باب التجارة في الحج
قال الله تعالى : { ليَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ } . روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : " التجارةَ وما يُرْضي الله من أمر الدنيا والآخرة " . وروى عاصم بن أبي النجود عن أبي رزين عن ابن عباس قال : " أسواق كانت ، ما ذكر المنافع إلا للدنيا " . وعن أبي جعفر : " المغفرة " . قال أبو بكر : ظاهره يوجب أن يكون قد أُريد به منافع الدين وإن كانت التجارة جائزة أن تُراد ؛ وذلك لأنه قال : { وَأَذِّنْ في النَّاسِ بالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ } فاقتضى ذلك أنهم دُعوا وأُمروا بالحج ليشهدوا منافع لهم ، ومحال أن يكون المراد منافع الدنيا خاصة لأنه لو كان كذلك كان الدعاء إلى الحجّ واقعاً لمنافع الدنيا ، وإنما الحجُّ الطوافُ والسعيُ والوقوفُ بعرفة والمزدلفة ونَحْرُ الهدي وسائر مناسك الحج ، ويدخل فيها منافع الدنيا على وجه التَّبَعِ والرخصة فيها دون أن تكون هي المقصودة بالحج ، وقد قال الله تعالى : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم } [ البقرة : 198 ] فجعل ذلك رخصة في التجارة في الحج ، وقد ذكرنا ما رُوي فيه في سورة البقرة .
باب الأيام المعلومات
قال الله عز وجل : { وَيَذْكُرُوا اسْمَ الله في أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ } ، فرُوي عن عليّ وابن عمر أن المعلومات يوم النحر ويومان بعده واذْبَح في أيها شئت ؛ قال ابن عمر : " المعلومات أيام النحر والمعدودات أيام التشريق " . وذكر الطحاوي عن شيخه أحمد بن أبي عمران عن بشر بن الوليد الكندي القاضي قال : كتب أبو العباس الطوسيّ إلى أبي يوسف يسأله عن الأيام المعلومات ، فأملى عليّ أبو يوسف جواب كتابه : اختلف أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ، فرُوي عن عليّ وابن عمر أنها أيام النحر ، وإلى ذلك أذْهَبُ لأنه قال : { عَلَى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ } وذلك في أيام النحر ، وعن ابن عباس والحسن وإبراهيم أن المعلومات أيام العشر والمعدودات أيام التشريق ، وروى معمر عن قتادة مثل ذلك ، وروى ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَاذْكُرُوا الله في أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ } يوم النحر وثلاثة أيام بعده ، وذكر أبو الحسن الكرخي أن أحمد القاري روى عن محمد عن أبي حنيفة أن المعلومات العشر ، وعن محمد أنها أيام النحر الثلاثة يوم الأضحى ويومان بعده ، وذكر الطحاوي أن من قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد أن المعلومات العشر والمعدودات أيام التشريق والذي رواه أبو الحسن عنهم أصحّ . وقد قيل إنه إنما قيل لأيام التشريق معدودات لأنها قليلة ، كما قال تعالى : { وشروه بثمن بخس دراهم معدودة } [ يوسف : 20 ] ، وأنه سماها معدودة لقلتها . وقيل لأيام العشر معلومات حثّاً على علمها وحسابها من أجل أن وقت الحج في آخرها ، فكأنه أمرنا بمعرفة أول الشهر وطلب الهلال فيه حتى نعدّ عشرة ويكون آخرهن يوم النحر . ويُحتجُّ لأبي حنيفة بذلك في أن تكبير التشريق مقصورٌ على أيام العشر مفعولٌ في يوم عرفة ويوم النحر وهما من أيام العشر .
فإن قيل : لما قال : { عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ } دل على أن المراد أيام النحر كما رُوي عن عليّ . قيل له : يحتمل أن يريد بما رزقهم من بهيمة الأنعام ، كما قال : { لِتُكَبِّرُوا الله عَلى ما هَدَاكُمْ } ومعناه : لما هداكم ، وكما تقول : اشكر الله على نعمه ، ومعناه : لنعمه . وأيضاً فيحتمل أن يريد به يوم النحر ويكون قوله تعالى : { عَلَى ما رَزَقَهُمْ } يريد به يوم النحر وبتكرار السنين عليه تصير أياماً . وهذه الآية تدلّ على أن ذبح سائر الهدايا في أيام النحر أفضل منه في غيرها وإن كانت من تطوع أو جزاء صيد أو غيره .
