باب دفع المال إلى اليتيم
قال الله تعالى : { وَابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إليْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } . قال الحسن ومجاهد وقتادة والسدي : " يعني اختبروهم في عقولهم ودينهم " . قال أبو بكر : أمرنا باختبارهم قبل البلوغ ؛ لأنه قال : { وَابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ } ، فأخبر أن بلوغ النكاح بعد الابتلاء ؛ لأن " حتى " غاية مذكورة بعد الابتلاء ، فدلت الآية من وجهين على أن هذا الابتلاء قبل البلوغ ، وفي ذلك دليل على جواز الإذن للصغير الذي يعقل في التجارة ؛ لأن ابتلاءه لا يكون إلا باستبراء حاله في العلم بالتصرف وحفظ المال ومتى أُمر بذلك كان مأذوناً في التجارة .
وقد اختلف الفقهاء في إذن الصبيّ في التجارة ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد والحسن بن صالح : " جائز للأب أن يأذن لابنه الصغير في التجارة إذا كان يعقل الشِّرَى والبيع ، وكذلك وصيّ الأب أو الجد إذا لم يكن وصيّ أب ويكون بمنزلة العبد المأذون له " . وقال ابن القاسم عن مالك : " لا أرى إذن الأب والوصيّ للصبي في التجارة جائزاً ، وإن لحقه في ذلك دَيْنٌ لم يلزم الصبي منه شيء " . وقال الربيع عن الشافعي في كتابه في الإقرار : " وما أقرّ به الصبي من حق الله تعالى أو الآدمي أو حقّ في مال أو غيره فإقراره ساقط عنه سواء كان الصبيّ مأذوناً له في التجارة أذن له أبوه أو وليّه من كان أو حاكم ، ولا يجوز للحاكم أن يأذن له ، فإن فعل فإقراره ساقط عنه ، وكذلك شراؤه وبيعه مفسوخ " .
قال أبو بكر : ظاهر الآية يدل على جواز الإذن له في التجارة لقوله تعالى : { وَابْتَلُوا اليَتَامَى } ، والابتلاء هو اختبارهم في عقولهم ومذاهبهم وحزمهم فيما يتصرفون فيه ، فهو عام في سائر هذه الوجوه ، وليس لأحد أن يقتصر بالاختبار على وجه دون وجه فيما يحتمله اللفظ ، والاختبارُ في استبراء حاله في المعرفة بالبيع والشِّرَى وضبط أموره وحفظ ماله لا يكون إلا بإذن له في التجارة ، ومن قَصَرَ الابتلاء على اختبار عقله بالكلام دون التصرف في التجارة وحفظ المال فقد خصَّ عموم اللفظ بغير دلالة .
فإن قيل : الذي يدل على أنه لم يُرد الإذْنَ له في التصرف في حال الصغر قولُه تعالى في نسق التلاوة : { فإنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } ، وإنما أمر بدفع المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشْدِ ، ولو جاز الإذن له في التجارة في صغره لجاز دفع المال إليه في حال الصغر ، والله تعالى إنما أمر بدفع المال إليه بعد البلوغ وإيناس الرشد . قيل له : ليس الإذْنُ له في التجارة من دفع المال إليه في شيء ؛ لأن الإذن هو أن يأمره بالبيع والشرى ، وذلك ممكن بغير مال في يده كما يأذن للعبد في التجارة من غير مال يدفعه إليه ؛ فنقول : إن الآية اقتضت الأمر بابتلائه ، ومن الابتلاء الإذن له في التجارة وإن لم يدفع إليه مالاً ، ثم إذا بلغ وقد أونس منه رشده دفع المال إليه ، ولو كان الابتلاء لا يقتضي اختباره بالإذن له في التصرف في الشرى والبيع وإنما هو اختبار عقله من غير استبراء حاله في ضبطه وعلمه بالتصرف لما كان للابتلاء وجه قبل البلوغ ؛ فلما أمر بذلك قبل البلوغ علمنا أن المراد اختبار أمره بالتصرف ، ولأن اختبار صحة عقله لا ينبئ عن ضبطه لأموره وحفظه لماله وعلمه بالبيع والشرى ، ومعلوم أن الله تعالى أمر بالاحتياط له في استبراء أمره في حفظ المال والعلم بالتصرف ، فوجب أن يكون الابتلاء المأمور له قبل البلوغ مأموراً بذلك لا لاختبار صحة عقله فحسب . وأيضاً فإن لم يجز الإذن له في التجارة قبل البلوغ لأنه محجور عليه فالابتلاء إذاً ساقط من هذا الوجه ، فلا يخلو بعد البلوغ متى أردنا التوصل إلى إيناس رشده من أن نختبره بالإذن له في التجارة أو لا نختبره بذلك ، فإن وجب اختباره فقد أجَزْتَ له التصرف وهو عندك محجور عليه بعد البلوغ إلى إيناس الرشد ، فإن جاز الإذن له في التجارة وهو محجورٌ عليه بعد البلوغ فقد أخرجْتَهُ من الحجر وإن لم يخرج من الحجر وهو ممنوع من ماله بعد البلوغ وهو مأذون له ، فهلاّ أذنتَ له قبل البلوغ في التجارة لاستبراء حاله كما يستبرأ بها بالإذن بعد البلوغ مع بقاء الحجر إلى إيناس الرشد ! وإن لم يستبرأ حاله بعد البلوغ بالإذن فكيف يُعلم إيناس الرشد منه ؟ فقول المخالف لا يخلو من ترك الابتلاء أو دفع المال قبل إيناس الرشد .
