باب الطلاق قبل النكاح
قال الله تعالى : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } .
قال أبو بكر : قد تنازع أهل العلم في دلالة هذه الآية في صحة إيقاع طلاق المرأة بشرط التزويج وهو أن يقول : " إن تزوجت امرأة فهي طالق " ، فقال قائلون : " قد اقتضت الآية إلغاء هذا القول وإسقاطَ حكمه ، إذ كانت موجبة لصحة الطلاق بعد النكاح ، وهذا القائل مطلق قبل النكاح " .
وقال آخرون : " دلالتها ظاهرة في صحة هذا القول من قائله ولزوم حكمه عند وجود النكاح ؛ لأنها حكمت بصحة وقوع الطلاق بعد النكاح ، ومن قال لأجنبية : إذا تزوجتك فأنت طالق ، فهو مطلّق بعد النكاح ؛ فوجب بظاهر الآية إيقاع طلاقه وإثبات حكم لفظه " .
وهذا القول هو الصحيح ؛ وذلك لأنه لا يخلو العاقد لهذا القول من أن يكون مطلقاً في حال العقد أو في حال الإضافة ووجود الشرط ، فلما اتفق الجميع على أن من قال لامرأته : " إذا بِنْتِ مِنّي وصرتِ أجنبية فأنت طالق " أنه موقع للطلاق في حال الإضافة لا في حال القول ، وأنه بمنزلة من أبان امرأته ثم قال لها : " أنتِ طالق " فسقط حكم لفظه ولم يعتبر حال العقد مع وجود النكاح فيها ، صحَّ أن الاعتبار بحال الإضافة دون حال العقد ، فإن القائل " للأجنبية إذا تزوجتكِ فأنتِ طالق " موقعٌ للطلاق بعد الملك ، وقد اقتضت الآية إيقاع الطلاق لمن طلق بعد الملك .
وقد اختلف الفقهاء في ذلك على ضروب من الأقاويل ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزُفَر ومحمد : " إذا قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق ، أو قال كل مملوك أملكه فهو حرّ ، أن من تزوج تطلق ومن ملك من المماليك يعتق " ، ولم يفرّقوا بين من عَمَّ أو خَصَّ . وقال ابن أبي ليلى : " إذا عمّ لم يقع وإن سمَّى شيئاً بعينه أو جماعة إلى أجل وقع " ، وكذلك قول مالك ؛ وذكر عن مالك أيضاً : " أنه إذا ضرب لذلك أجلاً يعلم أنه لا يبلغه فقال إن تزوجت امرأة إلى كذا وكذا سنة ، لم يلزمه شيءٌ " . ثم قال مالك : " ولو قال كل عبد أشتريه فهو حر ، فلا شيء عليه " . وقال الثوري : " إذا قال إن تزوجتُ فلانة فهي طالق لزمه ما قال " ، وهو قول عثمان البتّي .
وقال الأوزاعي فيمن قال لامرأته كل جارية أَتَسَرَّى بها عليكِ فهي حرة فتسرَّى عليها جارية فإنها تعتق .
وقال الحسن بن صالح : " إذا قال كل مملوك أملكه فهو حرٌّ فليس بشيءٍ ، ولو قال أشتريه أو أرثه أو نحو ذلك عتق إذا ملك بذلك الوجه لأنه خَصَّ ، ولو قال كل امرأة أتزوجُها فهي طالق فليس بشيءٍ ، ولو قال من بني فلان أو من أهل الكوفة أو آل كذا لزمه " .
قال الحسن : لا نعلم أحداً منذ وُضعت الكوفة أفتى بغير هذا . وقال الليث فيما خص : " إنه يلزمه في الطلاق والعتق " .
وقال الشافعي : " لا يلزمه من ذلك شيء لا إذا خصّ ولا إذا عمّ " .
