قال الله تعالى : { الزَّانِيَةُ والزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } . قال أبو بكر : لم يختلف السلف في أن حدَّ الزانيين في أول الإسلام ما قال الله تعالى : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } [ النساء : 15 ] إلى قوله : { واللذان يأتيانها منكم فآذوهما } [ النساء : 16 ] ، فكان حَدُّ المرأة الحَبْسَ والأَذَى بالتعيير ، وكان حدُّ الرجل التعيير ، ثم نُسخ ذلك عن غير المحصن بقوله تعالى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائةَ جَلْدَةٍ } ، ونسخ عن المحصن بالرجم ؛ وذلك لأن في حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم : " خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً البِكْرُ بالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الجَلْدُ والرَّجْمُ " ، فكان ذلك عقيب الحبس والأذى المذكورين في قوله : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } [ النساء : 15 ] إلى قوله : { أو يجعل الله لهن سبيلاً } [ النساء : 25 ] ، وذلك لتنبيه النبي صلى الله عليه وسلم إيّانا على أن ما ذكره من ذلك هو السبيل المراد بالآية ؛ ومعلوم أنه لم تكن بينهما واسطة حكم آخر ، لأنه لو كان كذلك لكان السبيل المجعول لهن متقدماً لقوله صلى الله عليه وسلم بحديث عبادة أن المراد بالسبيل هو ما ذكره دون غيره ، وإذا كان كذلك كان الأذَى والحبس منسوخَيْنِ عن غير المحصن بالآية وعن المحصن بالسنّة وهو الرجم .
واختلف أهل العلم في حَدِّ المحصن وغير المحصن في الزنا ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد : " يُرجم المحصن ولا يُجلد ويُجلد غيرُ المحصن ، وليس نَفْيُهُ بحدّ وإنما هو موكول إلى رأي الإمام إن رأى نَفْيَه للدعارة فَعَلَ كما يجوز حبسه حتى يُحْدِثَ توبة " .
وقال ابن أبي ليلى ومالك والأوزاعي والثوري والحسن بن صالح : " لا يجتمع الجلد والرجم " مثل قول أصحابنا ؛ واختلفوا في النفي بعد الجلد ، فقال ابن أبي ليلى : " يُنفى البكر بعد الجلد " ، وقال مالك : " يُنفى الرجل ولا تُنفى المرأة ولا العبد ، ومن نُفي حُبِسَ في الموضع الذي ينفى إليه " ، وقال الثوري والأوزاعي والحسن بن صالح والشافعي : " ينفى الزاني " ، وقال الأوزاعي : " ولا تنفى المرأة " وقال الشافعي : " ينفى العبد نصف سنة " .
والدليل على أن نَفْيَ البِكْرِ الزاني ليس بحدّ أن قوله تعالى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } يوجب أن يكون هذا هو الحدّ المستحق بالزنا وأنه كمال الحدّ ، فلو جعلنا النفي حدّاً معه لكان الجلد بعض الحدّ وفي ذلك إيجاب نسخ الآية ، فثبت أن النفي إنما هو تَعْزِيرٌ وليس بحَدٍّ .
ومن جهة أخرى أن الزيادة في النصّ غير جائزة إلا بمثل ما يجوز به النسخ ، وأيضاً لو كان النفي حدّاً مع الجلد لكان من النبيّ صلى الله عليه وسلم عند تلاوته تَوْقِيفٌ للصحابة عليه لئلا يعتقدوا عند سماع التلاوة أن الجلد هو جميع حَدِّه ، ولو كان كذلك لكان وُرُودُهُ في وزن ورود نقل الآية ، فلما لم يكن خبر النفي بهذه المنزلة بل كان وروده من طريق الآحاد ثبت أنه ليس بحدّ .
وقد رُوي عن عمر أنه غرَّبَ ربيعه بن أمية بن خلف في الخمر إلى خيبر فلحق بهِرَقْلَ ، فقال عمر : " لا أغرِّبُ بعدها أحداً " ولم يَسْتَثْنِ الزنا . ورُوي عن عليّ أنه قال في البِكْرَيْنِ إذا زنيا : " يجلدان ولا ينفيان وإنّ نَفْيَهما من الفتنة " . وروى عبيدالله عن نافع عن ابن عمر : " أن أمَةً له زنت ، فجلدها ولم يَنْفِها " .
وقال إبراهيم النخعي : " كفى بالنفي فتنةً " . فلو كان النفيُ ثابتاً مع الجلد على أنهما حَدُّ الزاني لما خَفِيَ على كبراء الصحابة ، ويدلّ على ذلك ما روى أبو هريرة وشبل وزيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأَمَةِ : " إذا زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا ، فإنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوها ، ثمَّ إِنْ زَنَتْ فاجْلِدُوهَا ، ثمَّ بِيعُوهَا ولو بِضَفِيرٍ " .
وقد حَوَى هذا الخبر الدلالة من وجهين على صحة قولنا ، أحدهما : أنه لو كان النفي ثابتاً لذكره مع الجلد ، والثاني : أن الله تعالى قال : { فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } [ النساء : 25 ] ، فإن كان جَلْدُ الأَمَةِ نِصْفَ حَدِّ الحرة وأخبر صلى الله عليه وسلم في حدّها بالجلد دون النفي دلَّ ذلك على أن حَدَّ الحرة هو الجلد ولا نفي فيه .
