/م67
فأولها أن قوله تعالى : { وإذ قتلتم نفساً } وإن كان مؤخراً في التلاوة فهو مقدَّم في المعنى على جميع ما ابتدأ به من شأن البقرة ، لأن الأمر بذبح البقرة إنما كان سَبَبُهُ قتل النفس .
وقد قيل فيه وجهان ، أحدهما : أن ذكر القتل وإن كان مؤخراً في التلاوة فهو مقدم في النزول . والآخر : أن ترتيب نزولها على حسب ترتيب تلاوتها ونظامها وإن كان مقدماً في المعنى ؛ لأن الواو لا توجبُ الترتيب ، كقول القائل : " اذكر إذ أعطيت ألف درهم زيداً إذ بَنَى داري " والبناء مقدم على العطية .
والدليل على أن ذكر البقرة مقدم في النزول قوله تعالى : { فقلنا اضربوه ببعضها } فدلّ على أن البقرة قد ذكرت قبل ذلك ولذلك أضمرت . ونظير ذلك قوله تعالى في قصة نوح عليه السلام بعد ذكر الطوفان وانقضائه { قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل } [ هود : 40 ] ومعلوم أن ذلك كان قبل هلاكهم ؛ لأن تقديم الكلام وتأخيره إذا كان بعضه معطوفاً على بعض بالواو غير موجب ترتيب المعنى على ترتيب اللفظ .
قوله تعالى : { والله مخرج ما كنتم تكتمون } يدلّ على أن ما يُسره العبد من خير وشرّ ودام ذلك منه أن الله سيظهره ؛ وهو كما روي عن النبي عليه السلام : " إنَّ عَبْداً لو أطاع الله مِنْ وَرَاءِ سَبْعَيْنَ حِجَاباً لأظْهَرَ الله لَهُ ذَلِكَ عَلى أَلْسِنَة الناسِ وكَذَلِكَ المَعْصِيَةُ " . ورُوي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام : " قل لبني إسرائيلَ يُخْفُوا لي أعمالَهُمْ وعلي أن أُظْهِرَها " .
وقوله تعالى : { والله مخرج ما كنتم تكتمون } عام والمراد خاص ، لأن كلهم ما علموا بالقاتل بعينه ولذلك اختلفوا . وجائز أن يكون قوله : { والله مخرج ما كنتم تكتمون } عاماً في سائر الناس لأنه كلام مستقل بنفسه وهو عام فيهم وفي غيرهم .
وفي هذه القصة - سوى ما ذكرنا- حرمان ميراث المقتول ، روى أبو أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة السلماني " أن رجلاً من بني إسرائيل كان له ذو قرابة وهو وارثه ، فقتله ليرثه ، ثم ذهب فألقاه على باب قوم آخرين وذكر قصة البقرة وذكر بعدها فلم يُوَرَّثْ بعدها قاتل .
وقد اختلف في ميراث القاتل ، ورُوي عن عمر وعلي وابن عباس وسعيد بن المسيب أنه لا ميراث له سواء كان القتل عمداً أو خطأ ، وأنه لا يرث من دِيَتِهِ ولا من سائر ماله . وهو قول أبي حنيفة والثوري وأبي يوسف ومحمد وزُفَر . إلا أن أصحابنا قالوا : إن كان القاتل صبيّاً أو مجنوناً ورث . وقال عثمان البتيّ : قاتل الخطأ يرث دون قاتل العمد . وقال ابن شبرمة : لا يرث قاتل الخطأ . وقال ابن وهب عن مالك : لا يرث القاتل عمداً من دية من قتل شيئاً ولا من ماله ، وإن قتله خطأ وَرِثَ من ماله ولم يرث من دِيته . ورُوي مثله عن الحسن ومجاهد والزهري ، وهو قول الأوزاعي . وقال المزني عن الشافعي : إذا قتل الباغي العادل أو العادل الباغي لا يتوارثان لأنهما قاتلان .