وقد اختلف السلف أيضاً في ذلك ، رُوي عن ياسين الزيات عن عطاء الخراساني عن أبي سلمة بن عبدالرّحمن أن عمر بن الخطاب قال في رجل قال : كل امرأة أتزوجها فهي طالق ، قال : " هو كما قال " . ورَوَى مالك عن سعيد بن عمرو بن سليم الزرقي أنه سأل القاسم بن محمد عن رجل طلق امرأته قبل أن يتزوجها ، فقال القاسم : " إن رجلاً خطب امرأة فقال هي عليَّ كظهر أمي إن تزوجتها ، فأمره عمر بن الخطاب أن يتزوجها ولا يَقْرَبها حتى يكفّر كفارة الظهار " .
وروى الثوري عن محمد بن قيس عن إبراهيم : " عن الأسود أنه قال : إن تزوجت فلانة فهي طالق ، فتزوجها ناسياً ، فأتى ابن مسعود فذكر ذلك له فألزمه الطلاق " ، وهو قول النخعي والشعبي ومجاهد وعمر بن عبدالعزيز ؛ وقال الشعبي : " إذا سمَّى امرأة بعينها أو قال إن تزوجت من بني فلان فهو كما قال ، وإذا قال كل امرأة أتزوجها فليس بشيء " . وقال سعيد بن المسيب : " إذا قال إن تزوجت فلانة فهي طالق فليس بشيء " .
وقال القاسم بن سالم وعمر بن عبدالعزيز : " هو جائز عليه " . ورُوي عن ابن عباس في رجل قال : إن تزوجت فلانة فهي طالق أنه ليس بشيءٍ . ورُوي عن عائشة وجابر في آخرين من التابعين قالوا : " لا طلاق قبل نكاح " .
ولا دلالة في هذا اللفظ على مخالفة قول أصحابنا ؛ لأن عندنا أن من قال : " إن تزوجتُ امرأةً فهي طالق " أنه مطلق بعد النكاح ، وما قدمنا من دلالة الآية على صحة قولنا كافٍ في الاحتجاج على المخالف وتصحيح المقالة . ويدل عليه قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } [ المائدة : 1 ] اقتضى ظاهره إلزام كل عاقد موجب عقده ومقتضاه ، فلما كان هذا القائل عاقداً على نفسه إيقاع طلاق بعد النكاح وَجَبَ أن يلزمه حكمه ؛ ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " المُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ " ، أوجب ذلك أن كل مَنْ شَرَطَ على نفسه شَرْطاً أُلزم حكمه عند وجود شرطه .
ويدل عليه من طريق النظر اتّفاقُ الجميع على أن النَّذْرَ لا يصح إلا في ملك ، وأن من قال : " إن رزقني الله ألف درهم فالله عليَّ أن أتصدق بمائة منها " . أنه ناذر في ملكه من حيث أضافه إليه وإن لم يكن مالكاً في الحال ، فكذلك الطلاق والعتق إذا أضافهما إلى الملك كان مطلّقاً ومُعْتِقاً في الملك .
ويدل عليه أن من قال لجاريته : " إن ولدتِ ولداً فهو حرٌّ " فحملت بعد ذلك وولدتْ أنه يعتق وإن لم يكن مالكاً في حال القول ؛ لأن الولد مضاف إلى الأم التي هو مالكها ، كذلك إذا أضاف العِتْقَ إلى الملك فهو معتق في الملك وإن لم يكن له ملك موجود في الحال .
وأيضاً قد اتفق الجميع على أنه إذا قال لامرأته : " إن دخلتِ الدارَ فأنت طالق " فدخلتها مع بقاء النكاح أنها تطلق ، ويكون بمنزلة ما لو قال لها في تلك الحال : " أنتِ طالق " ، ولو أبانها ثم دخلها كان بمنزلة ما لو قال لها في تلك الحال : " أنت طالق " فلا تطلق ، فدل ذلك على أن الحالف يصير كالمتكلم بالجواب في ذلك الوقت ، فوجب أن يكون القائل : " كل امرأة أتزوجها فهي طالق " فتزوَّج ، بمنزلة من تزوج ثم قال لها : " أنت طالق " .