ويدل على جواز الإذن للصغير في التجارة ما رُوي : " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن أبي سلمة وهو صغير بتزويج أم سلمة إيّاه " ، وروى عبدالله بن شداد : " أنه أمر سلمة بن أبي سملة بذلك وهو صغير " ، وفي ذلك دليل على جواز الإذن له في التصرف الذي يملكه عليه غيره من بيع أو شِرًى ؛ ألا ترى أنه يقتضي جواز توكيل الأب إياه بشِرَى عبد للصغير أو بيع عبد له ؟ هذا هو معنى الإذن له في التجارة ، وأما تأويل من تأول قوله تعالى : { وَابْتَلُوا اليَتَامَى } على اختبارهم في عقولهم ودِينهم ، فإن اعتبار الدِّين في دفع المال غير واجب باتفاق الفقهاء ؛ لأنه لو كان رجلاً فاسقاً ضابطاً لأموره عالماً بالتصرف في وجوه التجارات لم يَجُزْ أن يُمنع ماله لأجل فِسْقِه ، فعلمنا أن اعتبار الدين في ذلك غير واجب ؛ وإن كان رجلاً ذا دِينٍ وصلاح إلا أنه غير ضابط لماله يُغبن في تصرفه كان ممنوعاً من ماله عند القائلين بالحَجْرِ لقلة الضبط وضعف العقل ، فعلمنا أن اعتبار الدين في ذلك لا معنى له .
وأما قوله تعالى : { حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ } فإن ابن عباس ومجاهد والسدي قالوا : " هو الحلم وهو بلوغ حال النكاح من الاحتلام " .
وأما قوله تعالى : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً } فإن ابن عباس قال : " فإن علمتم منهم ذلك " . وقيل : إن أصل الإيناس هو الإحساس ، حُكي عن الخليل . وقال الله تعالى : { إني آنست ناراً } [ طه :10 ] يعني أحسستها وأبصرتها .
وقد اختلف في معنى الرُّشْدِ ههنا ، فقال ابن عباس والسدي : " الصلاح في العقل وحفظ المال " . وقال الحسن وقتادة : " الصلاح في العقل والدين " . وقال إبراهيم النخعي ومجاهد : " العقل " . ورَوَى سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى : { فَإنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً } قال : " إذا أدرك بحلم وعقل ووقار " .
قال أبو بكر : إذا كان اسم الرشد يقع على العقل لتأويل من تأوله عليه ، ومعلومٌ أن الله تعالى شرط رُشْداً منكوراً ولم يشرط سائر ضروب الرشد ، اقتضى ظاهر ذلك أن حصول هذه الصفة له بوجود العقل موجباً لدفع المال إليه ومانعاً من الحَجْرِ عليه ؛ فهذا يُحتجّ به من هذا الوجه في إبطال الحجر على الحر العاقل البالغ ، وهو مذهب إبراهيم ومحمد بن سيرين وأبي حنيفة ؛ وقد بينا هذه المسألة في سورة البقرة .
وقوله تعالى : { فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } يقتضي وجوب دفع المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد على ما بينا ، وهو نظير قوله تعالى : { وآتُوا اليَتَامَى أَمْوَالَهُمْ } ، وهذه الشريطة معتبرة فيها أيضاً ، وتقديره : وآتوا اليتامى أموالهم إذا بلغوا وآنستم منهم رشداً .
وأما قوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا } ، فإن السرف مجاوزة حدّ المباح إلى المحظور ، فتارة يكون السرف في التقصير وتارة في الإفراط لمجاوزة حدّ الجائز في الحالين .
