قوله تعالى : { فإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ } ؛ قد تضمن ذلك معنيين ، أحدهما : أنه لا ندخل بيوت غيرنا إلا بإذنه ، والثاني : أنه إذا أذن لنا جاز لنا الدخول ، واقتضى ذلك جواز قبول الإذن ممن أذن صبيّاً كان أو امرأة أو عبداً أو ذميّاً ، إذ لم تفرق الآية بين شيء من ذلك ؛ وهذا أصل في قبول أخبار المعاملات من هؤلاء وأنه لا تعتبر فيها العدالة ولا تُسْتَوْفَى فيها صفاتُ الشهادة ، ولذلك قبلوا أخبار هؤلاء في الهدايا والوكالات ونحوها .
باب في الاستئذان على المحارم
روى شعبة عن أبي إسحاق عن مسلم بن يزيد قال : " سأل رجل حذيفة : أأستأذن على أختي ؟ قال : إن لم تستأذن عليها رأيتَ ما يَسُوءُك " . ورُوي عن ابن عيينة عن عمرو عن عطاء قال : " سألت ابن عباس : أأستأذن على أختي ؟ قال : نعم ، قال قلت : إنها معي في البيت وأنا أنفق عليها ، قال : استأذن عليها " . وروى سفيان عن مخارق عن طارق قال : " قال رجل لابن مسعود : أأستأذن على أمي ؟ قال : نعم " . وروى سفيان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال : أأستأذن على أمّي ؟ قال : " نَعَمْ ، أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً ؟ " . وقال عمرو عن عطاء : " سألت ابن عباس : أأستأذن على أختي وأنا أنفق عليها ؟ قال : نعم أتحب أن تراها عريانة ؟ إن الله يقول : { يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا ليَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } . فلم يؤمر هؤلاء بالاستئذان إلا في العورات الثلاث . ثم قال : { وإذا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } ولم يفرق بين من كان منهم أجنبيّاً أو ذا رحم محرم ، إلا أن أمر ذوي المحارم أيسر لجواز النظر إلى شعرها وصدرها وساقها ونحوها من الأعضاء .
وقوله تعالى : { وإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } بعد قوله : { فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ } يدل على أن للرجل أن يَنْهَى من لا يجوز له دخول داره عن الوقوف على باب داره أو القعود عليه ، لقوله تعالى : { وإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } ويمتنع أن يكون المراد بذلك حظر الدخول إلا بعد الإذن ؛ لأن هذا المعنى قد تقدم ذكره مصرَّحاً به في الآية ، فواجب أن يكون لقوله : { وإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا } فائدة مجددة ، وهو أنه متى أمره بالرجوع عن باب داره فواجب عليه التنحّي عنه لئلا يتأذَّى به صاحب الدار في دخول حرمه وخروجهم وفيما ينصرف عليه أموره في داره مما لا يحبّ أن يطّلع عليه غيره .