قوله تعالى : { الذي جعل لكم الأرض فراشاً } يعني والله أعلم قراراً ، كقوله : { الذي جعل لكم الأرض قراراً } [ غافر : 64 ] وقوله : { ألم نجعل الأرض مهاداً } [ النبأ : 6 ] فسماها فراشاً ؛ والإطلاق لا يتناولها ، وإنما يسمى به مقيداً ، كقوله تعالى : { والجبال أوتاداً } [ النبأ : 7 ] وإطلاق اسم الأوتاد لا يفيد الجبال ، وقوله : { وجعل الشمس سراجاً } [ نوح : 16 ] . ولذلك قال الفقهاء : إن مَن حلف لا ينام على فراش فنام على الأرض لا يحنث ، وكذلك لو حلف لا يقعد في سراج فقعد في الشمس ؛ لأن الأيمان محمولة على المعتاد المتعارَف من الأسماء ، وليس في العادة إطلاقُ هذا الاسم للأرض والشمس . وهذا كما سمى الله تعالى الجاحد له كافراً ، وسمَّى الزارع كافراً ، والشاك السلاح كافراً ، ولا يتناولهما هذا الاسم في الإطلاق ، وإنما يتناول الكافر بالله تعالى . ونظائرُ ذلك من الأسماء المطلقة والمقيدة كثيرة ، ويجب اعتبارها في كثير من الأحكام ، فما كان في العادة مطلقاً فُهم على إطلاقه ، والمقيَّدَ فيها على تقييده ، ولا يتجاوز به موضعه .
وفي هذه الآية دلالةٌ على توحيد الله تعالى ، وإثباتُ الصانع الذي لا يشبهه شيء ، القادرِ الذي لا يعجزه شيء ، وهو ارتفاعُ السماء ووقوفها بغير عمد ، ثم دوامها على طول الدهر غير متزايلة ولا متغيرة ، كما قال تعالى : { وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً } [ الأنبياء : 32 ] . وكذلك ثباتُ الأرض ووقوفُها على غير سند فيه أعظمُ الدلالة على التوحيد وعلى قدرة خالقها ، وأنه لا يُعجزه شيء ، وفيها تنبيه وحث على الاستدلال بها على الله وتذكيرٌ بالنعمة .
قوله تعالى : { فأخرجَ به من الثمرات رزقاً لكم } نظير قوله : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } وقوله : { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض } [ الجاثية : 13 ] وقوله : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } [ الأعراف : 32 ] يحتج بجميع ذلك في أن الأشياء على الإباحة مما لا يحظره العقل ، فلا يحرَّم منه شيء إلا ما قام دليلُه .