ولما احتج عليهم بما يثبت الوحدانية ،ويحققها .ويبطل الإشراك ويهدمه ،وعلم الطريق إلى إثبات ذلك ،وتصحيحه .وعرَّفهم أن من أشرك فقد كابر عقله ،وغطى على ما أنعم عليه من معرفته وتمييزهعطف على ذلك ما هو الحجة على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ،وما يدحض الشبهة في كون القرآن معجزة ،وأراهم كيف يتعرَّفون:أهو من عند اللهكما يدَّعىأم هو من عند نفسهكما يدَّعون؟ بإرشادهم إلى أن يحزروا أنفسهم ،ويذوقوا طباعهم ،وهم أبناء جنسه ،وأهل جلدته .فقال تعالى:{ وإن كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين 23} .
{ وإن كنتم في ريب مما نزّلنا}أي من القرآن الذي نزلناه{ على / عبدنا} محمد صلى الله عليه وسلم أنه من عند الله تعالى ،والتعبير عن اعتقادهم في حقه بالريبمع أنهم جازمون بكونه من كلام البشركما يعرب عنه قوله تعالى:{ إن كنتم صادقين} إما للإيذان بأن أقصى ما يمكن صدوره عنهموإن كانوا في غاية ما يكون من المكابرة والعنادهو الارتياب في شأنه ( وأما الجزم المذكور فخارج من دائرة الاحتمال ،كما أن تنكيره وتصديره بكلمة الشك للإشعار بأن حقه أن يكون ضعيفا مشكوك الوقوع ) وإما للتنبيه على أن جزمهم ذلك بمنزلة الريب الضعيف لكمال وضوح دلائل الإعجاز ،ونهاية قوّتها .وإنما لم يقل:وإن ارتبتم فيما نزلنا ...إلخ ،لما أشير إليهفيما سلفمن المبالغة في تنزيه ساحة التنزيل عن شائبة وقوع الريب فيهحسبما نطق به قوله تعالى:{ لا ريب فيه}والإشعار بأن ذلكإن وقعفمن جهتهم لا من جهته العالية .واعتبار استقرارهم فيه ،وإحاطته بهم ،لا ينافي اعتبار ضعفه وقلّته:لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به ،لا قلّته ولا كثرته .وفي ذكره صلى الله عليه وسلم بعنوان العبودية ،مع الإضافة إلى ضمير الجلالةمن التشريف ،والتنويه ،والتنبيه على اختصاصه به عز وجل ،وانقياده لأوامره تعالىما لا يخفى .والأمر في قوله تعالى:{ فأتوا بسورة} من باب التعجيز وإلقام الحجر ،كما في قوله تعالى:{ فأت بها من المغرب}{[509]} ،أو من باب المجاراة معهمبحسب حسبانهمحيث كانوا يقولون:لو نشاء لقلنا مثل هذا .و "السورة "الطائفة من القرآن العظيم المترجمة ،وأقلها ثلاث آيات ،وواوها أصلية .منقولة من سور البلدلأنها محيطة بطائفة من القرآن مفرزة ،مُحْوِزَةٍ .أو محتوية على فنون رائقة من / العلوم ،احتواء سور المدينة على ما فيها .أو من السورة التي هي الرتبة .فإن سور القرآن مع كونها في أنفسها رتبامن حيث الفضل والشرف ،أو من حيث الطول والقصرفهي من حيث انتظامها مع أخواتها في المصحف:مراتب يرتقي إليها القارئ شيئا فشيئا .و{ من} في قوله تعالى:{ من مثله} بيانية متعلقة بمحذوف صفة لسورة ،والضمير"لما نزلنا "أي بسورة كائنة من مثله في علو الرتبة ،وسمو الطبقة ،والنظم الرائق ،والبيان البديع ،وحيازة سائر نعوت الإعجاز .وقيل{ من} زائدةعلى ما هو رأي الأخفشبدليل قوله تعالى:{ فأتوا بسورة مثله}{[510]}{ بعشر سور مثله}{[511]} .
وقوله تعالى:{ وادعوا شهداءكم من دون الله} إرشاد لهم إلى إنهاض أمة جَمَّةٍ ،ليحتشدوا في حلبة المعارضة بخيلهم ورجلهم ،ويتعاونوا على الإتيان بقدر يسير مماثل في صفات الكمال لما أتى بجملته واحد من أبناء جنسهم .وهذا كقوله تعالى في سورة هود:{ أم يقولون افتراه * قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات * وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين}{[512]} و "الشهداء "جمع شهيد ،بمعنى:الحاضر ،أو القائم بالشهادة ،أو الناصر .و{ من} لابتداء الغاية متعلقة ب{ ادعوا} والظرف مستقر .والمعنى:ادعوا ،متجاوزين الله تعالى للاستظهار ،من حضركمكائنا من كانأو الحاضرين في مشاهدكم ومحاضركم من رؤسائكم وأشرافكمالذين تفزعون إليهم في الملمات ،وتعوّلون عليهم في المهمّاتأو القائمين بشهاداتكم الجارية فيما بينكممن/ أمنائكم المتولّين لاستخلاص الحقوق ،بتنفيذ القول عند الولاةأو القائمين بنصرتكمحقيقة أو زعمامن الإنس والجن ليعينوكم .وإخراجه ،سبحانه وتعالى ،من حكم الدعاء في الأولمع اندراجه في الحضورلتأكيد تناوله لجميع ما عداه ،لا لبيان استبداده تعالى بالقدرة على ما كلفوه ؛ فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دعوه تعالى لأجابهم إليه .وأما في سائر الوجوه:فللتصريح من أول الأمر ببراءتهم منه تعالى ،وكونهم في عدوة المحادّة والمشاقة له ،قاصرين استظهارهم على ما سواه ؛ والالتفات لإدخال الروعة ،وتربية المهابة{ إن كنتم صادقين} أي:في زعمكم أنه من كلامه صلى الله عليه وسلم ،واستلزام المقدّم للتالي من حيث أن صدقهم في ذلك الزعم يستدعي قدرتهم على الإتيان بمثله ،بقضية مشاركتهم له صلى الله عليه وسلم في البشرية والعربية ،مع ما بهم من طول الممارسة للخطب والأشعار ،وكثرة المزاولة لأساليب النظم والنثر ،والمبالغة في حفظ الوقائع والأيام ،لاسيما عند المظاهرة والتعاونولا ريب في أن القدرة على الشيء من موجبات الإتيان به ،ودواعي الأمر به.