باب الفرائض
قال أبو بكر : قد كان أهل الجاهلية يتوارثون بشيئين : أحدهما النسب والآخر السبب ، فأما ما يستحق بالنسب فلم يكونوا يورثون الصغارَ ولا الإناثَ وإنما يورثون من قاتل على الفَرَس وحاز الغنيمة ، رُوي ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير في آخرين منهم ، إلى أن أَنزل الله تعالى : { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن } [ النساء : 127 ] إلى قوله تعالى : { والمستضعفين من الولدان } [ النساء : 127 ] ، وأنزل الله تعالى قوله : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } . وقد كانوا مُقَرّين بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم على ما كانوا عليه في الجاهلية في المناكحات والطلاق والميراث إلى أن نُقلوا عنه إلى غيره بالشريعة ، قال ابن جريج : قلت لعطاء : أَبَلَغَكَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرَّ الناس على ما أدركهم صلى الله عليه وسلم من طلاق أو نكاح أو ميراث ؟ قال : لم يبلغنا إلا ذلك . ورَوَى حماد بن زيد عن ابن عون عن ابن سيرين قال : " توارث المهاجرون والأنصار بِنَسَبِهِم الذي كان في الجاهلية " . وقال ابن جريج عن عمرو بن شعيب قال : " ما كان من نكاح أو طلاق في الجاهلية فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أقَرَّهُ على ذلك إلا الرّبا ، فما أدرك الإسلام من رِباً لم يُقْبضْ رُدَّ إلى البائع رأس ماله وطُرح الربا " . وروى حماد بن زيد عن أيوب عن سعيد بن جبير قال : " بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم والناس على أمر جاهليتهم إلى أن يؤمروا بشيء أو يُنْهَوْا عنه ، وإلا فهم على ما كانوا عليه من أمر جاهليتهم " ، وهو على ما رُوي عن ابن عباس أنه قال : " الحلال ما أَحَلَّ الله تعالى والحرام ما حَرَّمَ الله تعالى ، وما سكت عنه فهو عَفْوٌ " . فقد كانوا مُقَرّين بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فيما لا يحظره العقل على ما كانوا عليه ، وقد كانت العرب متمسكة ببعض شرائع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، وقد كانوا أحدثوا أشياء منها ما يحظره العقل نحو الشِّرْكِ وعبادةِ الأوثان ودَفْنِ البنات وكثيرٍ من الأشياء المقبحة في العقول ، وقد كانوا على أشياء من مكارم الأخلاق وكثير من المعاملات التي لا تحظرها العقول ، فبعث الله نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم داعياً إلى التوحيد وتَرْكِ ما تحظره العقول من عبادة الأوثان ودَفْن البنات والسائبة والوَصِيلَة والحامي وما كانوا يتقربون به إلى أوثانهم ، وتَرْكِهِمْ فيما لم يكن العقل يُحَظّره من المعاملات وعقود البياعات والمناكحات والطلاق والمواريث على ما كانوا عليه ؛ فكان ذلك جائزاً منهم ، إذ ليس في العقل حظره ولم تقم حجة السمع عليهم بتحريمه ، فكان أمر مواريثهم على ما كانوا عليه من توريث الذكور المقاتِلَةِ منهم دون الصغار ودون الإناث إلى أن أنزل الله تعالى آيَ المواريث . وكان السببُ الذي يتوارثون به شيئين ، أحدهما : الحلف والمعاقدة ، والآخر : التبنّي ؛ ثم جاء الإسلام فتُرِكُوا برهةً من الدهر على ما كانوا عليه ثم نُسخ ، فمن الناس من يقول إنهم كانوا يتوارثون بالحلف والمعاقدة بنصّ التنزيل ثم نسخ ، وقال شيبان عن قتادة في قوله تعالى : { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } [ النساء : 33 ] قال : " كان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول دمي دمُك وهَدْمِي هَدْمُكَ وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك " قال : " فورثوا السدس في الإسلام من جميع الأموال ثم يأخذ أهل الميراث ميراثهم ، ثم نسخ بعد ذلك فقال الله تعالى : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } [ الأنفال :75 ] . وروى الحسن بن عطية عن أبيه عن ابن عباس في قوله تعالى : { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } [ النساء : 33 ] : " كان الرجل في الجاهلية يحلف له الرجل فيكون تابعاً له ، فإذا مات صار الميراث لأهله وأقاربه وبقي تابعه ليس له شيء ، فأنزل الله تعالى : { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } [ النساء : 33 ] فكان يعطى من ميراثه " . وقال عطاء عن سعيد بن جبير في قوله تعالى : { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } [ النساء : 33 ] : وذلك أن الرجل في الجاهلية وفي الإسلام كان يرغب في خلّة الرجل فيعاقده فيقول : ترثني وأرِثُك ، وأيهما مات قبل صاحبه كان للحيِّ ما اشترط من مال الميت ، فلما نزلت هذه الآية في قسمة الميراث ولم يذكر أهل العقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله نزلت قسمة الميراث ولم يذكر أهل العقد وقد كنت عاقدت رجلاً فمات ؟ فنزلت : { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيداً } [ النساء : 33 ] .
فأخبر هؤلاء السلف أن ميراث الحليف قد كان حكمه ثابتاً في الإسلام من طريق السَّمْعِ لا من جهة إقرارهم على ما كانوا عليه من أمر الجاهلية . وقال بعضهم : لم يكن ذلك ثابتاً بالسمع من طريق الشرع وإنما كانوا مُقَرِّين على ما كانوا عليه من أمر الجاهلية إلى أن نزلت آية المواريث فأزالت ذلك الحكم ؛ حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عبدالرحمن عن سفيان عن منصور عن مجاهد في قوله تعالى : { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } [ النساء : 33 ] قال : " كان حلفاء في الجاهلية فأُمروا أن يعطوهم نصيبهم من المشورة والعقل والنصر ولا ميراث لهم " . قال : وحدثنا أبو عبيد قال : حدثنا معاذ عن ابن عون عن عيسى بن الحارث عن عبدالله بن الزبير في قوله تعالى : { وأولوا الأرحام بعضهم أوْلى ببعض } [ الأنفال : 75 ] قال : " نزلت هذه الآية في العَصَبَات ، كان الرجل يعاقد الرجل يقول ترثني وأرثك ، فنزلت : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } [ الأنفال : 75 ] " . قال : وحدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن إبراهيم عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } [ النساء : 33 ] قال : " كان الرجل يقول ترثني وأرثك ، فنسختها : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً } [ الأنفال : 75 ] " قال : " إلا أن توصوا لأوليائهم الذين عاقدوهم وصية " .
فذكر هؤلاء أن ما كان من ذلك في الجاهلية نُسِخَ بقوله تعالى : { وأولوا الأرحام } [ الأنفال : 75 ] ، وأن قوله تعالى : { فآتوهم نصيبهم } [ النساء : 33 ] إنما أُرِيدَ به الوصية أو المشورة والنصر من غير ميراث ؛ وأوْلى الأشياء بمعنى الآية تثبيت التوارث بالحلف ؛ لأن قوله تعالى : { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } [ النساء : 33 ] يقتضي نصيباً ثابتاً لهم ، والعقلُ والمشورةُ والوصيةُ ليست بنصيب ثابتٍ ، وهو مثل قوله تعالى : { للرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَللنِّسَاءِ نَصِيبٌ } المفهوم من ظاهره إثباتُ نصيب من الميراث ، كذلك قوله تعالى : { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } [ النساء : 33 ] قد اقتضى ظاهرُه إثباتَ نصيب لهم قد استحقوه بالمعاقدة ؛ والمشورةُ يستوي فيها سائر الناس فليست إذاً بنصيب ، فالعقل إنما يجب على حلفائه وليس هو بنصيب له ، والوصية إن لم تكن مستحَقّة واجبة فليست بنصيب ؛ فتأويل الآية على النصيب المسمَّى له في عقد المحالفة أوْلى وأشبه بمفهوم الخطاب مما قال الآخرون . وهذا عندنا ليس بمنسوخ ، وإنما حدث وارثٌ آخر هو أوْلَى منهم كحدوث ابنٍ لمن له أخٌ لم يخرج الأخ من أن يكون من أهل الميراث ، إلا أن الابن أوْلى منه ، وكذلك أولو الأرحام أوْلى من الحليف ، فإذا لم يكن رَحِمٌ ولا عَصَبَةٌ فالميراث لمن حالفه وجعله له ؛ وكذلك أجاز أصحابنا الوصية بجميع المال لمن لا وارث له .
