باب ما أحل الله تعالى لرسوله من النساء
قال الله تعالى : { يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } الآية . قال أبو بكر : فقد انتظمت الآية ضُرُوبَ النكاح الذي أباحه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ، فمنها قوله : { اللاَّتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } يعني : من تزوج منهنّ بمهر مسمّى وأعطاهن . ومنها : ما ملكت اليمين بقوله : { وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ الله عَلَيْكَ } مثل ريحانة وصفية وجويرية ثم أعتقهما وتزوجهما ، وذلك مما أفاء الله عليه من الغنيمة . وذكر تعالى بعد ذلك ما أحلّ له من أقاربه فقال : { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِك } ، ثم ذكر ما أحلّ له من النساء بغير مهر فقال : { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنَّبِيِّ } ، وأخبر أنه مخصوص بذلك دون أمّته وأنه وأمّته سواء فيمن تقدم ذكرهن .
وقوله تعالى : { اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } ؛ قال أبو يوسف : لا دلالة فيه على أن اللاتي لم يهاجرن كنَّ محرمات عليه ، وهذا يدل على أنه لم يكن يرى أن المخصوص بالذكر يدل على أن ما عداه بخلافه . وروى داود بن أبي هند عن محمد بن أبي موسى عن زياد عن أبيّ بن كعب قال : قلت له : أرأيت لو هلك نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم أكان له أن ينكح ؟ قال : " وما يمنعه ؟ أحلّ الله له ضُروباً من النساء فكان يتزوج منهن ما شاء " ثم تلا : { يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } الآية .
وهذا يدلّ على أن تخصيص الله تعالى للمذكورات بالإباحة لم يوجب عليه حَظْرَ من سواهن عند أبيّ بن كعب ؛ لأنه أخبر أنهن لو هَلِكْنَ لكان له أن يتزوج غيرهن . وقد رُوي عن أمّ هانىء خلاف ذلك ، رَوَى إسرائيل عن السدي عن أبي صالح عن أم هانىء قالت : " خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه بعذر ، فأنزل الله : { إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } إلى قوله : { اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } قالت : فلم أكن أحلّ له لأني لم أهاجر معه ، كنت مع الطلقاء " .
فإن صح هذا الحديث فإن مذهب أم هانىء أن تخصيصه للمهاجرات منهن قد أوجب حَظْرَ من لم تهاجر ، ويحتمل أن تكون قد علمت حظرهنّ بغير دلالة الآية وأن الآية إنما فيها إباحة من هاجرت منهن ولم تعرض لمن لم تهاجر بحظر ولا إباحة إلا أنها قد علمت من جهة أخرى حظرهن .
قوله تعالى : { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنَّبِيِّ } الآية ؛ فيها نصٌّ على إباحة عقد النكاح بلفظ الهبة للنبي صلى الله عليه وسلم .
واختلف أهل العلم في عقد النكاح بلفظ الهبة لغير النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والثوري والحسن بن صالح : " يصحّ النكاح بلفظ الهبة ولها ما سمَّى لها ، وإن لم يُسَمِّ شيئاً فلها مهر مثلها " .
وذكر ابن القاسم عن مالك قال : " الهبة لا تحلّ لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت هبته إياها ليست على نكاح ، وإنما وهبها له ليحصنها أو ليكفيها ، فلا أرى بذلك بأساً " .
وقال الشافعي : " لا يصح النكاح بلفظ الهبة " .
وقد تنازع أهلُ العلم حكم هذه الآية ، فقال قائلون : " كان عقد النكاح بلفظ الهبة مخصوصاً به النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، لقوله تعالى في نسق التلاوة : { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ } " .
وقال آخرون : " بل كان النبي صلى الله عليه وسلم وأمّته في عقد النكاح بلفظ الهبة سواء ، وإنما خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم كانت في جواز استباحة البُضْع بغير بَدَلٍ " ؛ وقد رُوي نحو ذلك عن مجاهد وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح ، وهذا هو الصحيح لدلالة الآية والأصول عليه .
فأما دلالة الآية على ذلك فمن وجوه ، أحدها : قوله : { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ } ، فلمّا أخبر في هذه الآية أن ذلك كان خالصاً له دون المؤمنين مع إضافة لفظ الهبة إلى المرأة ، دلّ ذلك على أن ما خُصَّ به النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك إنما هو استباحة البضع بغير بدل ؛ لأنه لو كان المراد اللفظ لما شاركه فيه غيره ، لأن ما كان مخصوصاً به وخالصاً له فغير جائز أن تقع بينه وبين غيره فيه شركة حتى يساويه فيه ، إذ كانت مساواتهما في الشركة تزيل معنى الخلوص والتخصيص ، فلما أضاف لفظ الهبة إلى المرأة فقال : { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنَّبِيِّ } فأجاز العقد منها بلفظ الهبة علمنا أن التخصيص لم يقع في اللفظ وإنما كان في المهر . فإن قيل : قد شاركه في جواز تمليك البُضْعِ بغير بدل ولم يمنع ذلك خلوصها له ، فكذلك في لفظ العقد . قيل له : هذا غلط ؛ لأن الله أخبر أنها خالصة له ، وإنما جعل الخلوص فيما هو له ، وإسقاطُ المرأة المهر في العقد ليس هو لها ولكنه عليها ، فلم يخرجه ذلك من أن يكون ما جعل له خالصاً لم تشركه فيه المرأة ولا غيره .
