قوله تعالى : { وَأَذِّنْ في النَّاسِ بالحَجِّ } . روى معتمر عن ليث عن مجاهد في قوله تعالى : { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ } قال إبراهيم عليه السلام : وكيف أؤذنهم ؟ قال : يا أيها الناس أجيبوا يا أيها الناس أجيبوا ! قال : فقال : يا أيها الناس أجيبوا ! فصارت التلبية لبَّيْكَ اللهم لبَّيْكَ . وروى عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : " لما ابتنى إبراهيمُ عليه السلام البيت قال : أوحى الله إليه أن أذِّنْ في الناس بالحج ، فقال إبراهيم عليه السلام : إن ربكم قد اتخذ بيتاً وأمركم أن تحجّوه ، فاستجاب له ما سمعه من صخر أو شجر أو أكمة أو تراب أو شيء لبيك اللهم لبيك " .
وهذه الآية تدل على أن فرض الحج كان في ذلك الوقت ؛ لأن الله تعالى أمر إبراهيم بدعاء الناس إلى الحجّ وأمْرُهُ كان على الوجوب ، وجائز أن يكون وجوب الحج باقياً إلى أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وجائز أن يكون نُسخ على لسان بعض الأنبياء ؛ إلا أنه قد رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم حجَّ قبل الهجرة حَجَّتين وحجّ بعد الهجرة حَجَّةَ الوداع ، وقد كان أهل الجاهلية يحجّون على تخاليط وأشياء قد أدخلوها في الحج ويلبّون تلبية الشرك ، فإن كان فرض الحج الذي أمر الله به إبراهيم في زمن إبراهيم باقياً حتى بُعث النبي صلى الله عليه وسلم فقد حجَّ النبي صلى الله عليه وسلم حجتين بعدما بعثه قبل الهجرة والأولى فيهما هي الفرض ، وإن كان فرض الحج منسوخاً على لسان بعض الأنبياء فإن الله تعالى قد فرضه في التنزيل بقوله : { ولله على الناس حِجُّ البيت من استطاع إليه سبيلاً } [ آل عمران : 97 ] . وقيل إنها نزلت في سنة تسع ، ورُوي أنها نزلت في سنة عشر ، وهي السنة التي حجَّ فيها النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا أشبه بالصحة لأنا لا نظنّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم تأخير الحج المفروض عن وقته المأمور فيه ، إذْ كان النبي صلى الله عليه وسلم من أشدّ الناس مسارعةً إلى أمر الله وأسبقهم إلى أداء فروضه ؛ ووصف الله تعالى الأنبياء السالفين فأثْنَى عليهم بمسابقتهم إلى الخيرات بقوله تعالى : { كانوا يسارعون إلى الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين } [ الأنبياء : 90 ] فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليتخلَّفَ عن منزلة الأنبياء المتقدمين في المسابقة إلى الخيرات بل كان حظه منها أوْفَى من حظّ كل أحد لفضله عليهم وعُلُوِّ منزلته في درجات النبوة ، فغير جائز أن يُظَنَّ به تأخيرُ الحج عن وقت وجوبه ، لا سيّما وقد أمر غيره بتعجيله فيما رَوَى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مَنْ أَرَادَ الحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ " ، فلم يكن النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليأمر غيره بتعجيل الحجّ ويؤخره عن وقت وجوبه ، فثبت بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤخر الحج عن وقت وجوبه . فإن كان فرض الحج لزم بقوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت } [ آل عمران : 97 ] لأنه لم يَخْلُ تاريخ نزوله من أن يكون في سنة تسع أو سنة عشر ؛ فإن كان نزوله في سنة تسع فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخَّره لعذر وهو أن وقت الحج اتفق على ما كانت العرب تحجّه من إدخال النسيء فيه فلم يكن واقعاً في وقت الحج الذي فرضه الله تعالى فيه ، فلذلك أخّر الحج عن تلك السنة ليكون حجة في الوقت الذي فرض الله فيه الحج ليحضر الناس فيقتدوا به . وإن كان نزوله في سنة عشر فهو الوقت الذي حجَّ فيه النبي صلى الله عليه وسلم . وإن كان فَرْضُ الحج باقياً منذ زمن إبراهيم عليه السلام إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإن الحجَّ الذي فعله قبل الهجرة كان هو الفرض وما عداه نفل ، فلم يثبت في الوجهين جميعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم أخّر الحج بعد وجوبه عن أول أحوال الإمكان .