وأما الميراثُ بالدعوة والتبنّي فإن الرجل منهم كان يتبنَّى ابْنَ غيره فيُنْسَبُ إليه دون أبيه من النسب ويَرِثُهُ ، وقد كان ذلك حكماً ثابتاً في الإسلام ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم تبنَّى زيد بن حارثة وكان يقال له زيد بن محمد حتى أنزل الله تعالى : { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } [ الأحزاب : 40 ] ، وقال تعالى : { فلما قضى زيد منها وطراً زَوَّجنَاكَها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم } [ الأحزاب : 37 ] ، وقال تعالى : { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم } [ الأحزاب : 5 ] . وقد كان أبو حذيفة بن عتبة تبنَّى سالماً ، فكان يقال له سالم بن أبي حذيفة ، إلى أن أنزل الله تعالى : { ادعوهم لآبائهم } [ الأحزاب : 40 ] ؛ رواه الزهري عن عروة عن عائشة ؛ فنسخ الله تعالى الدعوة بالتبنِّي ونسخ ميراثه . حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان المؤدب قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عبدالله بن صالح عن ليث عن عقيل عن ابن شهاب قال : أخبرني سعيد بن المسيب في قوله تعالى : { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } [ النساء : 33 ] قال ابن المسيب : " إنما أنزل الله تعالى ذلك في الذين كانوا يتبنّون رجالاً ويورثونهم ، فأنزل الله تعالى فيهم أن يجعل لهم نصيب من الوصية ورد الميراث إلى الموالي من ذوي الرحم والعَصَبَة ، وأبَى الله أن يجعل للمدَّعِينَ ميراثاً ممن ادّعاهم ، ولكن جعل لهم نصيباً من الوصية ، فكان ما تعاقدوا عليه في الميراث الذي ردّ عليه أمرهم " .
قال أبو بكر : وجائز أن يكون المراد بقوله تعالى : { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } [ النساء : 33 ] منتظِماً للحلف والتبنّي جميعاً ، إذ كل واحد منهما يثبت بالعقد ؛ فهذا الذي ذكرنا كان من مواريث الجاهلية وبقي في الإسلام بعضها بالإقرار عليه إلى أن نُقلوا عنه ، وبعضه بنصٍّ ورد في إثباته إلى أن ورد ما أوجب نقله .
وأما مواريث الإسلام فإنها معقودة بشيئين : أحدهما نسب ، والآخر سبب ليس بنسب ؛ فأما المستحق بالنسب فما نصَّ الله تعالى عليه في كتابه وبيَّن رسولُه صلى الله عليه وسلم بعضه وأجمعت الأمّة على بعضه وقامت الدلالة على بعض ، وأما السبب الذي ورث به في الإسلام فبعضه ثابت وبعضه منسوخ الحكم . فمن الأسباب التي ورث بها في الإسلام ما ذكرنا في عقد المحالفة وميراث الأدعياء ، وقد ذكرنا حكمه ونسخ ما رُوي نسخه وأن ذلك عندها ليس بنسخ وإنما جُعِلَ وارثٌ أوْلى من وارث .
وكان من الأسباب التي أوجب الله تعالى به الميراث الهجرة ؛ حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى : { إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين أووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا } [ الأنفال : 72 ] قال : " كان المهاجر لا يتولّى الأعرابيَّ ولا يرثه وهو مؤمن ، ولا يرثُ الأعرابيُّ المهاجر ، فنسختها : { وأولوا الأرحام بعضهم أوْلى ببعض } [ الأنفال : 75 ] " . وقال بعضهم : " نسخها قوله تعالى : { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون } [ النساء : 33 ] ، وكانوا يتوارثون بالأُخُوَّةِ التي آخَى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم " . ورَوَى هشام بن عروة عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخَى بين الزبير بن العوام وبين كعب بن مالك ، فارْتَثّ كعب يوم أحد ، فجاء به الزبير يقوده بزمام راحلته ، ولو مات كعب عن الضحّ والريح لورثه الزبير ، حتى أنزل الله تعالى : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم } [ الأنفال : 75 ] . وروى ابن جريج عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : " كان المهاجرون والأنصار يرث الرجل الرجل الذي آخَى بينه وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أخيه ، فلما نزلت هذه الآية : { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون } [ النساء : 33 ] نسخت ، ثم قال تعالى : { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } [ النساء : 33 ] من النصر والرفادة " . فذكر ابن عباس في هذا الحديث أن قوله تعالى : { والذين عقدت أيمانكم } [ النساء : 33 ] أُريد به معاقدة الأُخُوَّةِ التي آخَى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم . وروى معمر عن قتادة في قوله تعالى : { ما لكم من ولايتهم من شيء } [ الأنفال : 72 ] أن المسلمين كانوا يتوارثون بالهجرة والإسلام ، فكان الرجل يُسلم ولا يهاجر فلا يرث أخاه ، فنَسَخَ الله تعالى ذلك بقوله : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين } [ الأنفال : 75 ] . وروى جعفر بن سليمان عن الحسن قال : كان الأعرابي المسلم لا يرث من المهاجر شيئاً وإن كان ذا قُرْبَى ليحثّهم بذلك على الهجرة ، فلما كثر المسلمون أنزل الله تعالى : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين } [ الأنفال : 75 ] فنسخت هذه الآية تلك ، { إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً } [ الأحزاب : 6 ] ، فرخص الله للمسلم أن يوصي لقرابته من اليهود والنصارى والمجوس من الثلث وما دونه ، { كان ذلك في الكتاب مسطوراً } [ الأحزاب : 6 ] قال : مكتوباً .
فجملة ما حصل عليه التوارث بالأسباب في أول الإسلام التبنّي والحلف والهجرة والمؤاخاة التي آخَى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم نسخ الميراث بالتبني والهجرة والمؤاخاة ؛ وأما الحلف فقد بيّنا أنه جعلت القرابة أوْلى منه ولم يُنْسَخْ إذا لم تكن قرابة ، وجائز أن يجعل له جميع ماله أو بعضه . ومن الأسباب التي عُقِدَ بها التوارثُ في الإسلام ولاء العتاقة والزوجية وولاء الموالاة ، وهو عندنا يجرِي مجرى الحلف ، وإنما يثبت حكمه إذا لم يكن وارث من ذي رحم أو عصبة . فجميع ما انعقدت عليه مواريث الإسلام السببُ والنسبُ . والسببُ كان على أنحاء مختلفة منها المعاقدة بالحلف والتبنّي والأُخوَّة التي آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والهجرة والزوجية وولاء العتاقة وولاء الموالاة ، فأما إيجاب الميراث بالحلف والتبنّي والأُخوّة التي آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها فمنسوخٌ مع وجود العَصَبَاتِ وذوي الأرحام ، ووَلاءُ العتاقة والموالاة والزوجيةُ هي أسباب ثابتة يستحق بها الميراث على الترتيب المشروط لذلك ؛ وأما النسب الذي يستحق به الميراث فينقسم إلى أنحاء ثلاثة : ذوو السهام والعصبات وذوو الأرحام ، وسنبين ذلك في موضعه .
فأما الآيات الموجبة لميراث ذوي الأنساب من ذوي السهام والعَصَبَات وذوي الأرحام ، فقوله تعالى : { للرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ وللنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ } ، وقوله تعالى : { وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدانِ } [ النساء : 127 ] ، نُسخ بهما في رواية عن ابن عباس وغيره من السلف ما كان عليه الأمْرُ في توريث الرجال المقاتِلَةِ دون الذكور الصغار والإناث .
وقوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أَوْلاَدِكُمْ } فيه بيانٌ للنصيب المفروض في قوله تعالى : { للرِّجَالِ نَصِيبٌ } إلى قوله تعالى : { نَصِيباً مَفْرُوضاً } ، والنصيبُ المفروضُ هو الذي بيَّن مقداره في قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ } . وقد رُوي عن ابن عباس أنه قرأ : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين } [ البقرة : 180 ] فقال : " قد نَسَخَ هذا قولُه تعالى : { للرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ } " . وقال مجاهد : " كان الميراث للولد وكانت الوصية للوالدين والأقربين ، فنسخ الله تعالى من ذلك ما أحبَّ ، فجعل للولد الذكر مثل حظّ الأنثيين ، وجعل لكل واحد من الأبوين السدس مع الولد " . قال ابن عباس : وقد كان الرجل إذا مات وخلف زوجته اعْتَدَّتْ سنة كاملة في بيته ينفق عليها من تَرِكَتِهِ ، وهو قوله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج } [ البقرة : 240 ] ، ثم نسخ ذلك بالربع أو الثمن . وقوله تعالى : { وأولوا الأرحام بعضهم أوْلى ببعض } [ الأنفال : 75 ] نُسخ به التوارث بالحلف وبالهجرة وبالتبنّي على النحو الذي بيّنا ؛ وكذلك قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ } هي آية محكمة غير منسوخة ، وهي موجبة لنسخ الميراث بهذه الأسباب التي ذكرنا ؛ لأنه جعل الميراث للمسلمين فيها ، فلا يبقى لأهل هذه الأسباب شيء ، وذلك موجب لسقوط حقوقهم في هذه الحال . ورَوَى محمد بن عبدالله بن عقيل عن جابر بن عبدالله قال : جاءت امرأة من الأنصار ببنتين لها فقالت : يا رسول الله هاتان بنتا ثابت بن قيس قُتِلَ معك يوم أُحُد ولم يَدَعْ لهما عَمُّهما مالاً إلا أخذه ، فما ترى يا رسول الله ؟ فوالله لا تُنكحان أبداً إلا ولهما مال ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يَقْضِي اللَّهُ في ذَلِكَ " ، فنزلت سورة النساء : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ للذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } الآية ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ادْعُ لِي المَرْأَةَ وَصَاحِبَهَا " ! فقال لعمهما : " أَعْطِهِمَا الثُّلُثَيْنِ وأَعْطِ أُمَّهُما الثُّمُنَ وما بَقِيَ فَلَكَ " . قال أبو بكر : قد حوى هذا الخبر معاني : منها أن العمّ قد كان يستحق الميراث دون البنتين على عادة أهل الجاهلية في توريث المقاتِلَةِ دون النساء والصبيان ، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حين سألته المرأة بل أقَرَّ الأمر على ما كان عليه وقال لها : " يقضي الله في ذلك " ، ثم لما نزلت الآية أمر العَمَّ بدَفْعِ نصيب البنتين والمرأة إليهن ؛ وهذا يدل على أن العم لم يأخذ الميراث بدياً من جهة التوقيف بل على عادة أهل الجاهلية في المواريث ؛ لأنه لو كان كذلك لكان إنما يستأنف فيما يحدث بعد نزول الآية وما قد مضى على حكم منصوص متقدم لا يعترض عليه بالنسخ ، فدل على أنه أخذه على حكم الجاهلية التي لم ينقلوا عنها . ورَوَى سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله قال : مَرِضْتُ فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعُودُونِي فأتاني وقد أُغمي عليَّ ، فتوضّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رَشَّ عليَّ من وَضُوئِه فأفقت فقلت : يا رسول الله كيف تقضي في مالي ؟ فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية المواريث : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أوْلاَدِكُمْ للذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } .
قال أبو بكر : ذكر في الحديث الأول قصة المرأة مع بنتيها وذكر في هذا الحديث أن جابراً سأله عن ذلك ، وجائز أن يكون الأمران جميعاً قد كانا ؛ سألته المرأة فلم يُجِبْها منتظراً للوحي ثم سأله جابر في حال مرضه ، فنزلت الآية وهي ثابتة الحكم مُثْبِتَةٌ للنصيب المفروض في قوله تعالى : { للرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ } الآية .
ولم يختلف أهل العلم في أن المراد بقوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ } أولادُ الصُّلْبِ ، وأن ولد الولد غيرُ داخلٍ مع ولد الصُّلْبِ ، وأنه إذا لم يكن ولد الصلب فالمراد أولاد البنين دون أولاد البنات ، فقد انتظم اللفظ أولادِ الصلب وأولاد الابن إذا لم يكن ولد الصلب ، وهذا يدل على صحة قول أصحابنا فيمن أوْصَى لولد فلان أنه لولده لصلبه ، فإن لم يكن له ولد لصلبه فهو لولد ابنه .
وقوله تعالى : { للذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } قد أفاد أنه إن كان ذكراً وأنثى فللذكر سهمان وللأنثى سهم ، وأفاد أيضاً أنهم إذا كانوا جماعةً ذكوراً وإناثاً أن لكل ذكر سهمين ولكل أنثى سهماً ، وأفاد أيضاً أنه إذا كان مع الأولاد ذَوُو سهام نحو الأبوين والزوج والزوجة أنهم متى أخذوا سهامهم كان الباقي بعد السهام بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين ؛ وذلك لأن قوله تعالى : { للذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } اسْمٌ للجنس يشتمل على القليل والكثير منهم ، فمتى ما أخذ ذوو السهام سهامهم كان الباقي بينهم على ما كانوا يستحقونه لو لم يكن ذو سهم .
وقوله عز وجل : { فإنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلْثَا مَا تَرَكَ وَإنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } ، فنصّ على نصيب ما فوق الابنتين وعلى الواحدة ولم ينصَّ على فرض الابنتين ؛ لأن في فَحْوَى الآية دلالة على بيان فرضهما ، وذلك لأنه قد أُوجب للبنت الواحدة مع الابن الثلث ، وإذا كان لها مع الذكر الثلث كانت بأخذ الثلث مع الأنثى أوْلَى ، وقد احْتَجْنَا إلى بيان حكم ما فوقهما ؛ فلذلك نصَّ على حكمه . وأيضاً لما قال الله تعالى : { للذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } فلو ترك ابناً وبنتاً كان للابن سهمان ثلثا المال وهو حظ الأنثيين ، فدل ذلك على أن نصيب الابنتين الثلثان لأن الله تعالى جعل نصيب الابن مثل نصيب البنتين وهو الثلثان . ويدل على أن للبنتين الثلثين أن الله تعالى أَجْرَى الإخوة والأخوات مجرى البنات وأجرى الأخت الواحدة مجرى البنت الواحدة ، فقال تعالى : { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك } [ النساء : 176 ] ، ثم قال : { فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين } [ النساء : 176 ] فجعل حَظَّ الأختين كحظّ ما فوقهما وهو الثلثان كما جعل حظَّ الأخت كحظ البنت ، وأوجب لهم إذا كانوا ذكوراً وإناثاً للذكر مثل حظ الأنثيين ، فوجب أن تكون الابنتان كالأختين في استحقاق الثلثين لمساواتهما لهما في إيجاب المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين إذا لم يكن غيرهم ، كما في مساواة الأخت للبنت إذا لم يكن غيرها في استحقاق النصف بالتسمية . وأيضاً البنتان أوْلى بذلك ، إذ كانتا أقْرَبَ إلى الميت من الأختين ، وإذا كانت الأخت بمنزلة البنت فكذلك البنتان في استحقاق الثلثين ؛ ويدل على ذلك حديث جابر في قصة المرأة التي أعْطَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيها البنتين الثلثين والمرأة الثمن والعمَّ ما بقي . ولم يخالف في ذلك أحد إلا شيئاً رُوي عن ابن عباس أنه جعل للبنتين النصف كنصيب الواحدة واحتجَّ بقوله تعالى : { فإنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } ، وليس في ذلك دليل على أن للابنتين النصف وإنما فيه نصٌّ على أن ما فوق ابنتين فلهن الثلثان ، فإن كان القائل بأن للابنتين الثلثين مخالفاً للآية فإن الله تعالى قد جعل للابنة النصف إذا كانت وحدها ، وأنتَ جعلتَ للابنتين النصف وذلك خلاف الآية ، فإن لم تلزمه مخالفة الآية حين جعل للابنتين النصف وإن كان الله قد جعل للواحدة النصف فكذلك لا تلزم مخالفيه مخالفة الآية في جعلهم للابنتين الثلثين ، لأن الله تعالى لم يَنْفِ بقوله تعالى : { فإنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } أن يكون للابنتين الثلثان وإنما نصَّ على حكم ما فوقهما ، وقد دلّ على حكمهما في فحوى الآية على النحو الذي بَيَّنَّا وما ذكرناه من دلالة حكم الأختين على حكم الابنتين على ما ذكرنا . وقد قيل إن قوله تعالى : { فإنْ كُنَّ نِسَاءُ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ } أن ذِكْرَ " فوق " ههنا صلة للكلام ، كقوله تعالى : { فاضربوا فوق الأعناق } [ الأنفال : 12 ] .