والوجه الثاني من دلالة الآية قوله تعالى : { إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا } ، فسمَّى العقد بلفظ الهبة نكاحاً ، فوجب أن يجوز لكل أحد ، لقوله تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } [ النساء : 3 ] . وأيضاً لما جاز هذا العقد للنبيّ صلى الله عليه وسلم وقد أُمِرْنا باتباعه والاقتداء به ، وجب أن يجوز لنا فعل مثله إلا أن تقوم الدلالة على أنه كان مخصوصاً باللفظ دون أمّته ، وقد حصل له معنى الخلوص المذكور في الآية من جهة إسقاط المهر فوجب أن يكون ذلك مقصوراً عليه وما عداه فغير محمول على حكمه إلا أن تقوم الدلالة على أنه مخصوص به .
ومما يدل على أن خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم كانت في الصداق ما حدثنا عن عبدالله بن أحمد بن حنبل قال : حدثني أبي قال : حدثنا محمد بن بشر قال : حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة : " أنها كانت تُعَيِّرُ النساء اللاتي وَهَبْنَ أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : ألا تَستحي أن تعرض نفسها بغير صداق ! فأنزل الله تعالى : { تُزْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } إلى قوله : { فلا جُنَاحَ عَلَيْكَ } ؛ قالت عائشة رضي الله تعالى عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أرى ربك يسارع في هواك " . ويدل على جوازه بلفظ الهبة ما حُدِّثْنا عن محمد بن علي بن زيد الصائغ قال : حدثنا سعيد بن منصور قال : حدثنا يعقوب بن عبدالرّحمن قال : حدثنا أبو حازم عن سهل بن سعد أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله جئت لأهَبَ نفسي لك ! فنظر إليها فصعَّد البصر وصوّبه ثم طأطأ رأسه ، فقام رجل من الصحابة فقال : يا رسول الله إن لم تَكُ لك بها حاجة فزوجنيها ! وذكر الحديث ، إلى قوله : فقال : معي سورة كذا وسورة كذا ، فقال : " اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بما مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ " .
ففي هذا الحديث أنه عقد له النكاح بلفظ التمليك ، والهبةُ من ألفاظ التمليك ، فوجب أن يجوز بها عقد النكاح ؛ ولأنه إذا ثبت بلفظ التمليك بالسنّة ثبت بلفظ الهبة إذ لم يفرق أحد بينهما .
فإن قيل : قد رُوي أنه قال : " قَدْ زَوَّجْتُكَ بما مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ " . قيل له : يجوز أن يكون ذكر مرة التزويج ثم ذكر لفظ التمليك ليبين أنهما سواء في جواز عقد النكاح بهما . وأيضاً لما أشبه عقدُ النكاح عقودَ التمليكات في إطلاقه من غير ذكر الوقت وكان التوقيت يفسده ، وجب أن يجوز بلفظ التمليك والهبة كجواز سائر الأشياء المملوكة ؛ وهذا أصل في جواز سائر ألفاظ التمليك . ولا يجوز بلفظ الإباحة لأن لذلك أصلاً آخر يمنع جوازه وهو المتعة التي حرَّمها النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعنى المتعة إباحة التمتع بها ، فكُلّ ما كان من ألفاظ الإباحة لم ينعقد به عقد النكاح قياساً على المتعة ، وكل ما كان من ألفاظ التمليك ينعقد به النكاح قياساً على سائر عقود التمليكات لشبهه بها من الوجوه التي ذكرنا .
وقد اخْتُلِفَ في المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ، فرُوي عن ابن عباس روايةً وعكرمة : " أنها ميمونة بنت الحارث " .
وقال علي بن الحسن : " هي أم شريك الدَّوْسِيّة " . وعن الشعبي : " أنها امرأة من الأنصار " . وقيل : " إنها زينب بنت خزيمة الأنصارية " .
قوله تعالى : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ في أَزْوَاجِهِمْ } ؛ قال قتادة : " فرض أن لا ينكح امرأة إلا بولي وشاهدين وصداق ، ولا ينكح الرجل إلا أربعاً " . وقال مجاهد وسعيد بن جبير : " أربع " .
قال أبو بكر : وقوله : { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } يعني ما أباح لهم بملك اليمين كما أباحه للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله : { لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } يرجع والله أعلم إلى قوله : { إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } وما ذكر بعده فيما أباحه للنبي صلى الله عليه وسلم لئلا يضيق عليه ؛ لأن الحرج الضيق ، فأخبر تعالى بتوسعته على النبي صلى الله عليه وسلم فيما أباحه له وعلى المؤمنين فيما أطلقه لهم .