فإن قيل : لو كان هذا صحيحاً لوجب أنه لو حلف ثم جُنَّ فوجد شرط اليمين أن لا يحنث ؛ لأنه بمنزلة المتكلم بالجواب في ذلك الوقت .
قيل له : لا يجب ذلك ؛ لأن المجنون لا قول له وقوله وسكوته بمنزلة ، فلما لم يصح قوله لم يصحَّ إيقاعه ابتداءً ، ولما كان قوله قبل الجنون صحيحاً لزمه حكمه في حال الجنون ؛ ومع ذلك فإن المجنون قد يصح طلاقُ امرأته وعِتْقُ عبده لأنه لو كان مجنوناً أو عِنّيناً لفرق بينه وبينها وكان طلاقاً ، ولو ورث أباه عتق عليه ، كالنائم لا يصح منه ابتداء الإيقاع ويلزمه حكمه بسبب يوجبه ، مثل أن يكون قد وكل بعتق عبده أو طلاق امرأته فطلق وهو نائم .
فإن قيل : قد رُوي عن عليّ ومعاذ بن جبل وجابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا طَلاقَ قَبْلَ نِكَاح " . قيل له : أسانيدها مضطربة لا يصح من جهة النقل ، ولو صح من جهة النقل لم يدل على موضع الخلاف ؛ لأن من ذكرنا مطلق بعد النكاح . وأيضاً فإنه نفى بذلك إيقاع طلاق قبل النكاح ولم يَنْفِ العقد ، فلما كان قوله : " لا طلاق قبل نكاح " حقيقته نفي الإيقاع ، والعقد على الطلاق ليس بطلاق ، لم يتناوله اللفظ من وجهين : أحدهما أن إطلاق ذلك في العقد مجاز لا حقيقة ؛ لأن من عقد يميناً على طلاق لا يقال إنه قد طلق ما لم يقع ، وحُكْمُ اللفظ حمله على الحقيقة حتى تقوم دلالة المجاز . والثاني : أنهم لم يختلفوا أنه مستعمل في الحقيقة ، فغير جائز أن يُراد به المجاز ؛ لأن لفظاً واحداً لا يجوز أن يراد به الحقيقة والمجاز .
وقد رُوي عن الزهري في قوله صلى الله عليه وسلم : " لا طَلاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ " إنّما هو أن يذكر للرجل المرأة فيقال له تَزَوَّجْها فيقول هي طالق البتة ، فهذا ليس بشيء ؛ فأما من قال : " إن تزوجت فلانة فهي طالق البتة " فإنما طلّقها حين تزوجها ، وكذلك في الحرية .
وقد قيل فيه : إنه إن أراد العقد فهو الرجل يقول لأجنبية : " إن دخلتِ الدار فأنتِ طالق " ثم يتزوجها فتدخل الدار فلا تطلق وإن كان الدخول في حال النكاح . قال أبو بكر : لا فرق بين من خَصَّ أو عَمَّ ؛ لأنه إن كان إذا خص فهو مطلق في الملك وكذلك حكمه إذا عم ، وإن كان إذا عم غير مطلق في ملك فكذلك في حال الخصوص .
فإن قيل : إذا عم فقد حرَّم جميع النساء على نفسه ، كالمظاهر لما حرم امرأته تحريماً مبهماً لم يثبت حكمه .
قيل له : هذا غلط من وجوه ، أحدها : أن المُظَاهِرَ إنما قصد تحريم امرأة بعينها ، ومن أصل المخالف أنه إذا عَيَّن وخصَّ وقع طلاقه ، وإنما لا يوقعه إذا عمّ ، فواجب على أصله أن لا يقع طلاقه وإن خَصَّ كما لم تحرم المظاهر منها تحريماً مبهماً ؛ وأيضاً فإن الله تعالى لم يبطل حكم ظهاره وتحريمه بل حرّمها عليه بهذا القول وأثبت عليه حكم ظهاره .