واختلف أهل العلم في أيام النحر ، فقال أصحابنا والثوري : " هو يوم النحر ويومان بعده " . وقال الشافعي : " ثلاثة أيام بعده وهي أيام التشريق " . قال أبو بكر : ورُوي نحو قولنا عن عليّ وابن عباس وابن عمر وأنس بن مالك وأبي هريرة وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب . ورُوي مثل قول الشافعي عن الحسن وعطاء . ورُوي عن إبراهيم النخعي أن النحر يومان . وقال ابن سيرين : " النحر يوم واحد " . وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة وسليمان بن يسار قالا : " الأضحى إلى هلال المحرم " .
قال أبو بكر : قد ثبت عمّن ذكرنا من الصحابة أنها ثلاثة واستفاض ذلك عنهم ، غير جائز لمن بعدهم خلافهم إذْ لم يُرْوَ عن أحد من نظرائهم خلافه فثبتت حجته . وأيضاً فإن سبيل تقدير أيام النحر التوقيف أو الاتفاق ، إذْ لا سبيل إليها من طريق المقاييس ، فلما قال من ذكرنا قوله من الصحابة بالثلاثة صار ذلك توقيفاً ، كما قلنا في مقدار مدة الحيض وتقدير المهر ومقدار التشهد في إكمال فرض الصلاة وما جرى مجراها من المقادير التي طريق إثباتها التوقيف أو الاتفاق إذا قال به قائل من الصحابة ثبتت حجته وكان ذلك توقيفاً . وأيضاً قد ثبت الفرق بين أيام النحر وأيام التشريق ؛ لأنه لو كانت أيامُ النحر أيامَ التشريق لما كان بينهما فرق وكان ذِكْرُ أحد العددين ينوب عن الآخر ، فلما وجدنا الرمي في يوم النحر وأيام التشريق ووجدنا النحر في يوم النحر ، وقال قائلون : إلى آخر أيام التشريق ، وقلنا نحن : يومان بعده ، وجب أن نوجب فرقاً بينهما ، لإثبات فائدة كل واحد من اللفظين وهو أن يكون من أيام التشريق ما ليس من أيام النحر وهو آخر أيامها .
واحتجَّ من جعل النحر إلى آخر أيام التشريق بما روى سليمان بن موسى عن ابن أبي حسين عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كُلُّ عَرَفَاتَ مَوْقِفٌ وارْتَفِعُوا عَنْ عُرَنَةَ ، وكُلُّ مُزْدَلِفَةَ مَوْقِفٌ وارْتَفِعُوا عَنْ مُحَسِّرٍ ، وكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ مَنْحَرٌ وكُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ " ؛ وهذا حديث قد ذُكر عن أحمد بن حنبل أنه سئل عن هذا الحديث فقال : لم يسمعه ابن أبي حسين من جبير بن مطعم وأكثر روايته عن سهو . وقد قيل إن أصله ما رواه مخرمة بن بكير بن عبدالله بن الأشجّ عن أبيه قال : سمعت أسامة بن زيد يقول : سمعت عبدالله بن أبي حسين يخبر عن عطاء بن أبي رباح وعطاء يسمع قال : سمعت جابر بن عبدالله يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ وكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ وكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ طَرِيقٌ ومَنْحَرٌ " ، فهذا أصل الحديث ، ولم يذكر فيه : " وكُل أيام التشريق ذبح " ، ويشبه أن يكون الحديث الذي ذكر فيه هذا اللفظ إنما هو من كلام جبير بن مطعم أو مَنْ دونه ؛ لأنه لم يذكره . وأيضاً لما ثبت أن النحر فيما يقع عليه اسم الأيام وكان أقلّ ما يتناوله اسم الأيام ثلاثة وجب أن يثبت الثلاثة ، وما زاد لم تقم عليه الدلالة فلم يثبت .