قوله تعالى : { وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ } يوجب ظاهره أن يكون لكل واحد منهما السدس مع الولد ذكراً كان الولد أو أنثى ؛ لأن اسم الولد ينتظمهما ، إلا أنه لا خلاف إذا كان الولد بنتاً لا تستحق أكثر من النصف لقوله تعالى : { وإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } ، فوجب أن تُعْطَى النصف بحكم النصّ ، ويكون للأبوين لكل واحد السدس بنصّ التنزيل ، ويبقى السدس يستحقه الأب بالتعصيب ؛ فاجتمع ههنا للأب الاستحقاق بالتسمية وبالتعصيب جميعاً ؛ وإن كان الولد ذكراً فللأبوين السدسان بحكم النص ؛ والباقي للابن لأنه أقرب تعصيباً من الأب . وقال تعالى : { فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ } فأثبت الميراث للأبوين بعموم اللفظ ثم فصل نصيب الأم وبين مقداره بقوله : { فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ } ولم يذكر نصيب الأب فاقتضى ظاهرُ اللفظ للأب الثلثين إذ ليس هناك مستحق غيره وقد أثبت الميراث لهما بدياً . وقد كان ظاهر اللفظ يقتضي المساواة لو اقتصر على قوله تعالى : { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ } دون تفصيل نصيب الأم ، فلما قَصَرَ نصيبَ الأمّ على الثلث عُلم أن المستحق للأب الثلثان .
قوله تعالى : { فإنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ } . قال عليّ وعبدالله بن مسعود وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وزيد بن ثابت وسائر أهل العلم : " إذا ترك أخوين وأبوين فلأمّه السدسُ وما بقي فلأبيه " ، وحجبوا الأم عن الثلث إلى السدس كحَجْبِهِمْ لها بثلاثة إخوة . وقال ابن عباس : " للأم الثلث " ، وكان لا يحجبها إلا بثلاثة من الإخوة والأخوات . وروى معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس : " إذا ترك أبوين وثلاثة إخوة فللأم السدس وللإخوة السدس الذي حجبوا الأمّ عنه وما بقي فللأب " . ورُوي عنه : " أنه إن كان الإخوة من قِبَلِ الأمّ فالسُّدُسُ لهم خاصة ، وإن كانوا من قِبَلِ الأب والأم أو من قِبَلِ الأب لم يكن لهم شيء وكان ما بعد السدس للأب " . والحجة للقول الأول أن اسم الإخوة قد يقع على الاثنين كما قال تعالى : { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } [ التحريم : 4 ] وهما قلبان ؛ وقال تعالى : { وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوّروا المحراب } [ ص : 21 ] ، ثم قال تعالى : { خصمان بغى بعضنا على بعض } [ ص : 22 ] ، فأطلق لفظ الجمع على اثنين ؛ وقال تعالى : { وإنْ كَانُوا إخْوَةً رِجَالاً ونِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } ، فلو كان أخاً وأختاً كان حكم الآية جارياً فيهما . وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اثْنَانِ فما فَوْقَهُما جَمَاعَةٌ " ، ولأن الاثنين إلى الثلاثة في حكم الجمع أقرب منهما إلى الواحد ؛ لأن لفظ الجمع موجود فيهما نحو قولك : " قاما وقعدا وقاموا وقعدوا " كل ذلك جائز في الاثنين والثلاثة ولا يجوز مثله في الواحد ، فلما كان الاثنان في حكم اللفظ أقرب إلى الثلاثة منهما إلى الواحد وَجَبَ إلحاقهما بالثلاثة دون الواحد . وقد روى عبدالرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد عن أبيه ، أنه كان يحجب الأم بالأخوين ، فقالوا له : يا أبا سعيد إن الله تعالى يقول : { فإنْ كَانَ لَهُ إخْوَةُ } وأنت تحجبها بالأخوين ! فقال : إن العرب تسمِّي الأخوين إخوة . فإذا كان زيد بن ثابت قد حكى عن العرب أنها تسمِّي الأخوين إخوة ، فقد ثبت أن ذلك اسم لهما فيتناولهما اللفظ . وأيضاً قد ثبت أن حكم الأختين حكم الثلاث في استحقاق الثلثين بنصِّ التنزيل في قوله تعالى : { وإنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } ، وكذلك حكم الأختين من الأمّ حكم الثلاث في استحقاق الثلث دون حكم الواحدة ، فوجب أن يكون حكمهما حكم الثلاث في حَجْبِ الأمّ عن الثلث إلى السُّدُسِ ، إذ كان حكم كل واحد من ذلك حكماً متعلقاً بالجمع ، فاستوى فيه حكم الاثنين والثلاث . ورُوي عن قتادة أنه قال : " إنما يحجب الإخوةُ الأمَّ من غير أن يرثوا مع الأب لأنه يقوم بنكاحهم والنفقة عليهم دون الأم " . وهذه العلة إنما هي مقصورة على الإخوة من الأب والأم والإخوة من الأب ، فأما الإخوة من الأمّ فليس إلى الأب شيء من أمرهم وهم يُحْجَبُون أيضاً كما يُحجبُ الإخوة من الأب والأمِّ ، ولا خلاف بين الصحابة في ثلاثة إخوة وأبوين أن للأمّ السدس وما بقي فللأب ؛ إلا شيئاً يُرْوَى عن ابن عباس . وروى عبدالرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس : " أن للأمّ السدس وللإخوة السدس الذي حَجَبُوا الأم عنه وما بقي فللأب ، وكان لا يحجب بمن لا يرث ، فلما حجب الأم بالإخوة ورثهم " . وهو قول شاذ وظاهر القرآن خلافه ؛ لأنه تعالى قال : { وَوَرِثَهُ أبَوَاهُ فلأُمِّهِ الثُلُثُ } ثم قال تعالى : { فإنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ } عطفاً على قوله تعالى : { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ } ، تقديره : وورثه أبواه وله إخوة ؛ وذلك يمنع أن يكون للإخوة شيء .
قوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } . الدين مؤخر في اللفظ وهو مبتدأ به في المعنى على الوصية ؛ لأن " أو " لا توجب الترتيب وإنما هي لأحد شيئين ، فكأنه قيل : من بعد أحد هذين . وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال : " ذكر الله الوصية قبل الدين وهي بعده " يعني أنها مقدمة في اللفظ مؤخرة في المعنى .
باب ميراث أولاد الابن
قال أبو بكر رضي الله عنه : قد بيَّنا أن قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ } قد أُرِيدَ به أولاد الصلب وأولاد الابن إذا لم يكن ولد الصُّلْبِ ، إذ لا خلاف أن من ترك بني ابن وبنات ابن أن المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين بحكم الآية ، وكذلك لو ترك بنتَ ابن كان لها النصف وإن كُنَّ جماعةً كان لهن الثلثان على سهام ميراث ولد الصلب ، فثبت بذلك أن أولاد الذكور مرادون بالآية .
