باب العَصَبَةِ
قال الله تعالى : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَاليَ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ } . قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : " الموالي ههنا العصبة " . وقال السدي : " الموالي الورثة " . وقيل : إن أصل المَوْلَى مِنْ وَلِيَ الشيءَ يَلِيهِ ، وهو اتصال الولاية في التصرف . قال أبو بكر : المولى لفظ مشترك ينصرف على وجوه ، فالمولى المُعْتِقُ لأنه وليّ نعمة في عِتْقِهِ ؛ ولذلك سُمِّي مولى النعمة . والمولى العبد المُعْتَقُ لاتصال ولاية مولاه به في إنعامه عليه ، وهذا كما يسمَّى الطالب غريماً لأن له اللزوم والمطالبة بحقه ويسمَّى المطلوب غريماً لتوجُّه المطالبة عليه وللزوم الدين إياه . والمولى العَصَبَةُ ، والمولى الحَلِيفُ ؛ لأن المحالف يلي أمره بعَقْدِ اليمين . والمولى ابنُ العم ؛ لأنه يليه بالنصرة للقرابة التي بينهما . والمولى الوليّ ؛ لأنه يلي بالنصرة . وقال تعالى : { ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم } [ محمد : 11 ] أي يليهم بالنصرة ولا ناصر للكافرين يعتدّ بنصرته . ويروى للفضل بن العباس :
* مَهْلاً بني عَمِّنا مَهْلاً مَوَالِينَا * لا تُظْهِرُنَّ لَنَا ما كَانَ مَدْفُونَا *
فسمَّى بني العم موالي . والمولى مالكُ العبد ؛ لأنه يليه بالملك والتصرف والولاية والنصرة والحماية . فاسم المولى ينصرف على هذه الوجوه ؛ وهو اسم مشترك لا يصح اعتبار عمومه ؛ ولذلك قال أصحابنا فيمن أوْصَى لمواليه وله موالٍ أعلى وموالٍ أسفل : إن الوصية باطلة لامتناع دخولهما تحت اللفظ في حال واحدة ، وليس أحدهما بأوْلى من الآخر ، فبطلت الوصية . وأوْلى الأشياء بمعنى المولى ههنا العَصَبَةُ لما رَوَى إسرائيلُ عن أبي حُصَيْن عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا أَوْلَى بالمُؤْمِنِينَ ، مَنْ مَاتَ وَتَرَكَ مالاً فَمَالُهُ للمَوَالِي العَصَبَةِ ، ومَنْ تَرَكَ كَلاًّ أو ضيَاعاً فأنا وَلِيُّهُ " . ورَوَى معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابنِ عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقْسِمُوا المالَ بَيْنَ أَهْلِ الفَرَائِضِ ، فما أبْقَتِ السِّهَامُ فلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ " ، ورُوي : " فلأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ " ؛ وفيما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في تسمية الموالي عصبة . وقوله : " فَلأوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ " ؛ ما يدل على أن المراد بقوله : { وَلكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَاليَ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ } هم العَصَبَاتُ ، ولا خلاف بين الفقهاء أن ما فضل عن سهام ذوي السهام فهو لأقرب العصبات إلى الميت . والعَصَبَاتُ هم الرجال الذين تتصل قرابتهم إلى الميت بالبنين والآباء ، مثل الجدّ والإخوة من الأب والأعمام وأبنائهم ، وكذلك مَنْ بَعُدَ منهم بعد أن يكون الذي يصل بينهم البنون والآباء ، إلا الأخوات فإنهن عصبة مع البنات خاصة . وإنما يرث من العَصَبَاتِ الأقربُ فالأقربُ ولا ميراث للأَبْعَدِ مع الأَقْرَبِ ؛ ولا خلاف أن من لا يتصل نسبه بالميت إلا من قِبَلِ النساء أنه ليس بعصبة . ومولى العتاقة عَصَبَةٌ للعبد المُعَتقِ ولأَولاده ، وكذلك أولاد المُعْتَقِ الذكور منهم يكونون عَصَبَةً للعبد المعتق إذا مات أبوهم ، ويصير ولاؤه لهم دون الإناث من ولده . ولا يكون أحدٌ من النساء عَصَبَةٌ بالولاء إلا ما أعتقت أو أعتق من أعتقت . وإنما صار مولى العتاقة عَصَبَةً بالسنّة ، ويجوز أن يكون مراداً بقوله تعالى : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ } إذْ كان عصبة ويعقل عنه كما يعقل عنه بنو أعمامه .