في التسمية على الذبيحة
قال الله تعالى : { وَيَذْكُرُوا اسْمَ الله في أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ } فإن كان المراد بهذا الذكر التسمية على الذبيحة فقد دلّ ذلك على أن ذلك من شرائط الذكاة لأن الآية تقتضي وجوبها ؛ وذلك لأنه قال : { وَأَذِّنْ في النَّاسِ بالحَجِّ } إلى قوله : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ الله في أَيّامٍ مَعْلُومَاتٍ } فكانت المنافع هي أفعال المناسك التي يقتضي الإحرام إيجابَها ، فوجب أن تكون التسمية واجبة إذْ كان الدعاء إلى الحجّ وقع لها كوقوعها لسائر مناسك الحج ، وإن كان المراد بالتسمية هي الذكر المفعول عند رمي الجمار أو تكبير التشريق فقد دلّت الآية على وجوب هذا الذكر ؛ وليس يمتنع أن يكون المراد جميع ذلك وهو التسمية على الهدايا الموجبة بالإحرام للقران أو التمتع وما تعلق وجوبها بالإحرام ويراد بها تكبير التشريق والذّكْر المفعول عند رمي الجمار ، إذ لم تكن إرادة جميع ذلك ممتنعة بالآية . وروى معمر عن أيوب عن نافع قال : " كان ابن عمر يقول حين ينحر : لا إله إلاّ الله والله أكبر " . وروى الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال : " قلت : كيف تقول إذا نحرت ؟ قال : أقول الله أكبر لا إله إلا الله " . وروى سفيان عن أبي بكر الزبيدي عن عاصم بن شريف : " أن عليّاً ضحَّى يوم النحر بكبش فقال : بسم الله والله أكبر اللهمّ منك ولك ومِنْ عليٍّ لك " .
باب في أكل لحوم الهدايا
قال الله عز وجل : { وَيَذْكُرُوا اسْمَ الله في أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا } . قال أبو بكر : ظاهره يقتضي إيجاب الأكل ، إلاّ أن السلف متفقون على أن الأكل منها ليس على الوجوب ؛ وذلك لأن قوله : { عَلَى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ } لا يخلو من أن يكون المراد به الأضاحي وهَدْيَ المتعة والقران والتطوع أو الهدايا التي تجب من جنايات تقع من المحرم في الإحرام نحو جزاء الصيد وما يجب على اللابس والمتطيب وفدية الأذى وهَدْي الإحصار ونحوها ، فأما دماء الجنايات فمحظور عليه الأكل منها ، وأما دم القران والمتعة والتطوع فلا خلاف أيضاً أن الأكل منها ليس بواجب ؛ لأن الناس في دم القِرَانِ والمتعة على قولين منهم من لا يجيز الأكل منه ومنهم من يبيح الأكل منه ولا يوجبه ، ولا خلاف بين السلف ومن بعدهم من الفقهاء أن قوله : { فَكُلُوا مِنْها } ليس على الوجوب ؛ وقد رُوي عن عطاء والحسن وإبراهيم ومجاهد قالوا : " إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل " ، قال مجاهد : إنما هو بمنزلة قوله تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } . وقال إبراهيم : كان المشركون لا يأكلون من البُدْنِ حتى نزلت : { فَكُلُوا مِنْها } فإن شاء أكل وإن شاء لم يأكل . وروى يونس بن بكير عن أبي بكر الهذلي عن الحسن قال : " كان الناس في الجاهلية إذا ذبحوا لطّخوا بالدم وجه الكعبة وشرَّحوا اللحم ووضعوه على الحجارة وقالوا لا يحل لنا أن نأكل شيئاً جعلناه لله حتى تأكله السباع والطير ، فلما جاء الإسلام جاء الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : شيئاً كنا نصنعه في الجاهلية ألا نصنعه الآن فإنما هو لله ؟ فأنزل الله تعالى : { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا } ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تَفْعَلُوا فإنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لله " . وقال الحسن : فلم يعزم عليهم الأكل فإن شئت فَكُلْ وإن شئت فدَعْ ؛ وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكل من لحم الأضحية .