واسم الولد يتناول أولاد الابن كما يتناول أولاد الصُّلْبِ ، قال الله تعالى : { يا بني آدم } ولا يمتنع أحد أن يقول إن النبيّ صلى الله عليه وسلم من وَلَدِ هاشم ومن ولد عبد المطلب ، فثبت بذلك أن اسم الأولاد يقع على ولد الابن وعلى ولد الصلب جميعاً ؛ إلا أن أولاد الصلب يقع عليهم هذا الاسم حقيقةً ويقع على أولاد الابن مجازاً ، ولذلك لم يُرادوا في حال وجود أولاد الصلب ولم يشاركوهم في سهامهم ، وإنما يستحقّون ذلك في أحد حالين : إما أن يعدم ولدُ الصلب رأساً فيقومون مقامهم ، وإما أن لا يَحُوزَ ولدُ الصلب الميراث فيستحقّون بعض الفضل أو جميعه ، فأما أن يستحقوا مع أولاد الصلب على وجه الشركة بينهم كما يستحقه ولد الصلب بعضهم مع بعض فليس كذلك .
فإن قيل : لما كان الاسم يتناول ولد الصلب حقيقةً وولَدَ الابن مجازاً لم يَجُزْ أن يُرادوا بلفظ واحد ، لامتناع كون لفظ واحد حقيقة مجازاً . قيل له : إنهم لم يُرادوا بلفظ واحد في حال واحدة متى وُجِدَ أولادُ الصلب ، فإنّ ولد الابن لا يستحقون الميراث معهم بالآية ، وليس يمتنع أن يُراد ولد الصلب في حال وجودهم وولد الابن في حال عدم ولد الصلب ، فيكون اللفظ مستعملاً في حالين في إحداهما هو حقيقة وفي الأخرى هو مجاز . ولو أن رجلاً قال : " قد أوصيت بثلث مالي لولد فلان وفلان " ، وكان لأحدهما أولاد لصلبه ولم يكن للآخر ولد لصلبه وكان له أولاد ابن ، كانت الوصية لولد فلان لصلبه ولأولاد أولاد فلان ، ولم يمتنع دخول أولاد بَنِيِه في الوصية مع أولاد الآخر لصُلْبِهِ وإنما يمتنع دخول ولد فلان لصلبه وولد ولده معه ، فأما ولد غيره لغير صلبه فغير ممتنع دخوله مع أولاد الآخر لصلبه ؛ فكذلك قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ } يقتضي ولد الصلب لكل واحد من المذكورين إذا كان ولا يدخل معه ولد الابن ، ومن ليس له ولد لصلبه وله ولد ابن دخل في اللفظ وَلَدُ ابنه . وإنما جاز ذلك لأن قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّه في أوْلاَدِكُمْ } خطابٌ لكل واحد من الناس ، فكان كل واحد منهم مخاطباً به على حِيَالِهِ ؛ فمن له منهم ولد لصلبه تناوله اللفظ على حقيقته ولم يتناول ذلك ولد ابنه ، ومن ليس له ولد لصلبه وله ولد ابن فهو مخاطَبٌ بذلك على حِيَالِهِ ، فيتاول ولد ابنه .
فإن قيل : إن اسم الولد يقع على كل واحد من ولد الصلب وولد الابن حقيقة . لم يبعد إذ كان الجميع منسوبين إليه من جهة ولادته ونسبه متصل به من هذا الوجه فيتناول الجميع ، كالإخوة لما كان اسماً لاتصال النسب بينه وبينه من جهة أحد أبويه شَمَلَ الاسمُ الجميع وكان عموماً فيهم جميعاً ، سواء كانوا لأب وأم أو لأب أو لأم . ويدل عليه أن قوله تعالى : { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } [ النساء : 23 ] قد عُقِلَ به حليلة ابن الابن كما عُقِلَ به حليلة ابن الصلب . فإذا ترك بنتاً وبنت ابن فللبنت النصف بالتسمية ولبنت الابن السدس وما بقي للعصبة . فإن ترك بنتين وبنت ابن وابن ابن ، فللبنتين الثلثان والباقي لابن الابن وبنت الابن بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين . وكذلك لو كانت بنتين وبنات ابن وابن ابن ابن أسفل منهن كان للبنات الثلثان وما بقي فبين بنات الابن ومن هو أسفل منهن من بني ابن الابن للذكر مثل حظ الأنثيين . وهذا قول أهل العلم جميعاً من الصحابة والتابعين ، إلا ما رُوي عن عبدالله بن مسعود أنه كان يجعل الباقي لابن الابن وإن سفل ولا يعطي بنات الابن شيئاً إذا استكمل البنات الثلثين ، وإنما كان يجعل لبنات الابن تكملة الثلثين مثل أن يترك بنتاً وبنات ابن فيكون للبنت النصف ولبنات الابن السدس تكملة الثلثين ، فإن كان معهن ابن ابن لم يُعْطِ بنات الابن أكثر من السدس ؛ وكذلك قوله في الأخوات من الأب مع الأخوات من الأب والأم ؛ وذهب في ذلك إلى أن إناث ولد الابن لو كنّ وحدهن لم يأخذن شيئاً بعد استيفاء البنات الثلثين ، فكذلك إذا كان لهن أخ لم يكن لهن شيء ، ألا ترى أنه لو كان ابن عم مع إحداهن لم يأخذن شيئاً ؟ . وليس هذا عند الجماعة كذلك ؛ لأن بنات الابن يأخُذْنَ تارة بالفرض وتارة بالتعصيب ، وأخوهن ومن هو أسفل منهن يعصبهن ، كبنات الصلب يأخذن تارة بالفرض وتارة بالتعصيب ؛ فلو انفرد البنات لم يأخذن أكثر من الثلثين وإن كثرن ، ولو كان معهن أخ لهن وهنّ عشر كان لهن خمسة أسداس المال ، فيأخذن في حال كون الأخ معهن أكثر مما يأخذن في حال الانفراد ؛ فكذلك حكم بنات الابن إذا استوفى بنات الصلب الثلثين لم يَبْقَ لهنّ فرض ، فإن كان معهن أخٌ صِرْنَ عَصَبَةً معه ووجب قسمة الثلث الباقي بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين . وكذلك قالوا في بنتين وبنت ابن وأخت ، أن للبنتين الثلثين والباقي للأخت ولا شيء لبنت الابن ؛ لأنهما لو أخذت في هذه الحال التي ليس معها ذكر كانت مستَحِقَّةً بفرض البنات ، والبناتُ قد استوعبن الثلثين ، فلم يَبْقَ من فرض البنات شيء تأخذه ، فكانت الأخت أوْلى لأنها عَصَبَةٌ مع البنات ، فما تأخذه الأخت في هذه الحال فإنما تأخذه بالتعصيب ؛ فإذا كان مع بنت الابن أخ لها كان الباقي بعد الثلثين بينهما للذكر مثل حظ الأُنثيين ولا شيء للأخت .
وقد حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبدالله بن عامر بن زرارة قال : حدثنا علي بن مسهر عن الأعمش عن ابن قيس الأودي عن هزيل بن شرحبيل الأودي قال : جاء رجل إلى أبي موسى الأشعري وسلمان بن ربيعة فسألهما عن بنت وبنت ابن وأخت لأب وأم ، فقالا : " للبنت النصف وللأخت النصف ولم يورثا بنت الابن شيئاً وأْتِ ابنَ مسعود فإنه سيتابعنا " ، فأتاه الرجل فسأله وأخبره بقولهما ، فقال : " لقد ضَلَلْتُ إذاً وما أنا من المهتدين ، ولكن أقضي فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم : لابنته النصف ولابنة الابن السدس تكملةَ الثلثين ، وما بقي فللأخت من الأب والأم " . فهذا السدس تأخذه بنت الابن بالفرض لا بالتعصيب لم يختلفوا فيه إلا ما رُوي عن أبي موسى الأشعري وسلمان بن ربيعة ، وهو الآن اتفاقٌ . ثم لم يخالفهم عبدالله لو كان معها أخ أن للبنت النصف وما بقي فبين بنت الابن وابن الابن للذكر مثل حظ الأُنثيين ؛ وأنها لا تُعْطَى السدس في هذه الحال كما أُعطيت إذا لم يكن معها أخٌ ؛ ففي هذا دليل على أن بنت الابن تستحق تارة بالفَرْضِ وتارة بالتعصيب مع إخوتها كفرائض بنات الصلب . ومن قول عبدالله في بنت وبنات ابن وابن ابن أن للبنت النصف وما بقي فبين بنات الابن وابن الابن للذكر مثل حظ الأنثيين ما لم تَزِدْ أنصباءُ بناتِ الابن على السدس فلا يعطيهن أكثر من السدس ؛ فلم يعتبر الفرض على حِدَةٍ في هذه الحال ولا التعصيب على حدة ، ولكنه اعتبر التسمية في منع الزيادة على السدس واعتبر المقاسمة في النقصان ، وهو خلاف القياس والله أعلم بالصواب .