فإن قيل : إنما أراد بذلك التأديث دون الحد ، وقد رُوي عن ابن عباس أن الأَمَةَ إذا زنت قبل أن تُحْصِنَ أنه لا حدَّ عليها لقوله تعالى : { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } [ النساء : 25 ] . قيل له : قد رَوَى سعيد المَقْبُريُّ عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ ولا يُثَرِّبْ عليها " قال ذلك ثلاث مرات ، ثم قال في الثالثة أو الرابعة : " ثُمَّ لْيَبِعْهَا ولو بِضَفِيرٍ " ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " بِعْهَا وَلو بضَفِير " يدلّ على أنها لا تُنفى ؛ لأنه لو وجب نَفْيُها لما جاز بيعها ، إذ لا يمكن المشتري تسلمها لأن حكمها أن تنفى .
فإن قيل : في حديث شعبة عن قتادة عن الحسن عن حِطّان بن عبدالله عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً : البِكْرُ بالبِكْرِ والثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ ، البِكْرُ يُجْلَدُ ويُنْفَى والثَّيِّبُ يُجْلَدُ ويُرْجَمُ " ، وروى الحسن عن قبيصة بن ذؤيب عن سلمة بن المحبق عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ؛ وحديث الزُّهْري عن عبيدالله بن عبدالله عن أبي هريرة وزيد بن خالد : أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن ابني كان عَسِيفاً على هذا فزَنَى بامرأته فافتديته منه بوليدةٍ ومائة شاةٍ ، ثم أخبرني أهل العلم أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم ، فاقْضِ بيننا بكتاب الله تعالى ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُما بكِتَابِ الله ! أَمَّا الغَنَمُ والوَلِيدَةُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ وَأَمّا ابْنُكَ فإِنَّ عَلَيْهِ جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ " ثم قال لرجل من أَسْلَمَ : " اغْدُ يا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فإنِ اعْتَرَفَتْ فارْجُمْهَا " . قيل له : غير جائز أن نزيد في حكم الآية بأخبار الآحاد لأنه يوجب النسخ ، لا سيما مع إمكان استعمالها على وجه لا يوجب النسخ ، فالواجب إذا كان هكذا حمله على وجه التعزير لا أنه حدّ مع الجلد ، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت نَفْيَ البكر لأنهم كانوا حديثي عهد بالجاهلية فرأى رَدْعَهُم بالنفي بعد الجلد كما أمر بشقِّ روايا الخمر وكسر الأواني لأنه أَبْلَغُ في الزجر وأَحْرَى بقطع العادة . وأيضاً فإن حديث عبادة واردٌ لا محالة قبل آية الجلد ؛ وذلك لأنه قال : " خُذُوا عَنّي قَدْ جَعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً " فلو كانت الآية قد نزلت قبل ذلك لكان السبيل مجعولاً قبل ذلك ولما كان الحكم مأخوذاً عنه بل عن الآية ، فثبت بذلك أن آية الجلد إنما نزلت بعد ذلك وليس فيها ذكر النفي ، فوجب أن يكون ناسخاً لما في حديث عبادة من النفي إن كان النفي حَدّاً .
ومما يدل على أن النفي على وجه التعزير وليس بحدٍّ أن الحدود معلومة المقادير والنهايات ولذلك سميت حدوداً لا تجوز الزيادة عليها ولا النقصان منها ، فلما لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم للنفي مكاناً معلوماً ولا مقداراً من المسافة والبعد علمنا أنه ليس بحدّ وأنه موكول إلى اجتهاد الإمام ، كالتعزير لما لم يكن له مقدار معلوم كان تقديره موكولاً إلى رأي الإمام ، ولو كان ذلك حدّاً لذكر النبي صلى الله عليه وسلم مسافة الموضع الذي يُنْفَى إليه كما ذكر توقيت السنة لمدة النفي .
وأما الجمع بين الجلد والرجم للمحصن فإن فقهاء الأمصار متّفقون على أن المحصن يُرجم ولا يُجلد ، والدليل على صحة ذلك حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في قصة العَسِيفِ وأن أبا الزاني قال : سألت رجلاً من أهل العلم فقالوا على امرأة هذا الرجم ؛ فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم بل عليها الرجم والجلد ، وقال لأُنَيْس : " اغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا " ولم يذكر جلداً ، ولو وجب الجلد مع الرجم لذكره له كما ذكر الرجم . وقد وردت قصة ماعز من جهات مختلفة ولم يذكر في شيء منها مع الرجم جَلْدٌ ، ولو كان الجلد حدّاً مع الرجم لجلده النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولو جلده لنُقِلَ كما نُقل الرجم ، إذ ليس أحدهما بأوْلى بالنقل من الآخر . وكذلك في قصة الغامدية حين أقرَّتْ بالزنا فرجمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن وضعت ولم يذكر جلداً ، ولو كانت جُلدت لنُقل . وفي حديث الزهري عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة عن ابن عباس قال : قال عمر : " قد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلّوا بترك فريضة أنزلها الله ، وقد قرأنا : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده " ، فأخبر أن الذي فرضه الله هو الرجم وأنّ النبي صلى الله عليه وسلم رجم ، ولو كان الجلد واجباً مع الرجم لذكره .
