قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ } الآية . قال أبو بكر : قد اختلف السلف في تأويله وسبب نزوله ، فحدثنا جعفر بن محمد بن الحكم قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلى الأَعْرَجِ حَرَجٌ ولا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ } قال : " لما نزلت : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [ البقرة : 188 ] قال المسلمون : إن الله تعالى قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل وإن الطعام من أفضل أموالنا ولا يحلّ لأحد أن يأكل عند أحد ؛ فكفَّ الناس عن ذلك ، فأنزل الله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ } الآية " . فهذا أحد التأويلات . وحدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في هذه الآية قال : " كان رجال زَمْنَى وعميان وعرجان وأولو حاجة يستتبعهم رجال إلى بيوتهم فإن لم يجدوا لهم طعاماً ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم ومن معهم ، فكره المستتبعون ذلك ، فنزلت : { ولا جناح عليكم } [ النساء : 29 ] الآية ، وأحل لهم الطعام حيث وجدوه من ذلك " . فهذا تأويل ثانٍ . وحدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا ابن مهدي عن ابن المبارك عن معمر قال : قلت للزهري : ما بال الأعمى والأعرج والمريض ذُكروا ههنا ؟ فقال : أخبرني عبيدالله بن عبدالله بن عتبة : " أن المسلمين كانوا إذا غَزَوْا خلَّفوا زَمْنَاهُمْ في بيوتهم وسلّموا إليهم المفاتيح وقالوا : قد أحللنا لكم أن تأكلوا منها ، فكانوا يتحرَّجُون من ذلك ويقولون : لا ندخلها وهم غُيَّبٌ ، فنزلت هذه الآية رخصة لهم " . فهذا تأويل ثالث . ورُوي فيه تأويل رابع ، وهو ما رَوَى سفيان عن قيس بن مسلم عن مقسم قال : " كانوا يمتنعون أن يأكلوا مع الأعمى والمريض والأعرج لأنه لا ينال ما ينال الصحيح ، فنزلت هذه الآية " . وقد أنكر بعض أهل العلم هذا التأويل ؛ لأنه لم يقل : ليس عليكم حرج في مؤاكلة الأعمى ، وإنما أزال الحرج عن الأعمى ومن ذُكر معه في الأكل ، فهذا في الأعمى إذا أكل من مال غيره على أحد الوجوه المذكورة عن السلف ، وإن كان تأويل مقسم محتملاً على بُعْدٍ في الكلام ، وتأويل ابن عباس ظاهر لأن قوله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } [ البقرة : 188 ] ، ولم يكن هذا تجارةً وامتنعوا من الأكل ، فأنزل الله إباحة ذلك . وأما تأويل مجاهد فهو سائغ من وجهين ، أحدهما : أنه قد كانت العادة عندهم بَذْلَ الطعام لأقربائهم ومن معهم ، فكان جريان العادة به كالنطق به ، فأباح الله للأعمى ومن ذُكر معه إذا اسْتَتْبَعُوا أن يأكلوا من بيوت من اتّبعوهم وبيوت آبائهم . والثاني : أن ذلك فيمن كان به ضرورة إلى الطعام ، وقد كانت الضيافة واجبة في ذلك الزمان لأمثالهم ، فكان ذلك القدر مستحقّاً من مالهم لهؤلاء ؛ فلذلك أبيح لهم أن يأكلوا منه مقدار الحاجة بغير إذن . وقال قتادة : " إن أكلتَ من بيت صديقك بغير إذنه فلا بأس ، لقوله : { أَوْ صَدِيقِكُمْ } . ورُوي أن أعرابيّاً دخل على الحسن ، فرأى سفرة معلقة فأخذها وجعل يأكل منها ، فبكى الحسن ، فقيل له : ما يبكيك ؟ فقال : ذكرت بما صنع هذا إخواناً لي مضوا ؛ يعني أنهم كانوا ينبسطون في مثل ذلك ولا يستأذنون . وهذا أيضاً على ما كانت العادة قد جرت به منهم في مثله .