باب من يحرم الميراث مع وجود النسب
قال أبو بكر : لا خلاف بين المسلمين أن قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } وما عطف عليه من قسمة الميراث خاصٌّ في بعض المذكورين دون بعض ، فبعض ذلك متفقٌ عليه وبعضه مختَلَفٌ فيه ، فما اتُّفِقَ عليه أن الكافر لا يرث المسلم وأن العبد لا يرث وأن قاتل العَمْدِ لا يرث ؛ وقد بينا ميراث هؤلاء في سورة البقرة ما أجمعوا عليه منه وما اختلفوا فيه . واخْتُلف في ميراث المسلم من الكافر وميراث المرتدِّ ، فأما ميراث المسلم من الكافر فإن الأئمة من الصحابة متَّفِقُون على نفي التوارث بينهما ، وهو قول عامة التابعين وفقهاء الأمصار . وروى شعبة عن عمرو بن أبي حكيم عن ابن باباه عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الدؤلي قال : كان معاذ بن جبل باليمن فارتفعوا إليه في يهوديّ مات وترك أخاه مسلماً ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الإسْلامُ يَزِيدُ ولا يَنْقُصُ " .
وروى ابن شهاب عن داود بن أبي هند قال : قال مسروق : ما أُحْدِثَ في الإسلام قضية أعجب من قضيةٍ قضاها معاوية ، قال : كان يورث المسلم من اليهودي والنصراني ولا يورث اليهودي والنصراني من المسلم ، قال : فقضى بها أهل الشام ؛ قال داود : فلما قدم عمر بن عبدالعزيز ردّهم إلى الأمر الأول . وروى هشيم عن مجالد عن الشعبي : أن معاوية كتب بذلك إلى زياد يعني توريث المسلم من الكافر فأرسل زياد إلى شريح فأمره بذلك ، وكان شريح قبل ذلك لا يورِّث المسلم من الكافر ، فلما أمره زياد بما أمره قَضَى بقوله ، فكان شريح إذا قضى بذلك قال : هذا قضاء أمير المؤمنين . وقد روى الزهري عن علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يَتَوَارَثُ أهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى " وفي لفظ : " لا يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرُ ولا الكَافِرُ المُسْلِمَ " . وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يَتَوَارَثُ أهْلُ مِلَّتَيْنِ " . فهذه الأخبار تمنع توريث المسلم من الكافر والكافر من المسلم ، ولم يُرْوَ عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه ، فهو ثابت الحكم في إسقاط التوارث بينهما .
وأما حديث معاذ فإنه لم يَعْنِ هذه المقالة ، وإنما تأوّل فيها قوله : " الإيمانُ يَزِيدُ ولا يَنْقُصُ " والتأويل لا يُقْضَى به على النصِّ والتوقيف وإنّما يُرَدُّ التأويل إلى المنصوص عليه ويحمل على موافقته دون مخالفته . وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " الإيمان يزيد ولا ينقص " يحتمل أن يريد به مَنْ أسلم تُرك على إسلامه ومن خرج عن الإسلام رُدَّ إليه ؛ وإذا احتمل ذلك واحتمل ما تأوّله مُعَاذ وجب حمله على موافقة خبر أسامة في منع التوارث ، إذ غير جائز رَدُّ النص بالتأويل والاحتمال . والاحتمالُ أيضاً لا تثبت به حجة لأنه مشكوك فيه وهو مفتقر في إثبات حكمه إلى دلالة من غيره ، فسقط الاحتجاج به . وأما قول مسروق : " ما أُحْدِثَ في الإسلام قضيةٌ أَعْجَبُ من قضية قَضَى بها معاوية في توريث المسلم من الكافر " فإنه يدل على بطلان هذا المذهب لإخباره أنها قضية مُحْدَثَةٌ في الإسلام ، وذلك يوجب أن يكون قبل قضية معاوية لم يكن يورث المسلم من الكافر ؛ وإذا ثبت أن من قبل قضية معاوية لم يكن يورث المسلم من الكافر وأن معاوية لا يجوز أن يكون خلافاً عليهم ، بل هو ساقط القول معهم . ويؤيد ذلك أيضاً قول داود بن أبي هند : إن عمر بن عبدالعزيز ردهم إلى الأمر الأول ؛ والله أعلم .
باب ميراث المرتدّ
اختلف السلفُ في ميراث المرتدّ الذي اكتسبه في حال الإسلام قبل الرِّدَّةِ على أنحاء ثلاثة : فقال عليّ وعبدالله وزيد بن ثابت والحسن البصري وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وجابر بن زيد وعمر بن عبدالعزيز وحماد بن الحكم وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وابن شبرمة والثوري والأوزاعي وشريك : " يَرِثُه وَرَثَتُهُ من المسلمين إذا مات أو قُتل على رِدَّته " . وقال ربيعة بن عبدالعزيز وابن أبي ليلى ومالك والشافعي : " ميراثه لبيت المال " . وقال قتادة وسعيد بن أبي عَرُوبة : " إن كان له وَرَثَةٌ على دينه الذي ارتدّ إليه فميراثه لهم دون ورثته من المسلمين " ، ورواه قتادة عن عمر بن عبدالعزيز ؛ والصحيح عن عمر أن ميراثه لورثته من المسلمين . ثم اختلفوا فيما اكتسبه في حال الردَّة إذا قُتل أو مات مرتدّاً ، فقال أبو حنيفة والثوري : " ما اكتسبه بعد الردة فهو فيْءٌ " . وقال ابن شبرمة وأبو يوسف ومحمد والأوزاعي في إحدى الروايتين : " ما اكتسبه بعد الردة أيضاً فهو لورثته المسلمين " .
قال أبو بكر : ظاهر قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } يقتضي توريثَ المسلم من المرتدِّ ، إذْ لم يفرق بين الميت المسلم وبين المرتد . فإن قيل : يخصُّهُ حديثُ أسامة بن زيد : " لا يرث المسلم الكافر " كما خص توريث الكافر من المسلم ، وهو وإن كان من أخبار الآحاد فقد تلقّاه الناس بالقبول واستعملوه في منع توريث الكافر من المسلم ، فصار في حَيِّزِ المتواتر ؛ ولأن آية المواريث خاصة بالاتّفاق ، وأخبارُ الآحاد مقبولة في تخصيص مثلها . قيل له : في بعض ألفاظ حديث أسامة : " لا يتوارث أهْلُ مِلَّتَيْنِ لا يَرِثُ المُسْلمُ الكَافِرَ " ، فأخبر أن المراد إسقاطُ التوارث بين أهل مِلَّتَيْنِ ، وليست الردَّة بملة قائمة ؛ لأنه وإن ارتدَّ إلى النصرانية أو اليهودية فغير مُقَرٍّ عليها ، فليس هو محكوماً له بحكم أهل الملة التي انتقل إليها ، ألا ترى أنه وإن انتقل إلى ملة الكتابيّ أنه لا تؤكل ذبيحته وإن كانت امرأةً لم يجُزْ نِكَاحُها ؟ فثبت بذلك أن الردة ليست بملة ، وحديثُ أسامة مقصور في منع التوارث بين أهل ملتين ؛ وقد بَيَّنَ ذلك في حديث مفسَّرٍ ، وهو ما رواه هشيم عن الزهري قال : حدثنا علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى ، لا يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ ولا الكَافِرُ المُسْلِمَ " ، فدل ذلك على أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك هو منع التوارث بين أهل مِلّتين . وأيضاً فإن أبا حنيفة من أصله أنّ ملك المرتدّ يزول بالردة ، فإذا قُتل أو مات انتقل إلى الوارث ؛ ومن أجل ذلك لا يجيز تصرف المرتد في ماله الذي اكتسبه في حال الإسلام ، وإذا كان هذا أصله فهو لم يورث مسلماً من كافر لأن ملكه زال عنه في آخر الإسلام ، وإنما ورث مسلماً ممن كان مسلماً .