واحتجّ من جمع بينهما بحديث عبادة الذي قدّمناه وقوله : " الثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ الجَلْدُ والرَّجْمُ " ، وبما رَوَى ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر : " أن رجلاً زنى بامرأة فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فجلد ، ثم أخبر أنه قد أحصن فأمر به فرجم " ، وبما رُوي : " أن عليّاً جلد شراحة الهمدانية ثم رجمها وقال : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
فأما حديث عبادة فإنّا قد علمنا أنه وارد عقيب كون حَدِّ الزانيين الحبس والأذى ناسخاً له لا واسطة بينهما بقوله صلى الله عليه وسلم : " خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ الله لَهنَّ سَبِيلاً " ، ثم كان رَجْمُ ماعز والغامدية وقوله : " واغْدُ يا أُنَيْسُ على امْرَأَةِ هذا فإنِ اعْتَرَفَتْ فارْجُمْهَا " بعد حديث عبادة ، فلو كان ما ذكر في حديث عبادة من الجمع بين الجلد والرجم ثابتاً لاستعمله النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الوجوه . وأما حديث جابر فجائز أن يكون جلده بعض الحدِّ لأنه لم يعلم بإحصانه ، ثم لما ثبت إحصانه رجمه ؛ وكذلك قول أصحابنا . ويحتمل حديث عليّ رضي الله عنه في جَلْدِهِ شراحة ثم رجمها أن يكون على هذا الوجه .
واختلف الفقهاء في الذِّميَّيْنِ هل يُحَدَّان إذا زنيا ؟ فقال أصحابنا والشافعي : " يُحَدَّانَ " إلاّ أنهما لا يُرْجمان عندنا وعند الشافعي يُرجمان إذا كانا محصنَيْنِ ، وقد بينا ذلك فيما سلف ؛ وقال مالك : " لا يحد الذميان إذا زنيا " . قال أبو بكر : وظاهر قوله تعالى : { الزَّانِيَةُ والزَّاني فاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } يوجب الحدَّ على الذميين ، ويدل عليه حديث زيد بن خالد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا " وقوله صلى الله عليه وسلم : " أَقِيمُوا الحُدُودَ على مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ " ، ولم يفرق بين الذميّ والمسلم . وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين ، فلا يخلو ذلك من أن يكون بحكم التوراة أو حكماً مبتدأً من النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن كان رجمهما بحكم التوراة فقد صار شريعة للنبي صلى الله عليه وسلم لأن ما كان من شرائع الأنبياء المتقدمين مُبْقًى إلى وقت النبي صلى الله عليه وسلم فهو شريعة لنبينا صلى الله عليه وسلم ما لم يُنسخ ، وإن كان رجمهما على أنه حكم مبتدأٌ من النبي صلى الله عليه وسلم فهو ثابت إذْ لم يَرِدْ ما يوجب نسخه . والصحيح عندنا أنه رجمهما على أنه شريعة مبتدأةٌ من النبي صلى الله عليه وسلم لا على تبقية حكم التوراة ، والدليل عليه أن حَدَّ الزانيين في أول الإسلام كان الحبس والأذى المحصن وغير المحصن فيه سواء ، فدل ذلك على أن الرجم الذي أوجبه الله في التوراة قد كان منسوخاً .
فإن قيل : فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين وأنت لا ترجمهما فقد خالفتَ الخبر الذي احتججت به في إثبات حد الزنا على الذميين ! قيل له : استدلالنا من خبر رَجْم اليهوديين على ما ذكرنا صحيح ؛ وذلك لأنه لما ثبت أنه رجمهما صَحَّ أنهما في حكم المسلمين في إيجاب الحدود عليهما ، وإنما رجمهما النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن من شرط الرجم الإحصان ، فلما شرط الإحصان فيه وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أَشْرَكَ بالله فَلَيْسَ بِمُحْصِنٍ " صار حَدَّهُما الجَلْد .
فإن قيل : إنما رجم النبيُّ صلى الله عليه وسلم اليهوديين من قِبَلِ أنه لم تكن لليهوديين ذمة وتحاكموا إليه . قيل له : لو لم يكن الحد واجباً عليهم لما أقامه النبي صلى الله عليه وسلم عليهما ، ومع ذلك فدلالته قائمة على ما ذكرنا لأنه إذا كان من لا ذِمَّةَ له قد حَدَّهُ النبي صلى الله عليه وسلم في الزنا فمن له ذِمَّةٌ وتجري عليه أحكام المسلمين أحْرَى بذلك .
ويدل عليه أنهم لا يختلفون أن الذميَّ يقطع في السرقة ، فكذلك في الزنا ، إِذْ كان فعلاً لا يُقَرُّ عليه ، فوجَبَ أن يُزجر عنه بالحدّ كما وجب زَجْرُ المسلم به ؛ وليس هو كالمسلم في شرب الخمر لأنهم مُقَرَّوْنَ على التخلية بينهم وبين شربها ، وليسوا مُقَرّين على السرقة ولا على الزنا .
واختلف فيمن أُكْرِهَ على الزنا ، فقال أبو حنيفة : " إن أكرهه غير سلطان حُدَّ ، وإن أكرهه سلطان لم يُحَدَّ " .