قال أبو بكر : لم يختلف الفقهاء في أن قاتل العمد لا يرث المقتول إذا كان بالغاً عاقلاً بغير حقّ ؛ واختلف في قاتل الخطأ على الوجوه التي ذكرنا ، وقد حدثنا عبد الباقي قال : حدثنا أحمد بن محمد بن عنبسة بن لقيط الضبي قال : حدثنا علي بن حجر قال : حدثنا إسماعيل بن عياش عن ابن جريج والمثنى ويحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَيْسَ للقَاتِلِ مِنَ المِيراثِ شَيْءٌ " .
وحدثنا عبد الباقي قال : حدثنا موسى بن زكريا التستري قال : حدثنا سليمان بن داود قال : حدثنا حفص بن غياث عن الحجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب عن النبي عليه السلام قال : " لَيْسَ للقَاتِل شَيْءٌ " .
وروى الليث عن إسحاق بن عبدالله بن أبي فروة عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " القاتلُ لا يَرثُ " .
وروى يزيد بن هارون قال : حدثنا محمد بن راشد عن مكحول قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " القَاتِلُ عمداً لا يَرِثُ مِنْ أخيه ولا مِنْ ذي قَرَابَتِهِ شيئاً ويَرِثُ أقْرَبُ الناسِ إليه نَسَباً بَعْدَ القَاتِلِ " .
وروى حصن بن ميسرة قال : حدثني عبد الرحمن بن حرملة عن عدي الجذامي قال : قلت : يا رسول الله كان لي امرأتان فاقتتلتا فرميت إحديهما ؟ فقال : " اعْقِلْها ولا تَرِثْها " .
فثبت بهذه الأخبار حرمان القاتل ميراثه من سائر مال المقتول ؛ وأنه لا فرق في ذلك بين العامد والمخطىء لعموم لفظ النبي عليه السلام فيه .
وقد استعمل الفقهاء هذا الخبر وتلقوه بالقبول فجرى مجرى التواتر ، كقوله عليه السلام : " لا وَصِيّةَ لوارِثٍ " . وقوله : " لا تُنكحُ المرأةُ عَلَى عَمَّتها ولا عَلَى خَالَتها " . و " إذا اختلف البَيعان فالقَوْلُ ما قاله البائع أو يترادَّان " . وما جرى مجرى ذلك من الأخبار التي مخرجها من جهة الإفراد وصارت في حيز التواتر لتلقّي الفقهاء لها بالقبول من استعمالهم إياها فجاز تخصيص آية المواريث بها .
ويدلّ على تسوية حكم العامد والمخطىء في ذلك ما روي عن عليّ وعمر وابن عباس من غير خلاف من أحد من نظرائهم عليهم . وغيرُ جائزٍ فيما كان هذا وَصْفُه من قول الصحابة في شُيُوعه واستفاضته أن يُعْترض عليه بقول التابعين .
ولما وافق مالك على أنه لا يرث من دِيَتِه وَجَبَ أن يكون ذلك حكم سائر ماله من وجوه ، أحدها : أن ديَتَه مَالُه وميراثٌ عنه بدليل أنه تُقْضَى منها ديونُهُ وتنفذ منها وصاياه ويرثها سائر ورثته على فرائض الله تعالى كما يرثون سائر أمواله ، فلما اتفقوا على أنه لا يرث من دِيتَهِ كان ذلك حكم سائر ماله في الحرمان كما أنه إذا ورث من سائر ماله ورث من ديته ؛ فمن حيث كان حكم سائر ماله حكم ديته في الاستحقاق وجب أن يكون حكم سائر ماله حكم ديته في الحرمان ، إذ كان الجميع مستحقاً على سهام ورثته وأنه مبدوء به في الدين على الميراث .
ومن جهة أخرى أنه لما ثبت أنه لا يرث من ديته لما اقتضاه الأثرُ ، وَجَبَ أن يكون حكم سائر ماله كذلك ، لأن الأثر لم يفصل في وروده بين شيء من ذلك . وقال مالك : إنما ورث قاتل الخطأ من سائر ماله سوى الدية لأنه لا يُتَّهم أن يكون قتله لِيَرِثَهُ . وهذه العلة موجودة في ديته ، لأنها من التهمة أبْعَدُ ، فواجب على مقتضى علّته أن يرث من ديته .