فإن قيل : الميت ليس هو من أقرباء مولى العتاقة ولا من والديه . قيل له : إذا كان معه وارثٌ من ذوي نِسْبة من الميت نحو البنت والأخت ، جاز دخوله معهم في هذه الفريضة ، فيستحق بأصل السهام وإن لم يكن هو من أقرباء الميت ، إذ كان في الورثة ممن يجوز أن يقال فيه إنه مما ترك الوالدان والأقربون ، فيكون بعض الورثة قد ورث الوالدين والأقربين .
واختلف أهل العلم في ميراث المولى الأسفل من الأعلى ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والثوري والشافعي وسائر أهل العلم : " لا يرث المولى الأسفلُ من المولى الأعلى " . وحَكَى أبو جعفر الطحاوي عن الحسن بن زياد قال : " يرث المولى الأسفل من الأعلى " ، وذهب فيه إلى حديث رواه حماد بن سلمة وحماد بن زيد ووهب بن خالد ومحمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار عن عوسجة مولى ابن عباس عن ابن عباس : " أن رجلاً أعتق عبداً له ، فمات المعتِق ولم يترك إلا المعتَق ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثه للغلام المعتَق " . قال أبو جعفر : وليس لهذا الحديث معارض فوجب إثبات حكمه . قال أبو بكر : يجوز أن يكون دفعه إليه لا على وجه الميراث لكنه لحاجته وفقره ؛ لأنه كان مالاً لا وارث له فسبيله أن يُصرف إلى ذوي الحاجة والفقراء .
فإن قيل : لما كانت الأسبابُ التي يجب بها الميراث هي الولاءُ والنسبُ والنكاحُ ، وكان ذوو الأنساب يتوارثون وكذلك الزوجان ، وجب أن يكون الولاء من حيث أوجب الميراث للأعلى من الأسفل أن يوجبه للأسفل من الأعلى . قال أبو بكر : هذا غير واجب ؛ لأنّا قد وجدنا في ذوي الأنساب من يرث غيره ولا يرثه هو إذا مات ؛ لأن امرأة لو تركت أختاً أو ابنةً وابْنَ أخيها كان للبنت النصف والباقي لابن الأخ ، ولو كان مكانها مات ابنُ الأخ وخلف بنتاً أو أختاً وعمته لم ترث العمة شيئاً ، فقد ورثها ابنُ الأخ في الحال التي لا ترثه هي ؛ والله تعالى أعلم بالصواب .
باب ولاء الموالاة
قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } . رَوَى طلحة بن مصرِّفٍ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُم نَصِيبَهُمْ } قال : كان المهاجر يَرِثُ الأنصاري دون ذوي رَحِمِهِ بالأُخُوَّة التي آخى الله بينهم ، فلما نزلت { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَاليَ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ } نُسِخَتْ ؛ ثم قرأ : { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } ، قال : من النصر والرِّفَادَةِ ، ويوصى له ، وقد ذهب الميراث . وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : { والَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } قال : كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر ، فأنزل الله تعالى : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً } [ الأحزاب : 6 ] ، يقول : إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا لهم وصيةً ، فهو لهم جائز من ثلث مال الميت ، فذلك المعروف . وروى أبو بشر عن سعيد بن جبير في قوله تعالى : { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } قال : كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيموت فيرثه ، فعاقد أبو بكر رجلاً فمات فورثه . وقال سعيد بن المسيب : هذا في الذين كانوا يتبنّون رجالاً ويورّثونهم ، فأنزل الله فيهم أن يجعل لهم من الوصية ، ورَدَّ الميراث إلى الموالي من ذوي الرحم والعصبة .
قال أبو بكر : قد ثبت بما قدّمنا من قول السلف أن ذلك كان حُكْماً ثابتاً في الإسلام ، وهو الميراث بالمعاقدة والموالاة ؛ ثم قال قائلون : إنه منسوخ بقوله : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } [ الأحزاب : 6 ] . وقال آخرون : ليس بمنسوخ من الأصل ، ولكنه جعل ذوي الأرحام أوْلَى من موالي المعاقدة ، فنسخ ميراثهم في حال وجود القرابات وهو باقٍ لهم إذا فقد الأقرباء على الأصل الذي كان عليه .