وقوله تعالى : { وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ } ، يعني والله أعلم : من البيوت التي هم سكّانها وهم عيال غيرهم فيها ، مثل أهل الرجل وولده وخادمه ومن يشتمل عليه منزله فيأكل من بيته ؛ ونسبها إليهم لأنهم سكانها وإن كانوا في عيال غيرهم وهو صاحب المنزل ؛ لأنه لا يجوز أن يكون المرادُ الإباحةَ للرجل أن يأكل من مال نفسه ، إذ كان ظاهر الخطاب وابتداؤه في إباحة الأكل للإنسان من مال غيره ؛ وقال الله : { أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ } فأباح الأكل من بيوت هؤلاء الأقرباء ذوي المحارم بجريان العادة ببذل الطعام لأمثالهم وفَقْدِ التمانع في أمثاله ، ولم يذكر الأكل في بيوت الأولاد لأن قوله تعالى : { وَلا علَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ } قد أفاده ؛ لأن مال الرجل منسوب إلى أبيه ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " أَنْتَ وَمَالُكَ لأبيكَ " وقال : " إِنَّ أَطْيَبَ ما أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلاَدِكُمْ " ، فاكتفى بذكر بيوت أنفسكم عن ذكر بيوت الأولاد ، إذ كانت منسوبة إلى الآباء .
وقوله تعالى : { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ } ؛ رُوي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } قال : " هو الرجل يؤاكل الرجل بصنعته ، يرخص له أن يأكل من ذلك الطعام والثمر ويشرب من ذلك اللبن " . وعن عكرمة في قوله : { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } قال : " إذا ملك المفتاح فهو جائز ولا بأس أن يَطْعَمَ الشيء اليسير " . ورَوَى سعيد عن قتادة في قوله : { لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ ولا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ } قال : " كان الرجل لا يضيف أحداً ولا يأكل من بيت غيره تأثُّماً من ذلك ، وكان أَول من رخَّص الله له في ذلك ثم رخص للناس عامة ، فقال : { وَلاَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ } إلى قوله : { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } مما عندك يا ابن آدم ، أو صديقكم ، ولو دخلت على صديق فأكلت من طعامه بغير إذنه كان ذلك حلالاً " . قال أبو بكر : وهذا أيضاً مبنيٌّ على ما جرت العادة بالإذن فيه فيكون المعتاد من ذلك كالمنطوق به ، وهو مثل ما تتصدق به المرأة من بيت زوجها بالكِسْرَةِ ونحوها من غير استئذانها إيّاه ؛ لأنه متعارف أنهم لا يُمْنَعُون من مثله ، كالعبد المأذون والمكاتَبِ يَدْعُوان إلى طعامهما ويتصدقان باليسير مما في أيديهما فيجوز بغير إذن المولى .
وقوله : { أَوْ صَدِيقِكُمْ } ، رَوَى الأعمش عن نافع عن ابن عمر قال : " لقد رأيْتُني وما الرجل المسلم بأحقّ بديناره ودرهمه من أخيه المسلم " . ورَوَى عبدالله الرصافي عن محمد بن عليّ قال : " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرى أحدهم أنه أحق بالدينار والدرهم من أخيه " . وروى إسحاق بن كثير قال : حدثنا الرصافي قال : " كنا عند أبي جعفر يوماً فقال : هل يدخل أحدكم يده في كُمّ أخيه أو كسبه فيأخذ ماله ؟ قلنا : لا ، قال : ما أنتم بإخوان " .
قال أبو بكر : قد دلت هذه الآية على أن من سرق من ذي رَحِمٍ محرم أنه لا يُقطع ، لإباحة الله لهم بهذه الآية الأكل من بيوتهم ودخولها من غير إذنهم فلا يكون مالُهُ مُحْرَزاً منهم .