وقال أبو يوسف ومحمد : " لا يحدّ في الوجهين جميعاً " ، وهو قول الحسن بن صالح والشافعي . وقال زفر : " إن أكرهه سلطان حُدَّ أيضاً " . وأما المكرهة فلا تُحَدُّ في قولهم جميعاً . فأما إيجاب الحدّ عليه في حال الإكراه فإن أبا حنيفة قال : " القياس أن يُحَدَّ سواءٌ أكرهه سلطان أو غيره ، ولكنه تُرِكَ القياسُ في إكراه السلطان " . ويحتمل قوله : " في إكراه السلطان " معنيين ، أحدهما : أن يريد به الخليفة ، فإن كان قد أراد هذا فإنما أسقط الحدَّ لأنه قد فسق وانعزل عن الخلافة بإكراهه إياه على الزنا فلم يَبْقَ هناك من يقيم الحدّ عليه ، والحدُّ إنما يقيمه السلطان فإذا لم يكن هناك سلطان لم يُقَمِ الحد ، كمن زنى في دار الحرب .
ويحتمل أن يريد به مَنْ دون الخليفة ، فإن كان أراد ذلك فوجهه أن السلطان مأمور بالتوصّل إلى دَرْءِ الحدّ ، فإذا أكرهه على الزنا فإنما أراد التوصل إلى إيجابه ، فلا تجوز له إقامته إذاً لأنه بإكراهه أراد التوصل إلى إيجابه فلا يجوز له ذلك ويسقط الحد . وأما إذا كرهه غير سلطان فإن الحدّ واجب ، وذلك لأنه معلوم أن الإكراه ينافي الرضا ، وما وقع عن طَوْع ورضاً فغير مُكْرَهٍ عليه ، فلما كانت الحال شاهدة بوجود الرضا منه بالفعل دلّ ذلك على أنه لم يفعله مكرهاً ، ودلالة الحال على ما وصفنا أنه معلوم أن حال الإكراه هي حالُ خوف وتَلَفِ النفس والانتشارُ والشهوةُ ينافيهما الخوف والوجل ، فلما وُجِدَ منه الانتشار والشهوة في هذه الحال علم أنه فعله غير مكره لأنه لو كان مُكْرَهاً خائفاً لما كان منه انتشار ولا غلبته الشهوة ، وفي ذلك دليل على أن فِعْلَه ذلك لم يقع على وجه الإكراه فوجب الحدُّ .
فإن قيل : إن وجود الانتشار لا ينافي تَرْكَ الفعل ، فعلمنا حين فَعَلَ مع ظهور الإكراه أنه فعله مكرهاً كشرب الخمر والقذف ونحوه . قيل له : هذا لَعَمْري هكذا ، ولكنه لما كان في العادة أن الخوف على النفس ينافي الانتشار دل ذلك على أنه فعله طائعاً ، ألا ترى أن من أُكره على الكفر فأقرّ أنه فعله طائعاً كان كافراً مع وجود الإكراه في الظاهر ؟ كذلك الحال الشاهدة بالطَّوْعِ هي بمنزلة الإقرار منه بذلك فيحدّ .
باب صفة الضَّرْب في الزنا
قال الله تعالى : { ولا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ في دِينِ الله } رُوي عن الحسن وعطاء ومجاهد وأبي مجلز قالوا : " في تعطيل الحدود لا في شدة الضرب " . وروى ابن أبي مُلَيْكة عن عبيدالله بن عبدالله بن عمر : أن جارية لابن عمر زنت فضرب رجليها ، وأحسبه قال : وظهرها ، قال : فقلت لا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ! قال : يا بني ورأيتني أخذتني بها رأفة ؟ إن الله تعالى لم يأمرني أن أقتلها ولا أن أجعل جَلْدَها في رأسها وقد أَوْجَعْتُ حيث ضربتُ .
ورُوي عن سعيد بن جبير وإبراهيم والشعبي قالوا : " في الضرب " .
واختلف الفقهاء في شدة الضرب في الحدود ، فقال أصحابنا وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر : " التعزير أشدّ الضرب ، وضربُ الزنا أشدّ من ضرب الشارب ، وضربُ الشارب أشدُّ من ضرب القاذف " .
وقال مالك والليث : " الضرب في الحدود كلها سواء غير مبرِّح بين الضربين " . وقال الثوري : " ضَرْبُ الزنا أشد من ضرب القذف ، وضرب القذف أشد من ضرب الشرب " .
وقال الحسن بن صالح : " ضرب الزنا أشد من ضرب الشرب والقذف " .
ورُوي عن عطاء قال : " حدُّ الزنية أشدّ من حدّ الفِرْيَةِ وحدُّ الفرية والخمر واحد " . وعن الحسن قال : " ضرب الزنا أشد من القذف والقذف أشد من الشرب وضرب الشرب أشد من ضرب التعزير " .
ورُوي عن عليّ أنه ضرب رجلاً قاعداً وعليه كساء قسطلانيّ .