واختلف الفقهاء في ميراث موالي الموالاة ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزُفَر : " مَنْ أسلم على يدي رجل ووالاه وعاقده ثم مات ولا وارث له غيره فميراثه له " . وقال مالك وابن شبرمة والثوري والأوزاعي والشافعي : " ميراثه للمسلمين " . وقال يحيى بن سعيد : " إذا جاء من أرض العدوّ فأسلم على يده فإن ولاءه لمن والاه ، ومَنْ أسلم من أهل الذمة على يدي رجل من المسلمين فولاؤه للمسلمين عامة " . وقال الليث بن سعد : " من أسلم على يدي رجل فقد والاه وميراثه للذي أسلم على يده إذا لم يَدَعْ وارثاً غيره " .
قال أبو بكر : الآية توجب الميراث للذي والاه وعاقده على الوجه الذي ذهب إليه أصحابنا ؛ لأنه كان حكماً ثابتاً في أول الإسلام ، وحَكَمَ الله به في نصّ التنزيل ، ثم قال : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين } [ الأحزاب : 6 ] فجعل ذوي الأرحام أوْلى من المُعَاقَدِينَ الموالي ، فمتى فُقِدَ ذوو الأرحام وجب ميراثُهم بقضية الآية ؛ إذ كانت إنما نقلت ما كان لهم إلى ذوي الأرحام إذا وُجِدوا ، فإذا لم يوجدوا فليس في القرآن ولا في السُّنَّة ما يوجب نَسْخَها ، فهي ثابتة الحكم مستعملة على ما نقتضيه من إثبات الميراث عند فَقْدِ ذوي الأرحام .
وقد ورد الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم بثبوت هذا الحكم وبقائه عند عدم ذوي الأرحام ، وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا يزيد بن خالد الرملي وهشام بن عمار الدمشقي قالا : حدثنا يحيى بن حمزة عن عبد العزيز بن عمر قال : سمعت عبدالله بن موهب يحدث عمر بن عبدالعزيز عن قبيصة بن ذؤيب عن تميم الداريّ أنه قال : يا رسول الله ما السُّنَّةُ في الرجل يُسْلِمُ على يدي الرجل من المسلمين ؟ قال : " هُوَ أوْلَى النَّاسِ بمَحْيَاهُ ومَمَاتِهِ " ، فقوله : " هو أوْلى الناس بمماته " يقتضي أن يكون أوْلاهم بميراثه ، إذ ليس بعد الموت بينهما ولاية إلا في الميراث ، وهو في معنى قوله تعالى : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ } يعني وَرَثَةً . وقد رُوي نحوُ قول أصحابنا في ذلك عن عمر وابن مسعود والحسن وإبراهيم . وروى معمر عن الزهري أنه سئل عن رجل أسلم فوالى رجلاً هل بذلك بأس ؟ قال : لا بأس به ، قد أجاز ذلك عمر بن الخطاب . وروى قتادة عن سعيد بن المسيب قال : " من أسلم على يدي قوم ضمنوا جَرَائِرَهُ وحَلَّ لهم ميراثُه " . وقال ربيعة بن أبي عبدالرحمن : " إذا أسلم الكافر على يدي رجل مسلم بأرض العدوّ أو بأرض المسلمين فميراثه للذي أسلم على يديه " . وقد رَوَى أبو عاصم النبيل عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال : كتب النبي صلى الله عليه وسلم : " على كُلِّ بَطْنٍ عَقُولُهُ " وقال : " لا يَتَوَلَّى مَوْلَى قَوْمٍ إِلاّ بإِذْنِهِمْ " ؛ وقد حوى هذا الخبر معنيين : أحدهما جواز الموالاة لأنه قال : " إلا بإذنهم " فأجاز الموالاة بإذنهم . والثاني : أن له أن يتحول بولاية إلى غيره ، إلاّ أنه كرهه إلا بإذن الأوّلين ؛ ولا يجوز أن يكون مراده عليه السلام في ذلك إلا في ولاء الموالاة ، لأنه لا خلاف أن ولاء العتاقة لا يصح النقل عنه ؛ وقال صلى الله عليه وسلم : " الوَلاءُ لُحْمَةٌ كلُحْمَةِ النَّسَبِ " .
