باب دفع المال إلى السفهاء
قال الله تعالى : { وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً } قال أبو بكر : قد اختلف أهلُ العلم في تأويل هذه الآية ، فقال ابن عباس : " لا يقسم الرجل ماله على أولاده فيصير عيالاً عليهم بعد إذْ هم عيال له ، والمرأةُ من أَسْفَهِ السفهاء " ؛ فتأول ابن عباس الآية على ظاهرها ومقتضى حقيقتها ، لأن قوله تعالى : { أَمْوَالَكُمْ } يقتضي خطاب كل واحد منهم بالنهي عن دفع ماله إلى السفهاء لما في ذلك من تضييعه ، لعجز هؤلاء عن القيام بحفظه وتثميره ، وهو يعني به الصبيانَ والنساءَ الذين لا يكملون لحفظ المال . ويدل ذلك أيضاً على أنه لا ينبغي له أن يؤكل في حياته بماله ويجعله في يد من هذه صفته ، وأن لا يوصي به إلى أمثالهم . ويدل أيضاً على أن ورثته إذا كانوا صغاراً أنه لا ينبغي أن يوصي بماله إلا إلى أمين مضطلع بحفظه عليهم . وفيه الدلالة على النهي عن تضييع المال ووجوب حفظه وتدبيره والقيام به ، لقوله تعالى : { الَّتي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً } ، فأخبر أنه جعل قوام أجسادنا بالمال ، فمن رزقه الله منه شيئاً فعليه إخراج حقّ الله تعالى منه ثم حِفْظ ما بقي وتجنّب تضييعه ، وفي ذلك ترغيب من الله تعالى لعباده في إصلاح المعاش وحسن التدبير . وقد ذكر الله تعالى ذلك في مواضع من كتابه العزيز ، منه قوله تعالى : { ولا تبذر تبذيراً إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين } [ الإسراء : 26 و 27 ] ، وقوله تعالى : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً } [ الإسراء :29 ] ، وقوله تعالى : { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا } [ الفرقان :67 ] ، وما أمر الله تعالى به من حِفْظِ الأموال وتحصين الديون بالشهادات والكتاب والرهن على ما بينا فيما سلف . وقد قيل في قوله تعالى : { الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً } يعني أنه جعلكم قواماً عليها فلا تجعلوها في يد من يضيعها . والوجه الثاني من التأويل : ما رُوي عن سعيد بن جبير أنه أراد : لا تُؤْتوا السفهاء أموالهم ، وإنما أضافها إليهم كما قال الله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء :29 ] يعني : لا يقتل بعضُكُم بعضاً ، وقوله تعالى : { فاقتلوا أنفسكم } [ البقرة : 54 ] ، وقوله تعالى : { فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم } [ النور :61 ] يريد : من يكون فيها . وعلى هذا التأويل يكون السفهاء محجوراً عليهم فيكونون ممنوعين من أموالهم إلى أن يزول السفه .
وقد اخْتُلِفَ في معنى السفهاء ههنا ، فقال ابن عباس : " السفيه من ولدك وعيالك " وقال : " المرأة من أسفه السفهاء " . وقال سعيد بن جبير والحسن والسدي والضحاك وقتادة : " النساء والصبيان " . وقال بعض أهل العلم : " كل من يستحقّ صفة سَفِيهٍ في المال من محجور عليه وغيره " . وروى الشعبي عن أبي بُرْدة عن أبي موسى الأشعري قال : " ثلاثة يدعون الله لا يُستجاب لهم : رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ، ورجل أعطى ماله سفيهاً وقد قال الله تعالى : { وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ } ، ورجل داين رجلاً فلم يشهد عليه " . ورُوي عن مجاهد : " أن السفهاء النساء " . وقيل إن أصل السفه خفة الحلم ، ولذلك سُمِّي الفاسق سفيهاً لأنه لا وزن له عند أهل الدين والعلم ، ويسمَّى الناقص العقل سفيهاً لخفة عقله ؛ وليس السفه في هؤلاء صفة ذمّ ولا يفيد معنى العصيان لله تعالى ، وإنما سُمُّوا سفهاء لخفة عقولهم ونقصان تمييزهم عن القيام بحفظ المال .
فإن قيل : لا خلاف أنه جائز أن نَهَبَ النساء والصبيان المال ، وقد أراد بشير أن يهب لابنه النعمان فلم يمنعه النبي صلى الله عليه وسلم منه إلا لأنه لم يُعْطِ سائر بنيه مثله ، فكيف يجوز حمل الآية على منع إعطاء السفهاء أموالنا ؟ قيل له : ليس المعنى فيه التمليك وهِبَةَ المال ، وإنما المعنى فيه أن نجعل الأموال في أيديهم وهم غير مضطلعين بحفظها ، وجائز للإنسان أن يَهَبَ الصغير والمرأة كما يهب الكبير العاقل ولكنه يقبضه له من يلي عليه ويحفظ ماله ولا يضيعه ، وإنما مَنَعَنَا الله تعالى بالآية أن نجعل أموالنا في أيدي الصغار والنساء اللاتي لا يكملن بحفظها وتدبيرها .
وقوله عز وجل : { وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ } ، يعني وارزقوهم من هذه الأموال ؛ لأن " في " ههنا بمعنى " مِنْ " إذْ كانت حروف الصفات تتعاقب فيقام بعضها مقام بعض ، كما قال تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } وهو بمعنى " مع " ، فنهانا الله عن دفع الأموال إلى السفهاء الذين لا يقومون بحفظها وأمرنا بأن نرزقهم منها ونكسوهم . فإن كان مراد الآية النهي عن إعطائهم مالنا على ما اقتضى ظاهرها ففي ذلك دليل على وجوب نفقة الأولاد السفهاء والزوجات لأمره إيانا بالإنفاق عليهم من أموالنا ؛ وإن كان تأويلها ما ذهب إليه القائلون بأن مرادها أن لا نعطيهم أموالهم وهم سفهاء ، فإنما فيه الأمر بالإنفاق عليهم من أموالهم . وهذا يدل على الحَجْرِ من وجهين ، أحدهما : منعهم من أموالهم ، والثاني : إجازته تصرفنا عليهم في الإنفاق عليهم وشِرَى أقواتهم وكسوتهم .
وقوله تعالى : { وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً } ، قال مجاهد وابن جريج : { قَوْلاً مَعْرُوفاً } عِدَةً جميلة بالبرّ والصلة على الوجه الذي يجوز ويحسن . ويحتمل أن يريد به إجمال المخاطبة لهم وإلانةَ القول فيما يخاطبون به ، كقوله تعالى : { فأما اليتيم فلا تقهر } [ الضحى :9 ] ، وكقوله : { وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولاً ميسوراً } [ الإسراء : 28 ] . وقد قيل إنه جائز أن يكون القول المعروف ههنا التأديب والتنبيه على الرشد والصلاح والهداية للأخلاق الحسنة ، ويحتمل أن يريد به : إذا أعطيتموهم الرزق والكسوة من أموالكم أن تُجْمِلُوا لهم القول ولا تؤذوهم بالتذمّر عليهم والاستخفاف بهم ، كما قال تعالى : { وَإِذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبَى واليَتَامَى والمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً } ، يعني والله أعلم : إجمال اللفظ وترك التذمر والامتنان ؛ وكما قال تعالى : { لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى } [ البقرة :264 ] . وجائز أن تكون هذه المعاني كلها مرادة بقوله تعالى : { وقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً } ، والله أعلم .