قال أبو بكر : وظاهر الآية يقتضي أن يكون المذكور في هذه الآية من بهيمة الأنعام التي أمرنا بالتسمية عليها هي دم القِرَانِ والمتعة ، وأقلّ أحوالها أن تكون شاملة لدم القران والمتعة وسائر الدماء وإن كان الذي يقتضيه ظاهره دم المتعة والقران ، والدليل على ذلك قوله تعالى في نسق التلاوة : { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بالبَيْتِ العَتِيقِ } ولا دم تترتّب عليه هذه الأفعال إلاّ دم المتعة والقران ، إذ كان سائر الدماء جائزاً له فعلها قبل هذه الأفعال وبعدها ، فثبت أن المراد بها دم القران والمتعة . وزعم الشافعي أن دم المتعة والقران لا يؤكل منهما ؛ وظاهر الآية يقتضي بطلان قوله . وقد روى جابر وأنس وغيرهما : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً في حجة الوداع " . وروى جابر أيضاً وابن عباس : " أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى في حجة الوداع مائة بدنة ، نَحَر بيده منها ستين وأمر ببقيتها فنُحرت وأخذ من كل بَدَنَةٍ بضعة فجمعت في قدر وطُبخت وأَكل منها وتحسَّى من المرقة فأكل صلى الله عليه وسلم من دم القران " . وأيضاً لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قَارِناً وأنه لم يكن ليختار من الأعمال إلا أفضلها فثبت أن القران أفضَلُ من الإفراد وأن الدم الواجب به إنما هو نُسُكٌ وليس بجبران لنقص أدخله في الإحرام ، ولما كان نسكاً جاز الأكل منه كما يأكل من الأضاحي والتطوع . ويدل على أنه كان قارناً أن حفصة قالت : يا رسول الله ما بال الناس حلّوا ولم تحلَّ أنتَ من عمرتك ؟ فقال : " إنّي سُقْتُ الهَدْيَ فلا أُحِلُّ إلاّ يَوْمَ النَّحْرِ ، ولَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُهُ ما سُقْتُ الهَدْيَ ولَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً " ، فلو كان هدية تطوعاً لما منعه الإحلال ؛ لأن هدي التطوع لا يمنع الإحلال .
فإن قيل : إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قارناً فقد كان إحرام الحج يمنعه الإحلال ، فلا تأثير للهدي في ذلك . قيل له : لم يكن إحرامُ الحجّ مانعاً في ذلك الوقت من الإحلال قبل يوم النحر ؛ لأن فسخ الحج كان جائزاً ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه الذين أَحرموا بالحجّ أن يتحللوا بعمل عمرة ، فكانوا في ذلك الوقت بمنزلة المتمتع الذي يحرم بالعمرة مفرداً بها ، فلم يكن يمتنع الإحلال فيما بينها وبين إحرام الحج إلا أن يسوق الهدي فيمنعه ذلك من الإحلال ، وهذه كانت حالُ النبي صلى الله عليه وسلم في قرانه وكان المانع له من الإحلال سَوْق الهدي دون إحرام الحج ، وفي ذلك دليل على صحة ما ذكرنا من أن هَدْيَ النبي صلى الله عليه وسلم كان هَدْيَ القران لا التطوع إذْ لا تأثير لهدي التطوع في المنع من الإحلال بحال . ويدل على أنه كان قارناً قوله صلى الله عليه وسلم : " أتاني آتٍ مِنْ رَبِّي في هَذَا الوَادِي المُبَارَكِ وقَالَ قُلْ حَجَّةً وعُمْرَةً " ؛ ويمتنع أن يخالف ما أمره به ربه . ورواية ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج لا يعارض رواية من روى القِرَانَ ؛ وذلك لأن راوي القِرَانِ قد علم زيادة إحرام لم يعلمه الآخر فهو أوْلى ، وجائز أن يكون راوي الإفراد سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ " ولم يسمعه يذكر العمرة ، أو سمعه ذكر الحجَّ دون العمرة وظنّ أنه مُفْرِدٌ ، إذ جائز للقارن أن يقول لبيك بحجة دون العمرة وجائز أن يقول لبيك بعمرة وجائز أن يلبي بهما معاً ، فلما كان ذلك سائغاً وسمعه بعضهم يلبّي بالحج وبعضهم سمعه يلبّي بحج وعمرة كانت راوية من روى الزيادة أوْلى . وأيضاً فإنه يحتمل أن يريد بقوله أفْرَدَ الحج أفعالَ الحج ، وأفاد أنه أفرد أفعال الحج وأفرد أفعال العمرة ولم يقتصر للإحرامين على فِعْلِ الحج دون العمرة ، وأبطل بذلك قول من يجيز لهما طوافاً واحداً وسعياً واحداً .