قال أبو بكر : قوله تعالى : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ } لما كان محتملاً لما تأوّله السلف عليه من تعطيل الحدِّ ومن تخفيف الضرب ، اقتضى ظاهره أن يكون عليهما جميعاً في أن لا يعطَّل الحدّ وفي تشديد الضرب ، وذلك يقتضي أن يكون أشَدَّ من ضرب القاذف والشارب ، وإنما قالوا إن التعزير أشدُّ الضرب وأرادوا بذلك أنه جائز للإمام أن يزيد في شدة الضرب للإيلام على جهة الزجر والردع إذْ لا يمكنه فيه بلوغ الحد ، ولم يعنوا بذلك أنه لا محالة أشد الضرب لأنه موكول إلى رأي الإمام واجتهاده ، ولو رأى أن يقتصر من الضرب في التعزير على الحبس إذا كان ذا مُرُوءة وكان ذلك الفعل منه زلّة جاز له أن يتجافى عنه ولا يعزره ، فعلمت أن مرادهم بقولهم : " التعزير أشد الضرب " إنما هو إذا رأى الإمام ذلك للزجر والردع فعل ؛ وقد روى شريك عن جامع بن أبي راشد عن أبي وائل قال : " كان لرجل على ابن أخ لأمّ سلمة رضي الله عنها دَيْنٌ فمات فقضت عنه ، فكتب إليها يحرّج عليها فيه ، فرفعت ذلك إلى عمر فكتب عمر إلى عامله : اضربه ثلاثين ضربة كلها تبضع اللحم وتحدر الدم " . فهذا من ضرب التعزير .
وروى شعبة عن واصل عن المعرور بن سويد قال : " أُتِي عمر بن الخطاب بامرأة زنت فقال : أفسدت حسبها ، اضربوها ولا تحرقوا عليها جلدها " فهذا يدلّ على أنه كان يرى ضَرْبَ الزاني أخَفَّ من التعزير .
قال أبو بكر : قد دل قوله : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةً فِي دِينِ الله } على شدة ضرب الزاني على ما بَيَّنَّا وأنه أشد من ضرب الشارب والقاذف ، لدلالة الآية على شدة الضرب فيه ، ولأن ضرب الشارب كان من النبي صلى الله عليه وسلم بالجَرِيدِ والنعال ، وضرب الزاني إنما يكون بالسَّوْطِ ، وهذا يوجب أن يكون ضرب الزاني أَشَدَّ مِنْ ضرب الشارب ؛ وإنما جعلوا ضرب القاذف أخفّ الضرب لأن القاذف جائز أن يكون صادقاً في قذفه وأن له شهوداً على ذلك والشهود مندوبون إلى الستر على الزاني ، فإنما وجب عليه الحدُّ لقعود الشهود عن الشهادة ، وذلك يوجب تخفيف الضرب . ومن جهة أخرى أن القاذف قد غُلِّظَتْ عليه العقوبة في إبطال شهادته ، فغير جائز التغليظ عليه من جهة شدة الضرب .
فإن قيل : روى سفيان بن عيينة قال : سمعت سعد بن إبراهيم يقول للزهري : إن أهل العراق يقولون إن القاذف لا يُضرب ضرباً شديداً ، ولقد حدثني أبي أن أمّه أم كلثوم أمرت بشاة فسُلخت حين جُلِدَ أبو بكرة فألسبته مسكها ؛ فهل كان ذلك إلاّ من ضرب شديد ! . قيل له : هذا لا يدلّ على شدة الضرب ؛ لأنه جائز أن يؤثر في البدن الضرب الخفيف على حسب ما يصادف من رقة البشرة ففعلَتْ ذلك إشفاقاً عليه .
باب ما يُضرب من أعضاء المحدود
قال الله سبحانه وتعالى : { فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مائَةَ جَلْدَةٍ } ولم يذكر ما يُضرب منه ، وظاهره يقتضي جَواز ضَرْبِ جميع الأعضاء . وقد اختلف السلف وفقهاء الأمصار فيه ، فروى ابن أبي ليلى عن عدي بن ثابت عن المهاجر بن عميرة عن عليّ رضي الله عنه أنه أُتي برجل سكران أو في حدٍّ ، فقال : " اضرب وأعْطِ كلَّ عضو حقه واتَّقِ الوجه والمذاكير " .
وروى سفيان بن عيينة عن أبي عامر عن عدي بن ثابت عن مهاجر بن عميرة عن عليّ رضي الله عنه أنه قال : " اجتنب رأسه ومذاكيره وأعْطِ كل عضو حقَّهُ " ، فذكر في هذا الحديث الرأس وفي الحديث الأول الوجه ، وجائز أن يكون قد استثناهما جميعاً .
ورُوي عن عمر أنه أمر بالضرب في حدٍّ فقال : " أعْطِ كُل عضو حقه " ولم يستثن شيئاً .
ورَوَى المسعودي عن القاسم قال : أُتِي أبو بكر برجل انتفى من ابنه ، فقال أبو بكر : " اضرب الرأس فإنّ الشيطان في الرأس " .
وقد رُوي عن عمر : " أنه ضرب صبيغ بن عُسَيْل على رأسه حين سأل عن الذاريات ذرواً على وجه التعنت " .
ورُوي عن ابن عمر أنه لا يصيب الرأس . وقال أبو حنيفة ومحمد : " يُضرب في الحدود الأعضاء كلُّها إلا الفَرْجُ والرأس والوجه " .
