فلما ظهر عجزُهم عن معارضته دلَّ ذلك على أنه من عندِ الله الذي لا يُعجزه شيء ، وأنه ليس في مقدور العباد مثله ، وإنما أكبر ما اعتذروا به أنه من أساطير الأولين ، وأنه سحرٌ ، فقال تعالى : { فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين } [ الطور : 34 ] وقال : { فأتوا بعشر سور مثله مفتريات } [ هود : 13 ] فتحداهم بالنظم دون المعنى في هذه الصورة ، وأظهر عجزهم عنه فكانت هذه معجزةً باقية لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم إلى قيام الساعة ، أبان الله تعالى بها نبوَّة نبيّه وفضَّله بها على سائر الأنبياء ، لأن سائرَ معجزات الأنبياء تقضَّت بانقضائهم ، وإنما يُعلم كونُها معجزة من طريق الأخبار ، وهذه معجزة باقية بعده ، كل من اعترض عليها بعد قرّعناه بالعجز عنه ، فتبين له حينئذ موضع الدلالة على تثبيت النبوة ، كما كان حكم من كان في عصره من لزوم الحجة به وقيام الدلالة عليه .
والوجه الآخر من الدلالة أنه معلوم عند المؤمنين بالنبي عليه السلام وعند الجاحدين لنبوته أنه كان من أتم الناس عقلاً ، وأكملهم خلقاً ، وأفضلهم رأياً ، فما طعن عليه أحدٌ في كمال عقله ووُفور حلمه وصحة فهمه وجودة رأيه ؛ وغيرُ جائز على من كان هذا وصفه أن يدَّعي أنه نبي الله قد أرسله إلى خلقه كافةً ، ثم جعل علامة نبوته ودلالة صدقه كلاماً يُظهره ويقرِّعهم به ، مع علمه بأن كل واحد منهم يقدر على مثله ، فيظهر حينئذ كذبه وبطلانُ دعواه ، فدلَّ ذلك على أنه لم يتحدَّهم بذلك ولم يقرِّعهم بالعجز عنه إلا وهو من عند الله لا يقدر العبادُ على مثله .