وأيضاً إن الحالف بطلاق من يتزوج من النساء غير محرّم للنساء على نفسه ؛ لأنه لم يوجب بذلك تحريم النكاح وإنما أوجب طلاقاً بعد صحة النكاح ووقوع استباحة البضع . وأيضاً فإنه إذا قال : " كل امرأة أتزوجها فهي طالق " متى ألزمناه ما عقد عليه من الطلاق لم يكن تحريم المرأة مبهماً بل إنما تطلق واحدة ويجوز له أن يتزوجها ثانياً ولا يقع شيء . فهذه الوجوه كلها تنبىء عن إغفال هذا السائل في سؤاله ذلك وأنه لا تعلق له بالمسألة .
قال أبو بكر : ومن الناس من يقول : إذا قال : " إن تزوجتُها فهي طالق وإن اشتريته فهو حرّ " أنه لا يقع إلا أن يقول : " إذا صحَّ نكاحي لكِ فأنت طالق بعد ذلك وإن ملكتكَ بالشّرَى فأنتَ حر " ؛ وذهب إلى أنه إذا جعل النكاح والشِّرَى شرطاً للطلاق والعتقا فسبيل ذلك البضع وملك الرقبة أن يقعا بعد العقد ، وهذه هي حال إيقاع الطلاق والعتق ، فيرد الملك والطلاق والعتاق معاً فلا يقعان ؛ لأن الطلاق والعتاق لا يقعان إلا في ملك مستقرّ قبل ذلك .
قال أبو بكر : وهذا لا معنى له ؛ لأن القائل : " إذا تزوجتكِ فأنتِ طالق وإذا اشتريتكَ فأنْتَ حرٌّ " معلوم من فَحْوَى كلامه أنه أراد به إيقاع الطلاق بعد صحة النكاح وإيقاع العتاق بعد صحة الملك ، فيكون بمنزلة القائل : " إذا ملكتكِ بالنكاح أو ملكتكَ بالشّرَى " فلما كان الملك بالنكاح والشِّرَى في مضمون اللفظ صار ذلك كالنطق به .
فإن قيل : لو كان ذلك كذلك لوجب أن يكون القائل : " إن اشتريتُ عبداً فامرأتي طالق " فاشترى عبداً لغيره أن لا تطلق امرأته لأن في مضمون لفظه الملك ، كأنه قال : " إن ملكت بالشّرَى " . قيل له : لا يجب ذلك ؛ لأن اللفظ إنما يتضمن الملك فيما يوقع طلاقه أو عتقه ، فأما في غيرهما فهو محمول على حكم اللفظ من غير تضمين له بوقوع ملك ولا غيره .
وقوله تعالى : { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } ، قد بينا في سورة البقرة أن الخلوة مرادة بالمسيس وأن نفي العدة متعلق بنفي الخلوة والجماع جميعاً ، وفيما قدمنا ما يغني عن الإعادة .
وقوله تعالى : { فَمَتِّعُوهُنَّ } إن كان المراد من لم يسمّ لها مهراً فهو على الوجوب ، كقوله تعالى : { أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن } [ البقرة : 236 ] ، وإن كان المراد المدخول بها فهو ندبٌ غير واجب . وقد حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال : أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى : { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } الآية ، قال : " التي نكحت ولم يبين لها ولم يفرض لها فليس لها صداق وليس عليها عدة " . وقال قتادة عن سعيد : " هي منسوخة بقوله في البقرة : { فنصف ما فرضتم } [ البقرة : 237 ] " . وقوله تعالى : { وَسَرِّحُوهُنَّ } بعد ذكر الطلاق قبل الدخول ، يشبه أن يكون المراد به إخراجها من بيته أو من حباله ؛ لأنه مذكور بعد الطلاق ، فالأظهر أن هذا التسريح ليس بطلاق ولكنه بيان أنه لا سبيل له عليها وأن عليه تَخْلِيَتها من يده وحباله . وبالله التوفيق .