وقال أبو يوسف : " يضرب الرأس أيضاً " . وذكر الطحاوي عن أحمد بن أبي عمران عن أصحاب أبي يوسف : " أن الذي يضرب به الرأس من الحدِّ سَوْطٌ واحد " . وقال مالك : " لا يضرب إلا في الظهر " . وذكر ابن سماعة عن محمد في التعزير : أنه يضرب الظهر بغير خلاف وفي الحدود يضرب الأعضاء إلا ما ذكرنا . وقال الحسن بن صالح : " يُضرب في الحدّ والتعزير الأعضاءُ كلها ولا يضرب الوجه ولا المذاكير " . وقال الشافعي : " يُتَّقَى الوجه والفرج " .
قال أبو بكر : اتفق الجميع على تَرْكِ ضرب الوجه والفرج ، ورُوي عن عليّ استثناء الرأس أيضاً ، وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَّقِ الوَجْهَ " ؛ وإِذَا لَمْ يَضْرِبِ الوَجْهَ فالرأس مثله لأن الشَّيْنَ الذي يلحق الرأس بتأثير الضرب كالذي يلحق الوجه ، وإنما أمر باجتناب الوجه لهذه العلة ولئلا يلحقه أثر يَشِينُه أكثر مما هو مستحقّ بالفعل الموجب للحدّ . والدليل على أن ما يلحق الرأس من ذلك هو كما يلحق الوجه أن المُوَضّحةَ وسائر الشِّجَاجِ حكمها في الرأس والوجه سواء وفارقا سائر البدن من هذا الوجه ؛ لأن المُوَضِّحَة فيما سوى الرأس والوجه إنما تجب فيه حكومة ولا يجب فيها أرْشُ الموضحة الواقعة في الرأس والوجه ، فوجب من أجل ذلك استواء حكم الرأس والوجه في اجتناب ضربهما . ووجه آخر ، وهو أنه ممنوع من ضرب الوجه لما يُخاف فيه من الجناية على البصر ، وذلك موجود في الرأس لأن ضرب الرأس يظلم منه البصر وربما حدث منه الماء في العين وربما حدث منه أيضاً اختلاط في العقل ، فهذه الوجوه كلها تمنع ضرب الرأس . وأما اجتناب الفرج فمتفق عليه ، وهو أيضاً مقتل فلا يُؤْمَنُ أن يُحدث أكثر مما هو مستحَقُّ بالفعل . وقال أبو حنيفة وأصحابه والليث والشافعي : " الضرب في الحدود كلها وفي التعزير مجرداً قائماً غير ممدود ، إلا حدّ القذف فإنه يُضرب وعليه ثيابه وينزع عنه الحَشْوُ والفَرْوُ " . وقال بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة : " يضرب التعزير في إزار ولا يفرّق في التعزير خاصة في الأعضاء " . وقال أبو يوسف : ضرب ابن أبي ليلى المرأة القاذفة قائمة فخطّأه أبو حنيفة . وقال الثوري : " لا يُجَرَّدُ الرجل ولا يُمَدُّ ، وتُضرب المرأة قاعدة والرجل قائماً " .
قال أبو بكر : في حديث رَجْم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين قال : " رأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة " ، وهذا يدلّ على أنّ الرّجُلَ كان قائماً والمرأة قاعدة . وروى عاصم الأحول عن أبي عثمان النهديّ قال : أُتي عمر بسوط فيه شدة فقال : أريد أَلْيَنَ من هذا ، فأُتي بسوط فيه لِينٌ فقال : أريد أشَدَّ من هذا ، فأُتي بسوط بين السَّوْطَيْنِ فقال : اضْرِبْ ولا يُرَى إِبْطُك وأَعْطِ كلَّ عضو حقه . وعن ابن مسعود أنه ضرب رجلاً حدّاً ، فدعا بسوط فأمر فدُقّ بين حجرين حتى لان ثم قال : اضرب ولا تخرج إبطك وأَعْطِ كل عضو حقَّه . وعن علي أنه قال للجلاد : أَعْطِ كل عضو حقه . وروى حنظلة السدوسي عن أنس بن مالك قال : " كان يُؤمر بالسوط فتقطع ثمرته ثم يدقّ بين حجرين ثم يضرب به ؛ وذلك في زمن عمر بن الخطاب " . ورُوي عن أبي هريرة أنه جلد رجلاً قائماً في القذف .