فإن احتجَّ محتجٌّ بما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال : حدثنا محمد بن بشر وابن نمير وأبو أسامة عن زكريا عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا حِلْفَ في الإسْلاَمِ ، وأَيُّما حِلْفٍ كانَ فِي الجَاهِلِيَّةِ لم يَزِدْهُ الإِسْلاَمُ إلاّ شِدَّةً " ، قال : فهذا يوجب بطلان حلف الإسلام ومنع التوارث به . قيل له : يحتمل أن يريد به نَفْيَ الحلف في الإسلام على الوجه الذي كانوا يتحالفون عليه في الجاهلية ؛ وذلك لأن حلف الجاهلية كان على أن يعاقده فيقول : " هدمي هدمك ودمي دمك وترثني وأرثك " وكان في هذا الحلف أشياء قد حَظَرَها الإسلام ، وهو أنه كان يشرط أن يحامي عليه ويبذل دمه دونه ويهدم ما يهدمه فينصره على الحق والباطل ؛ وقد أبطلت الشريعة هذا الحلف وأوجبت معونة المظلوم على الظالم حتى يُتَنَصَّفَ منه وأن لا يُلتفت إلى قرابة ولا غيرها ، قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيّاً أو فقيراً فالله أوْلى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا } [ النساء : 135 ] ، فأمر الله تعالى بالعدل والقسط في الأجانب والأقارب وأمر بالتسوية بين الجميع في حكم الله تعالى ، فأبطل ما كان عليه أمْرُ الجاهلية من مَعُونَةِ القريب والحليف على غيره ظالماً كان أو مظلوماً .
مطلب : في معنى قوله عليه السلام : " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً "
وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : " انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِماً أوْ مَظْلُوماً " قالوا : يا رسول الله هذا يُعِينُه مظلوماً فكيف يعينه ظالماً ؟ قال : " أنْ تَرُدَّهُ عَنِ الظُلْمِ فذلك مَعُونَةُ مِنْكَ لَهُ " .
وكان في حلف الجاهلية أن يرثه الحليف دون أقربائه فنفى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " لا حلف في الإسلام " التحالُفَ على النصرة والمحاماة من غير نظر في دين أو حكم وأمر باتّباع أحكام الشريعة دون ما يعقده الحليف على نفسه ، ونَفَى أيضاً أن يكون الحليف أوْلى بالميراث من الأقارب ؛ فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " لا حلف في الإسلام " . أما قوله : " وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة " فإنه يحتمل أن الإسلام قد زاد شدة وتغليظاً في المنع منه وإبطاله ، فكأنه قال : إذا لم يَجُزِ الحلفُ في الإسلام مع ما فيه من تناصر المسلمين وتعاونهم فحلف الجاهلية أبعد من ذلك .
قال أبو بكر : وعلى نحو ما ذكرنا من التوارث بالموالاة قال أصحابنا فيمن أوصى بجميع ماله ولا وارث له إنه جائز ، وقد بينا ذلك فيما سلف ؛ وذلك لأنه لما جاز له أن يجعل ميراثه لغيره بعقد الموالاة ويزويه عن بيت المال ، جاز له أن يجعله لمن شاء بعد موته بالوصية ، إذ كانت الموالاة إنما تثبت بينهما بعقده وإيجابه وله أن ينتقل بولائه ما لم يعقل عنه ، فأشبهت الوصيةَ التي تثبت بقوله وإيجابه ومتى شاء رجع فيها ؛ إلا أنها تخالف الوصية من وجه ، وهو أنه وإن كان يأخذه بقوله فإنه يأخذه على وجه الميراث ، ألا ترى أنه لو ترك الميت ذا رَحِمٍ كان أوْلى بالميراث من مولى الموالاة ؟ ولم يكن في الثلث بمنزلة من أوْصى لرجل بماله فيجوز له منه الثلث بل لا يُعْطَى شيئاً إذا كان له وارث من قرابة أو ولاء عتاقة ، فولاء الموالاة يشبه الوصية بالمال من وجه إذا لم يكن له وارث ويفارقها من وجه على نحو ما بينا ، والله أعلم .