فإن قيل : فإذاً يكون قد وَرَّثْتَهُ منه وهو حيّ . قيل له : ليس يمتنع توريث الحي ، قال الله تعالى : { وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم } [ الأحزاب : 27 ] وكانوا أحياءً ؛ وعلى أنا إنما نقلنا المال إلى الورثة بعد الموت ، فليس فيه توريث الحيّ . ويقال للسائل عن ذلك : وأنت إذا جعلتَ ماله لبيت المال فقد وَرَّثْتَ منه جماعة المسلمين وهو كافر وورَّثْتَهم منه وهو حيّ إذا لحق بدار الحرب مرتدّاً . وأيضاً فإن المسلمين إذا كانوا إنما يستحقون ماله بالإسلام فقد اجتمع للورثة القرابة والإسلام ، وجب أن يكونوا أوْلى بماله لاجتماع السببين لهم وانفراد المسلمين بأحدهما دون الآخر ، والسببان اللذان اجتمعا للورثة هما : الإسلام وقرب النَّسَبِ ، فأشبه سائر الموتى من المسلمين لما كان ماله مستحقّاً للمسلمين كان من اجتمع له قرب النسب مع الإسلام أوْلى ممن بعد نسبه منه وإن كان له إسلام .
فإن قال قائل : هذه العلة توجب توريثه من مال الذمي . قيل له : لا يجب ذلك ؛ لأن مال الذميّ بعد موته غير مستحَقّ بالإسلام ، لاتفاق الجميع على أن ورثته من أهل الذمة أوْلى به من المسلمين ، واتفاق جميع فقهاء الأمصار على أن مال المرتدِّ مستحَقٌّ بالإسلام ، فمِنْ قائل يقول : يستحقه جماعة المسلمين ، وآخرين يقولون : يستحقه ورثته من المسلمين ؛ فلما كان ماله مستحقّاً بالإسلام أَشْبَهَ مَالَ المسلم الميت لما كان مستحقّاً بالإسلام كان من اجتمع له الإسلامُ وقُرْبُ النسب أوْلى من جماعة المسلمين .
فإن قيل : فلو مات ذميٌّ وترك مالاً ولا وارث له من أهل دينه ولو قرابة مسلمون كان ماله لجماعة المسلمين ولم يكن أقاربه من المسلمين أوْلى به . لاجتماع السببين لهم من الإسلام والنسب . قيل له : إن مال الذميّ غير مستحق بالإسلام ؛ والدليل عليه أنه لو كانت له ورثة من أهل الذمة لم يستحق المسلمون ماله ، وما استحق من مال الذمي بالإسلام لا يكون ورثته من أهل الذمة أوْلى به منهم بل يكونون هم أوْلى كمواريث المسلمين ، فدل ذلك على أن مال الذميِّ وإن جُعل لبيت المال إذا لم يكن له وارث فليس هو مستحقّاً بالإسلام وإنما هو مالٌ لا مالك له وجده الإمامُ في دار الإسلام ، كاللُّقَطَةِ التي لا يعرف مستحقها فتصرف في وجوه القرب إلى الله تعالى .
فإن قيل : فقد قال أبو حنيفة فيما اكتسبه المرتد في حال ردته : " إنه فَيْءٌ لبيت المال " وهذا ينقض الاعتلال ويدلّ على أصل المسألة للمخالف . قيل له : لا يلزم ذلك ولا دلالة فيه على قول المخالف ؛ وذلك لأن ما اكتسبه في حال الرِّدَّةِ هو بمنزلة مال الحربي ولا يملكه ملكاً صحيحاً ، ومتى جعلناه في بيت المال بعد موته أو قبله فإنما يصير ذلك المال مغنوماً كسائر أموال الحرب إذا ظفرنا بها ، وما يؤخذ على وجه الغنيمة فليس بمستحق لبيت المال لأجل الإسلام ، لأن الغنائم ليست بمستحقة لغانميها بالإسلام ، والدليل عليه أن الذميّ متى شهد القتال استحقَّ أن يُرْضَخَ له من الغنيمة ، فثبت بذلك أن مال الحربي ومال المرتدّ الذي اكتسبه في الردة مغنوم غير مستحق بالإسلام ، فلم يعتبر فيه قرب النسب والإسلام كما اعتبرناه في ماله الذي اكتسبه في حال الإسلام ؛ لأن ذلك المال كان ملكه فيه صحيحاً إلى أن ارتدَّ ثم زال ملكه عنه بالردة ، فمن يستحقه من الناس فإنما يستحقه بالميراث والمواريثُ يعتبر فيها الإسلام وقربُ النسب إذا كان ملكاً لمسلم إلى أن زال عنه بالردة الموجبة لزوال ملكه كما يزول بالموت ، فلم يلزم عليه حكم ماله المكتسب في حال الردة . ولا يجوز أيضاً أن يكون أصلاً للمال المكتسب في حال الإسلام ؛ لأن ملكه فيه كان صحيحاً إلى أن زال عنه بالموت . والمالُ المكتسَبُ في حال الردة بمنزلة مال الحربي ملكه فيه غير صحيح لأنه اكتسبه وهو مباح الدم ، فمتى حصل في يد المسلمين صار مغنوماً ، بمنزلة حربي دخل إلينا بغير أمان فأخذناه مع مالِهِ أن مالَهُ يكون غنيمةً ، فكذلك مال المرتدّ الذي اكتسبه في حال الردة .
فإن احتجَّ محتجٌّ بحديث البراء بن عازب قال : " مَرَّ بي خالي أبو بردة ومعه الراية فقلت : إلى أين تذهب ؟ فقال : أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل نكح امرأة أبيه أن أقتله وآخذ ماله " وهذا يدل على أن مال المرتد فيءٌ . قيل له : إنما فعل ذلك لأن الرجل كان محارباً مع استحلاله لذلك حربيّاً فكان ماله مغنوماً ؛ لأن الراية إنما تُعقد للمحاربة ؛ وقد روى معاوية بن قرة عن أبيه : " أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث جَدَّ معاوية إلى رجل عَرَّسَ بامرأة أبيه أن يضرب عنقه ويخمس ماله " ، وهذا يدل على أن مال ذلك الرجل كان مغنوماً بالمحاربة ولذلك أخذ منه الخمس .
فإن قيل : ما أنكرتَ أن يكون مال المرتد مغنوماً ؟ قيل له : أما ما اكتسبه في حال الرِّدَّةِ فهو كذلك ، وأما ما اكتسبه في حال الإسلام فغير جائز أن يكون مغنوماً ، مِنْ قِبَلِ أن ما كان يُغنم من الأموال سبيله أن يكون ملك مالكه غير صحيح فيه قبل الغنيمة ، كمال الحربي ومال المرتد قبل الردة قد كان ملكه فيه صحيحاً ، فغير جائز أن يغنم كما لا يغنم أموال سائر المسلمين إذ كانت أملاكهم فيه صحيحة ، وزواله عن المرتد بالردة كزواله بالموت فمتى انقطع حقُّه عنه بالقتل أو بالموت أو اللحاق بدار الحرب استحقّه ورثتُهُ دون سائر المسلمين ؛ لأن سائر المسلمين إن استحقّوه بالإسلام لا على أنه غنيمة كانت ورثته أوْلى به لاجتماع الإسلام والقرابة لهم ، وإن استتحقوه بأنه غنيمة لم يصحَّ ذلك لما بَيَّنَّا من أن شرط الغنيمة أن يكون مال المغنوم غير صحيح الملك في الأصل .