قال أبو بكر : هذه الأخبار تدلّ على معاني : منها اتفاقهم على أن ضرب الحدود بالسوط ، ومنها أنه يضرب قائماً إذ لا يمكن إعطاء كل عضو حقه إلا وهو قائم ، ومنها أنه يضرب بسوط بين سوطين . وإنما قالوا : " إنه يضرب مجرداً " ، ليصل الألم إليه ، ويضرب القاذف وعليه ثيابه لأن ضربه أَخَفُّ . وإنما قالوا : " لا يمدّ " ، لأن فيه زيادة في الإيلام غير مستحقّ بالفعل ولا هو من الحدّ . وروى يزيد بن هارون عن الحجاج عن الوليد بن أبي مالك : " أن أبا عبيدة بن الجراح أُتي برجل في حدٍّ ، فذهب الرجل ينزع قميصه وقال : ما ينبغي لجسدي هذا المذنب أن يضرب وعليه قميص ! فقال أبو عبيدة : لا تَدَعُوهُ ينزع قميصه ! فضربه عليه " . وروى ليث عن مجاهد ومغيرة عن إبراهيم قالا : " يجلد القاذف وعليه ثيابه " . وعن الحسن قال : " إذا قذف الرجل في الشتاء لم يلبس ثياب الصيف ولكن يضرب في ثيابه التي قذف فيها ، إلا أن يكون عليه فرو أو حشو يمنعه من أن يجد وجع الضرب فينزع ذلك عنه " ؛ وقال مطرّف عن الشعبي مثل ذلك . وروى شعبة عن عدي بن ثابت عمن شهد عليّاً رضي الله عنه : " أنه أقام على رجل الحدَّ فضربه على قبا أو قرطق " . ومذهب أصحابنا موافق لما رُوي عن السلف في هذه الأخبار ، ويدل على صحته أن من عليه حَشْوٌ أو فَرْوٌ فلم يصل الألم أن الفاعل لذلك غير ضارب في العادة ، ألا ترى أنه لو حلف أن يضرب فلاناً فضربه وعليه حشو أو فرو فلم يصل إليه الألم أنه لا يكون ضارباً ولم يبرَّ في يمينه ولو وصل إليه الألم كان ضارباً ؟ .
في إقامة الحدود في المسجد
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والشافعي : " لا تُقام الحدود في المساجد " ، وهو قول الحسن بن صالح . قال أبو يوسف : وأقام ابن أبي ليلى حدّاً في المسجد فخطّأه أبو حنيفة . وقال مالك : " لا بأس بالتأديب في المسجد خمسة أسواط ونحوها ، وأما الضرب الموجع والحدُّ فلا يقام في المسجد " .
قال أبو بكر : روى إسماعيل بن مسلم المكي عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تُقَامُ الحُدُودُ في المَسَاجِدِ ولا يُقْتَلُ بالوَلَدِ الوَالِدُ " . ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وشِرَاكُمْ وبَيْعَكُمْ وإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ وجَمِّرُوهَا في جُمَعِكُمْ وضَعُوا على أَبْوابِهَا المَطَاهِرَ " . ومن جهة النظر أنه لا ير من أن يكون المحدود بالمسجد من خروج النجاسة ما سبيله أن ينزَّه المسجد عنه .
في الذي يعمل عمل قوم لوط
قال أبو حنيفة : " يُعَزَّر ولا يحد " . وقال مالك والليث : " يرجمان أُحْصِنا أو لم يُحْصِنا " . وقال عثمان البتّي والحسن بن صالح وأبو يوسف ومحمد والشافعي : " هو بمنزلة الزنا " ، وهو قول الحسن وإبراهيم وعطاء . قال أبو بكر : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يَحِلُّ دَمُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاثٍ : زِناً بَعْدَ إِحْصَانٍ وكُفْرٍ بَعْدَ إِيمانٍ وقَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ " ، فحصر صلى الله عليه وسلم قتل المسلم إلا بإحدى هذه الثلاث ، وفاعل ذلك خارج عن ذلك لأنه لا يسمَّى زِناً .
فإن احتجوا بما روى عاصم بن عمرو عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الَّذِى يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فارْجُمُوا الأَعْلَى والأَسْفَلَ وارْجُمُوهُما جَمِيعاً " ، وبما رَوَى الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الفَاعِلَ والمَفْعُولَ بِهِ " . قيل له : عاصم بن عمرو وعمرو بن أبي عمرو ضعيفان لا تقوم بروايتهما حجة ولا يجوز بهما إثبات حدّ ، وجائز أن يكون لو ثبت إذا فعلاه مستحلَّيْنِ له ، وكذلك تقول فيمن استحلّ ذلك أنه يستحقّ القتل ، وقوله : " فَاقْتُلُوا الفَاعِلَ وَالمَفْعُولَ بِهِ " يدلّ على أنه ليس بحدٍّ وأنه بمنزلة قوله : " مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ " لأن حدَّ فاعل ذلك ليس هو قتلاً على الإطلاق وإنما هو الرجم عند من جعله كالزنا إذا كان مُحْصِناً وعند من لا يجعله بمنزلة الزنا ممن يوجب قتله فإنما يقتله رجماً ، فقَتْلُه على الإطلاق ليس هو قولاً لأحد ، ولو كان بمنزلة الزنا لفرّق فيه بين المحصِن وغير المحصن ، وفي تَرْكِهِ صلى الله عليه وسلم الفَرْقَ بينهما دليل على أنه لم يوجبه على وجه الحدِّ .
في الذي يأتي البهيمة
قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك وعثمان البتي : " لا حَدَّ عليه ويُعَزَّرُ " ، ورُوي مثله عن ابن عمر . وقال الأوزاعي : " عليه الحدُّ " . قال أبو بكر : قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يحلّ دَمُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ إِلاّ بإِحْدَى ثَلاثٍ زناً بَعْدَ إِحْصَانٍ وَكُفْرٍ بَعْدَ إِيمانٍ وقَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفسٍٍ " ينفي قتل فاعل ذلك ، إذ ليس ذلك بزنا في اللغة ، ولا يجوز إثبات الحدود إلا من طريق التوقيف أو الاتفاق ، وذلك معدوم في مسألتنا ، ولا يجوز إثباته من طريق المقاييس . وقد رَوَى عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ وَجَدْتُمُوهُ عَلى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوا البَهِيمَةَ " ، وعمرو هذا ضعيف لا تثبت به حجة . ومع ذلك فقد رَوَى شعبة وسفيان وأبو عوانة عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس فيمن أتى بهيمة : " أنه لا حدَّ عليه " ، وكذلك رواه إسرائيل وأبو بكر بن عياش وأبو الأحوص وشريكٌ كلُّهم عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس مثله ؛ ولو كان حديث عمرو بن أبي عمرو ثابتاً لما خالفه ابن عباس وهو راويه إلى غيره ، وإن صَحَّ الخبرُ كان محمولاً على من استحلَّهُ .