فإن قيل : فينبغي أن لا يُقطع إذا سرق من صديقه ؛ لأن في الآية إباحة الأكل من طعامه . قيل له : من أراد سرقة ماله لا يكون صديقاً له .
وقد قيل : إن هذه الآية منسوخة بقوله : { لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا } ، وبقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يَحِلُّ مَالُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ إِلاّ بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ " . قال أبو بكر : ليس في ذلك ما يوجب نسخه ؛ لأن هذه الآية فيمن ذكر فيها ، وقوله : " لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ " في سائر الناس غيرهم ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يحلّ مالُ امرىءٍ مُسلمٍ إلا بطيبةٍ مِنْ نَفْسِه " .
وقوله تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } . روى سعيد عن قتادة قال : " كان هذا الحيّ من كنانة بني خزيمة يرى أحدهم أنه محرَّمٌ عليه أن يأكل وحده في الجاهلية ، حتى إنّ الرجل ليَسُوقُ الذَّوْدَ الحُفَّلَ وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويُشَارِبُه ، فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } " . وروى الوليد بن مسلم قال : حدثنا وحشي بن حرب عن أبيه عن جده وحشي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : إنا نأكل ولا نشبعُ ، قال : " فَلَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُّونَ ؟ " قالوا : نعم ، قال : " فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَيْهِ يُبَارِكْ لَكُمْ فِيهِ " . وقال ابن عباس : { جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } " المعنى : يأكل مع الفقير في بيته " . وقال أبو صالح : " كان إذا نزل بهم ضيفٌ تحرَّجوا أن يأكلوا إلا معه " . وقيل : " إن الرجل كان يخاف إِنْ أكل مع غيره أن يزيد أكْلُه على أكْلِ صاحبه ، فامتنعوا لأجل ذلك من الاجتماع على الطعام " . قال أبو بكر : هذا تأويل محتمل ، وقد دلّ على هذا المعنى قوله : { ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم } [ البقرة : 220 ] ، فأباح لهم أن يخلطوا طعام اليتيم بطعامهم فيأكلوه جميعاً ، ونحوه قوله : { فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أذكى طعاماً فليأتكم برزق منه } [ الكهف : 19 ] ، فكان الوَرقُ لهم جميعاً والطعام بينهم فاستجازوا أكله ، فكذلك قوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جِمِيعاً } يجوز أن يكون مراده أن يأكلوا جميعاً طعاماً بينهم ، وهي المناهدة التي يفعلها الناس في الأسفار .
وقوله تعالى : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً } ؛ روى مَعْمَرٌ عن الحسن : " فسَلِّموا على أنفسكم ، يسلّم بعضكم على بعض ، كقوله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] " . ورَوَى معمر عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال : " هو المسجد إذا دَخَلْتَهُ فقل السلامُ عَلَيْنَا وعلى عباد الله الصالحين " . وقال نافع عن ابن عمر : " أنه كان إذا دخل بيتاً ليس فيه أحد قال : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، وإذا كان فيه أحد قال : السلام عليكم ، وإذا دخل المسجد قال : بسم الله السلام على رسول الله " .
وقال الزهري : { فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } " إذا دخلت بيتك فسلِّمْ على أهلك فهم أحَقّ من سلمتَ عليه ، وإذا دخلت بيتاً لا أحد فيه فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فإنه كان يُؤمر بذلك حُدِّثْنا أن الملائكة تردُّ عليه " .
قال أبو بكر : لما كان اللفظُ محتَمِلاً لسائر الوجوه تأوّله السلف عليها وجب أن يكون الجميع مراداً بعموم اللفظ .
وقوله تعالى : { تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } ، يعني أن السلام تحيةٌ من الله ؛ لأن الله أمر به ، وهي مباركة طيبة لأنه دعاء بالسلامة فيبقى أثره ومنفعته . وفيه الدلالة على أن قوله : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } [ النساء : 86 ] قد أُريد به السلام .