ومن جهة أخرى أنهم لا يختلفون في قاتل العمد وشبه العمد أنه لا يرث سائر ماله كما لا يرث من ديته إذا وجبت ، فوجب أن يكون ذلك حكم قاتل الخطأ لا تفاقهما في حرمان الميراث من ديته . وأيضاً إذا كان قتل العمد وشبه العمد إنما حُرِما الميراث للتُّهمةِ في إحراز الميراث بقلته فهذا المعنى موجود في قتل الخطأ ، لأنه يجوز أن يكون إنما أظهر رَمْيَ غيره وهو قاصدٌ به قَتْلَهُ لئلا يقاد منه ولا يحرم الميراث ، فلما كانت التهمة موجودة من هذا الوجه وجب أن يكون في معنى العمد وشبهه . وأيضاً توريثه بعض الميراث دون بعض خارج من الأصول ، لأن فيها أن من ورِثَ بعض تَرِكَةٍ ورث جميعها ومن حُرِم بعضها حرم جميعها . وإنما قال أصحابنا : إن الصبيّ والمجنون لا يُحرمان الميراث بالقتل من قِبَل أنهما غير مكلَّفيْنِ وحرمان الميراث على وجه العقوبة في الأصول فأُجريَ قاتل الخطأ مجراه وإن لم يستحق العقاب بقتل الخطأ تغليظاً لأمر الدم ، ويجوز أن يكون قد قصد القتل برميه أو بضربه وأنه أوهم أنه قاصد لغيره فاُجْرِيَ في ذلك مجرى من عُلم منه ذلك ، والصبيُّ والمجنونُ على أي وجه كان منهما ذلك لا يَستحقّان الدم ، قال النبي عليه السلام : " رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثٍ : عن النائِمِ حتَّى يَنْتَبِهَ ، وعن المجنونِ حتى يفيقَ وعَنِ الصبيِّ حتى يَحْتَلِم " .
قال أبو بكر رحمه الله : فظاهر هذا الخبر يقتضي سقوط حكم قتله رأساً من سائر الوجوه ، ولولا قيام الدلالة لما وجبت الدية أيضاً .
فإن قيل : فإنه يحرم النائم الميراث إذا انقلب على صبي فقتله ؟ قيل له : هو مثل قاتل الخطأ يجوز أن يكون أظهر أنه نائم ولم يكن نائماً في الحقيقة . وأما قول الشافعي في العادل إذا قتل الباغي حرم الميراث ، فلا وَجْهَ له ، لأنه قتله بحق وقد كان الباغي مستحقّاً للقتلِ ، فغير جائز أن يُحرمَ الميراث . ولا نعلم خلافاً أن من وجب له القَوَدُ على إنسان فقتله قَوَداً أنه لا يحرم الميراث . وأيضاً فلو كان قتل العادل الباغي يحرمه الميراث لوجب أنه إذا كان محارباً فاستحقَّ القتل حَدّاً أن لا يكون ميراثُهُ لجماعة المسلمين ، لأن الإمام قام مقام الجماعة في إجراء الحكم عليه فكأنهم قتلوه ، فلما كان المسلمون هم المستحقين لميراث من ذكرنا أمره وإن كان الإمام قام مقامَهُمْ في قَتْلِهِ ثَبَتَ بذلك أنّ من قتل بحقٍّ لا يحرم قاتله ميراثه .
وقال أصحابنا في حافر البئر وواضع الحجر في الطريق إذا عطب به إنسان : إنه لا يحرم الميراث ، لأنه غير قاتل في الحقيقة ، إذ لم يكن فاعلاً للقتل ولا لسبب اتصل بالمقتول ؛ والدليل على ذلك أن القتل على ثلاثة أوجه : عمد ، وخطأ ، وشبه العمد ؛ وحافر البئر وواضع الحجر خارج عن ذلك ، فإن قيل : حفر البئر ووضع الحجر سبب للقتل كالرامي والجارح أنهما قاتلان لفعلهما السبب ؟ قيل له : الرمْيُ وما تولّج منه من مرور السهم هو فعله وبه حصل القتل ، وكذلك الجرح فعله فصار قاتلاً به لاتصال فعله بالمقتول ؛ وعثار الرجل بالحجر ووقوعه في البئر ليس من فعله فلا يجوز أن يكون به قاتلاً .