فصل
قال أبو بكر : وقد أنكرت طائفة شاذّة لا تُعَدُّ خلافاً الرجْمَ وهم الخوارج ، وقد ثبت الرجم عن النبي صلى الله عليه وسلم بفِعْل النبي صلى الله عليه وسلم وبنقل الكافّة والخبر الشائع المستفيض الذي لا مساغ للشك فيه وأجمعت الأمة عليه ، فرَوَى الرجم أبو بكر وعمر وعليّ وجابر بن عبدالله وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وبريدة الأسلمي وزيد بن خالد في آخرين من الصحابة ، وخطب عمر فقال : " لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لأثبتّه في المصحف " . وبعض هؤلاء الرواة يروي خبر رَجْم ماعز وبعضهم خبر الجهينية والغامدية . وخبر ماعز يشتمل على أحكام : منها أنه ردّده ثلاث مرات ثم لما أقرّ عنده الرابعة سأل عن صحة عقله فقال : " هَلْ بِهِ جُنَّةٌ ؟ " فقالوا : لا ؛ وأنه استنكهه ثم قال له : " لَعَلَّكَ لَمَسْتَ لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ ؟ " فلمّا أبى إلا التصميم على الإقرار بصريح الزنا سأل عن إحصانه ، ثم لما هرب حين أدركته الحجارة قال : " هَلاَّ تَرَكْتُمُوهُ ! " وفي ترديده ثلاث مرات ثم المسألة عن عقله بعد الرابعة دلالةٌ على أن الحدَّ لا يجب إلا بعد إقراره أربعاً ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تَعَافَوُا الحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فما بَلَغَني مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ " ؛ فلو كان الحدُّ واجباً بإقراره مرة واحدة لسأل عنه في أول إقراره ، ومسألته جيرانه وأهله عن عقله يدلّ على أن على الإمام الاستثبات والاحتياط في الحدّ ومسألته عن الزنا كيف هو وما هو . وقوله : " لعلّك لَمَسْتَ لَعَلّك قَبَّلْتَ " يفيد حكمين ، أحدهما : أنه لا يقتصر على إقراره بالزنا دون استثباته في معنى الزنا حتى يبينه بصفة لا يختلف فيه أنه زنا ، وقوله : " لَعلّك لَمَسْتَ لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ " تلقينٌ له الرجوع عن الزنا وأنه إنما أراد اللمس ، كما رُوي أنه قال للسارق : " ما إِخَالُهُ سَرَقَ " ، ونظيره ما رُوي عن عمر أنه جيء بامرأة حُبْلَى بالموسم وهي تبكي ، فقالوا : زنت ، فقال عمر : ما يبكيك ؟ فإن المرأة ربما اسْتُكْرِهَتْ على نفسها ! يلقّنها ذلك ، فأخبرت أن رجلاً ركبها وهي نائمة ، فقال عمر : لو قتلتُ هذه لخشيتُ أن تدخل ما بين هذين الأخشبين النار ! فخلَّى سبيلها . ورُوي أن عليّاً قال لشراحة حين أقرّت عنده بالزنا : لعلك عصيت نفسك ؟ قال : أتيت طائعة غير مكرهة ؛ فرجمها . وقوله صلى الله عليه وسلم : " هلاَّ تَرَكْتُمُوهُ " يدلّ على جواز رجوعه عن إقراره ، لأنه لما امتنع مما بذل نفسه له بديّاً قال : " هلا تَرَكْتُمُوهُ " ؛ ولما لم يجلده دلّ على أن الرجم والجلد لا يجتمعان .
قوله تعالى : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ } رَوَى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : " الطائفة الرجل إلى الألف " وقرأ : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] . وقال عطاء : " رجلان فصاعداً " . وقال الحسن وأبو بريدة : " الطائفة عشرة " . وقال محمد بن كعب القرظي في قوله : { إن نعف عن طائفة منكم } [ التوبة : 66 ] قال : كان رجلاً . وقال الزهري : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ } " ثلاثة فصاعداً " . وقال قتادة : " ليكون عِظَةً وعبرة لهم " . وحُكي عن مالك والليث : " أربعة ؛ لأن الشهود أربعة " .
قال أبو بكر : يشبه أن المعنى في حضور الطائفة ما قاله قتادة أنه عِظَةٌ وعبرة لهم ، فيكون زجراً له عن العَوْدِ إلى مثله وردعاً لغيره عن إتيان مثله ، والأَوْلَى أن تكون الطائفة جماعة يستفيض الخبر بها ويشبع فيرتدع الناس عن مثله ؛ لأن الحدود موضوعة للزجر والردع ، وبالله التوفيق .