باب الحج ماشياً
رَوَى موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب عن ابن عباس قال : " ما آسَى على شيء إلى أني وَدِدْت أني كنت حججت ماشياً ؛ لأن الله تعالى يقول : { يَأْتُوكَ رِجَالاً } " . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد : " أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام حجّا ماشيين " . وروى القاسم بن الحكم العُرَني عن عبيدالله الرصافي عن عبدالله بن عتبة عن عمير قال : قال ابن عباس : " ما ندمت على شيء فاتني في شبيبتي إلا أني لم أحُجَّ راجلاً ، ولقد حَجَّ الحسن بن عليّ خمساً وعشرين حجة ماشياً من المدينة إلى مكة وإن النجائب لتقاد معه ، ولقد قاسم الله عز وجل ماله ثلاث مرات إنه ليعطي النعل ويمسك النعل ويعطي الخفَّ ويمسك الخفَّ " . ورَوَى عبدالرزاق عن عمرو بن زرّ عن مجاهد قال : " كانوا يحجّون ولا يركبون ، فأنزل الله تعالى : { رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } " . وروى ابن جريج قال : أخبرني العلاء قال : سمعت محمد بن علي يقول : " كان الحسن بن علي يمشي وتُقاد دوابّه " .
قال أبو بكر : قوله تعالى : { يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ } يقتضي إباحة الحج ماشياً وراكباً ولا دلالة فيه على الأفضل منهما ، وما رويناه عن السلف في اختيارهم الحج ماشياً وتأويل الآية عليه يدلّ على أن الحجَّ ماشياً أفضل ، وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يفصح عن ذلك وهو أن أم عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى بيت الله تعالى فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تركب وتُهدي ، وهذا يدل على أن المشي قربةٌ قد لزمت بالنذر ، لولا ذلك لما أوجب النبي صلى الله عليه وسلم عليها هدياً عند تركها المشي .
قوله تعالى : { يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } ؛ رَوَى جويبر عن الضحاك : { مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } قال : " بلد بعيد " . وقال قتادة : " مكان بعيد " . قال أبو بكر : الفَجُّ الطريق ، فكأنه قال : من طريق بعيد . وقال بعض أهل اللغة : " العمق الذاهب على وجه الأرض والعمق الذاهب في الأرض " . قال رؤبة :
* وقَاتِمِ الأَعْمَاقِ خَاوِي المُخْتَرَقْ *
فأراد بالعمق هذا الذاهب على وجه الأرض ، فالعميق البعيد لذهابه على وجه الأرض ؛ قال الشاعر :
* يَقْطَعْنَ نُورَ النّازِحِ العَمِيقِ *
يعني البعيد . وقد روت أم حكيم بنت أمية عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " مَنْ أَهَلَّ بالمَسْجِدِ الأَقْصَى بعُمْرَةٍ أو بِحَجَّةٍ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " . وروى أبو إسحاق عن الأسود أن ابن مسعود أحرم من الكوفة بعمرة . وعن ابن عباس أنه أحرم من الشام في الشتاء ، وأحرم ابن عمر من بيت المقدس ، وعمران بن حصين أحرم من البصرة . ورَوَى عمرو بن مرة عن عبدالله بن سلمة قال : سئل عليّ عن قوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } [ البقرة : 196 ] قال : " أن تُحْرِمَ بهما من دُوَيْرَةِ أهلك " . وقال علي وعمر : " ما أرى أن يعتمر إلاّ من حيث ابتدأ " . ورُوي عن مكحول قال : قيل لابن عمر : الرجل يحرم من سَمَرْقَنْدَ أو من خُرَاسَانَ أو البصرة أو الكوفة ؟ فقال : " يا ليتنا نَسْلَمُ من وقتنا الذي وُقِّت لنا " ، فكأنه كرهه في هذا الحديث لما يخاف من مواقعة ما يحظره الإحرام لا لبعد المسافة .