وقد رُوي عن جماعة من الصحابة والتابعين الأكْلُ من هَدْي القران والمتعة . وروى عطاء عن ابن عباس قال : " من كلّ الهدي يؤكل إلا ما كان من فداء أو جزاء أو نذر " . وروى عبيد الله بن عمر قال : " لا يؤكل من جزاء الصيد والنذر ويؤكل مما سوى ذلك " . وروى هشام عن الحسن وعطاء قالا : " لا يؤكل من الهدي كله إلا الجزاء " . فهؤلاء الصحابة والتابعون قد أجازوا الأكل من دم القران والتمتع ، ولا نعلم أحداً من السلف حظره .
قوله تعالى : { وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ } . روى طلحة بن عمرو عن عطاء : { وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ } قال : " من سألك " . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : " البائس الذي يسأل بيده إذا سأل " . وإنما سُمّي من كانت هذه حاله بائساً لظهور أثر البؤس عليه بأن يمدّ يده للمسألة ، وهذا على جهة المبالغة في الوصف له بالفقر ، وهو في معنى المسكين لأن المسكين من هو في نهاية الحاجة والفقر ، وهو الذي قد ظهر عليه السكون للحاجة وسوء الحال ، وهو الذي لا يجد شيئاً ؛ وقيل : هو الذي يسأل . وهذه الآية قد انتظمت سائر الهدايا والأضاحي وهي مقتضية لإباحة الأكل منها والندب إلى الصدقة ببعضها . وقدّر أصحابنا فيه الصدقة بالثلث ، وذلك لقوله تعالى : { فَكُلُوا مِنْهَا وأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ } ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم في لحوم الأضاحي : " فكُلُوا وادَّخِرُوا " فجعلوا الثلث للأكل والثلث للادخار والثلث للبائس الفقير . وفي قوله تعالى : { فَكُلُوا مِنْهَا وأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ } دلالةٌ على حَظْرِ بيعها ، ويدلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " فكُلُوا وادَّخِرُوا " وفي ذلك منع البيع . ويدل عليه ما رَوَى سفيان عن عبدالكريم الجزري عن مجاهد عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن علي قال : أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بُدْنِهِ وقال : " اقْسِمْ جُلُودَهَا وجِلاَلَها ولا تُعْطِ الجَازِرَ مِنْهَا شيئاً فإنَّا نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا " ، فمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعْطَى منها أجرة الجازر ، وفي ذلك منع من البيع ؛ لأن إعطاء الجازر ذلك من أجرته هو على وجه البيع . ولما جاز الأكل منها دل على جواز الانتفاع بجلودها من غير جهة البيع ؛ ولذلك قال أصحابنا : " يجوز الانتفاع بجلد الأضحية " ، ورُوي ذلك عن عمر وابن عباس وعائشة . وقال الشعبي : كان مسروق يتخذ مَسْكَ أضحيته مصلًّى فيصلّي عليه . وعن إبراهيم وعطاء وطاوس والشعبي : أنه ينتفع به .
قال أبو بكر : ولما منع النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعْطَى الجازرُ من الهدي شيئاً في جزارتها وقال : " إِنّا نعطيه مِنْ عِنْدِنا " دلّ ذلك على معنيين ، أحدهما : أن المحظور من ذلك أن يعطيه منها على وجه الأجرة لأن في بعض ألفاظ حديث عليّ : " وأمرني أن لا أعطي أجر الجزار منها " وفي بعضها : " أن لا أعطيه في جزارتها منها شيئاً " فدل على أنه جائز أن يعطي الجزار من غير أجرته كما يعطي سائر الناس . وفيه دليل على جواز الإجارة على نحر البُدْنِ ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنا " وهو أصْلٌ في جواز الإجارة على كل عمل معلوم . وأجاز أصحابنا الإجارة على ذبح شاة ، ومنع أبو حنيفة الإجارة على قتل رجل بقصاص ؛ والفرق بينها أن الذبح عمل معلوم والقتل مبهم غير معلوم ولا يدري أيقتله بضربة أو بضربتين أو أكثر .