واختلف السلف فيمن أسلم قبل قسمة الميراث ، فقال علي بن أبي طالب في مسلم مات فلم يقسم ميراثه حتى أسلم ابنٌ له كافر أو كان عبداً فأُعتق : " إنه لا شيء له " ، وهو قول عطاء وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والزهري وأبي الزناد وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر ومالك والأوزاعي والشافعي . ورُوي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان أنهما قالا : " من أسلم على ميراث قبل أن يقسم شارك في الميراث " ، وهو مذهب الحسن وأبي الشعثاء ؛ وشبَّهُوا ذلك بالمواريث التي كانت في الجاهلية ، ما طرأ عليه الإسلام منها قبل القسمة قُسِمَ على حكم الإسلام ولم يُعتبر وقت الموت ؛ وليس هذا عند الأوّلين كذلك لأن حكم المواريث قد استقرّ في الشرع على وجوه معلومة ، وقال الله تعالى : { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أزْوَاجُكُمْ } وقال : { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك } [ النساء : 176 ] ، فأوجب لها الميراث بالموت ، وحَكَمَ لها بالنصف وللزوج بالنصف بحدوث الموت من غير شرط القسمة ، والقسمةُ إنما تَجِبُ فيما قد ملك ، فلا حَظَّ للقسمة في استحقاق الميراث ؛ لأن القسمة تَبَعٌ للملك ؛ ولما كان ذلك كذلك وجب أن لا يزول ملك الأخت عنه بإسلام الابن كما لا يزول ملكها عنه بعد القسمة . وأما مواريث الجاهلية فإنها لم تقع على حكم الشرع ، فلما طرأ الإسلام حُملت على أحكام الشرع ، إذ لم يكن ما وقع قبل ورود الشرع مستقرّاً ثابتاً ، فعُفي لهم عما قد اقتسموه وحُمل ما لم يقسم منها على حكم الشرع كما عُفي لهم عن الربا المقبوض ، وحُمل بعد ورود تحريم الربا ما لم يكن مقبوضاً على حكم الشرع ، فأبطل وأوجب عليهم رَدَّ رأس المال ، ومواريثُ الإسلام قد ثبتت واستقرّ حكمها ولا يجوز ورود النسخ عليها فلا اعتبار فيها بالقسمة ولا عدمها ، كما أن عقود الربا لو أُوقِعَتْ في الإسلام بعد تحريم الربا واستقرار حكمه لا يختلف فيه حكم المقبوض منها وغير المقبوض في بطلان الجمع .
وأيضاً لا خلاف نعلمه بين المسلمين أن من ورث ميراثاً فمات قبل القسمة أن نصيبه من الميراث لورثته ، وكذلك لو ارتدَّ لم يبطل ميراثه الذي استحقه وأنه لا يكون بمنزلة من كان مرتدّاً وقت الموت ، فكذلك من أسلم أو أُعتق بعد الموت قبل القسمة فلا حَظَّ له في الميراث ، والله أعلم .
قوله تعالى : { آبَاؤُكُمْ وأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ } .
قيل إن معناه : لا تعلمون أيهم أقرب لكم نفعاً في الدين والدنيا والله يعلمه فاقسموه على ما بيّنه ، إذ هو عالم بالمصالح . وقيل إن معناه : آباؤكم وأبناؤكم متقاربون في النفع حتى لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً ، إذ كنتم تنتفعون بآبائكم في حال الصغر وتنتفعون بأبنائكم عند الكبر ، فَفَرَضَ ذلك في أموالكم للآباء والأبناء علماً منه بمصالح الجميع . وقيل : لا يدري أحَدُكم أهو أقرب وفاة فينتفع ولده بماله ، أم الولد أقرب وفاة فينتفع الأب والأم بماله ، فَفَرَضَ في مواريثكم ما فرض علماً منه وحكماً .
وقد اختلف السلف في الحَجْبِ بمن لا يرث ، وهو أن يخلف الحرّ المسلم أبوين حُرَّيْنِ مسلمين وأخوين كافرين أو مملوكين أو قاتلين ، فقال عليّ وعمر وزيد : " للأم الثلث وما بقي فللأب ، وكذلك المسلمة إذا تركت زوجاً وابناً كافراً أو مملوكاً أو قاتلاً ، أو الرجل ترك امرأة وابناً كذلك أنهم لا يحجبون الزوج ولا المرأة عن نصيبهما الأكثر إلى الأقل " ، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد ومالك والثوري والشافعي . وقال عبدالله بن مسعود : " يحجبون وإن لم يرثوا " . وقال الأوزاعي والحسن بن صالح : " المملوك والكافر لا يرثان ولا يحجبان والقاتل لا يرث ويحجب " .
قال أبو بكر : لا خلاف أنّ الأبَ الكافر لا يحجب ابنه من ميراث جده وأنه بمنزلة الميت ، فكذلك في حكم حجب الأم والزوج والزوجة . واحتجَّ من حجب بظاهر قوله تعالى : { وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ } . ولم يفرق بين الكافر والمسلم . فيقال له : فلم حجبت به الأمَّ دون الأب والله تعالى إنما حجبهما جميعاً بالولد بقوله تعالى : { لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ } ؟ فإن جاز أن لا يحجب الأب وجعلت قوله تعالى : { إن كَانَ لَهُ وَلَدٌ } على ولد يجوز الميراث ، فكذلك حكمه في الأم .
باب الرجل يموت وعليه دَيْن ويوصي بوصية
قال الله تعالى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } ؛ وَرَوَى الحارث عن عليّ قال : " تقرؤون الوصية قبل الدَّيْن ، وإن محمداً صلى الله عليه وسلم قَضَى بالدين قبل الوصية " . قال أبو بكر : وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين ؛ وذلك لأن معنى قوله : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أوْ دَيْنٍ } أن الميراث بعد هذين ، وليست " أو " في هذا الموضع لأحدهما بل قد تناولتهما جميعاً ، وذلك لأن قوله : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } مستثنىً عن الجملة المذكورة في قسمة المواريث ، ومتى دخلت " أو " على النفي صارت في معنى " الواو " كقوله تعالى : { ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً } [ الإنسان : 24 ] ، وقال تعالى : { حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم } [ الأنعام : 146 ] ؛ فكانت " أو " في هذه المواضع بمنزلة " الواو " ، فكذلك قوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } لما كان في معنى الاستثناء كأنه قال : إلا أن تكون هناك وصية أو دين فيكون الميراث بعدهما جميعاً . وتقديم الوصية على الدَّيْن في الذكر غير موجب للتبدئة بها على الدين ؛ لأن " أو " لا توجب الترتيب ، وإنما ذكر الله تعالى ذلك بعد ذكر الميراث إعلاماً لنا أن سهام المواريث جاريةٌ في التركة بعد قضاء الدين وعَزْلِ حِصَّة الوصية ، ألا ترى أنه إذا أوْصَى بثلث ماله كانت سهامُ الورثة معتبرةً بعد الثلث فيكون للزوجة الربع أو الثمن في الثلثين ؟ وكذلك سهام سائر أهل الميراث جارية في الثلثين دون الثلث الذي فيه الوصية ؛ فجمع تعالى بين ذكر الدين والوصية ليُعْلِمَنا أن سهام الميراث معتبرة بعد الوصية كما هي معتبرة بعد الدين وإن كانت الوصية مخالفة للدَّيْن من جهة الاستيفاء ؛ لأنه لو هَلَكَ من المال شيء لدخل النقصان على أصحاب الوصايا كما يدخل على الورثة ، وليس كذلك الدين لأنه لو هلك من المال شيء اسْتُوفي الدينُ كله من الباقي وإن استغرقه وبطل حق الموصَى له والورثة جميعاً ، فالموصَى له شريك الورثة من وجه ويأخذ شبهاً من الغريم من وجه آخر ، وهو أن سهام أهل المواريث معتبرة بعد الوصية كاعتبارها بعد الدين ؛ وليس المراد بقوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أوْ دَيْنٍ } أن الموصَى له يُعْطَى وصيته قبل أن يأخذ الورثة أنصباءهم ، بل يُعْطَوْن كلهم معاً كأنه أحد الورثة في هذا الوجه ، وما هلك من المال قبل القسمة فهو ذاهب منهم جميعاً .