وقوله تعالى : { وبِدَاراً } ، قال ابن عباس وقتادة والحسن والسدي : " مبادرة " ، والمبادرة الإسراع في الشيء ، فتقديره النهي عن أكل أموالهم مبادرة أن يكبروا فيطالبوا بأموالهم . وفيها دلالة على أنه إذا صار في حَدِّ الكبر استحق المال إذا كان عاقلاً من غير شرط إيناس الرشد ؛ لأنه إنما شرط إيناس الرشد بعد البلوغ ، وأفاد بقوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُوهَا إسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا } أنه لا يجوز له إمساك ماله بعد ما يصير في حد الكبر ، ولولا ذلك لما كان لذكر الكبر ههنا معنى ، إذ كان الوالي عليه هو المستحق لماله قبل الكبر وبعده ، فهذا يدل على أنه إذا صار في حدّ الكبر استحق دفع المال إليه . وجعل أبو حنيفة حد الكبر في ذلك خمساً وعشرين سنة ؛ لأن مثله يكون جدّاً ، ومحال أن يكون جدّاً ولا يكون في حدّ الكبار . والله أعلم .
باب أكْلِ ولي اليتيم من ماله
قال الله تعالى : { وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالمعْرُوفِ } . قال أبو بكر : قد اختلف السلف في تأويله ، فَرَوَى معمر عن الزهري عن القاسم بن محمد قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : إن في حِجْري أيتاماً لهم أموال ، وهو يستأذنه أن يصيب منها ، فقال ابن عباس : ألست تهنأ جرباءها ؟ قال : بلى ، قال : ألست تبغي ضالّتها ؟ قال : بلى ، قال : ألست تلوط حِياضَها ؟ قال : بلى ، قال : ألست تفرط عليها يوم ورودها ؟ قال : بلى ، قال : فاشرب من لبنها غير ناهِكٍ في الحَلْبِ ولا مضرٍّ بنسل . وروى الشيباني عن عكرمة عن ابن عباس قال : " الوصيّ إذا احتاج وَضَعَ يده مع أيديهم ولا يكتسي عمامة " . فشرط في الحديث الأول عمله في مال اليتيم في إباحة الأكل ، ولم يشرط في حديث عكرمة . وروى ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب قال : حدثني أبو الخير مرثد بن عبدالله اليزني أنه سأل أناساً من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : { وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ } ، فقالوا : فينا نزلت ، إن الوصيّ كان إذا عمل في نخل اليتيم كانت في يده مع أيديهم . وقد طُعن في هذا الحديث من جهة سنده ، ويفسد أيضاً من جهة أنه لو أُبيح لهم الأكل لأجل عملهم لما اختلف فيه الغنيّ والفقير ، فعلمنا أن هذا التأويل ساقط . وأيضاً في حديث ابن عباس إباحةُ الأكل دون أن يكتسي منه عِمَامَةً ، ولو كان ذلك مستحقّاً لعمله لما اختلف فيه حكم المأكول والملبوس ، فهذا أحد الوجوه التي تأولت عليه الآية وهو أن يقتصر على الأكل فحسب إذا عمل لليتيم . وقال آخرون : " يأخذه قرضاً ثم يقضيه " . ورَوَى شريك عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن عمر قال : " إني أنزلتُ مال الله تعالى مني بمنزلة مال اليتيم ، إن استغنيتُ استعففتُ وإن افتقرتُ أكلتُ بالمعروف وقضيتُ " . ورُوي عن عبيدة السلماني وسعيد بن جبير وأبي العالية وأبي وائل ومجاهد مثل ذلك ، وهو أن يأخذ قرضاً ثم يقضيه إذا وجد . وقول ثالث : قال الحسن وإبراهيم وعطاء بن أبي رباح ومكحول : " إنه يأخذ منه ما يسدّ الجوعة ويواري العورة ولا يقضي إذا وجد " . وقول رابع : وهو ما رُوي عن الشعبي أنه بمنزلة الميتة يتناوله عند الضرورة ، فإذا أيسر قضاه وإذا لم يوسر فهو في حِلّ . وقول خامس : وهو ما رَوَى مقسم عن ابن عباس : { فَلْيَسْتَعْفِفْ } قال : بغناه { وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ } قال : فلينفق على نفسه من ماله حتى لا يصيب من مال اليتيم شيئاً ؛ حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال : حدثنا منجاب بن الحارث قال : حدثنا أبو عامر الأسدي قال : حدثنا سفيان عن الأعمش عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس بمعنى ذلك . وقد رَوَى عكرمة عنه أنه يقضي . ورُوي عن ابن عباس أنه منسوخ . وقال مجاهد في رواية أخرى : " فليأكل بالمعروف من مال نفسه ولا رخصة له في مال اليتيم " ، وهو قول الحكم .
قال أبو بكر : فحصل الاختلاف بين السلف على هذه الوجوه ؛ ورُوي عن ابن عباس أربع روايات على ما ذكرنا ، أحدها : أنه إذا عمل لليتيم في إبله شَرِبَ من لبنها ، والثانية : أنه يقضي ، والثالثة : لا ينفق من مال اليتيم شيئاً ولكنه يَقُوتُ على نفسه من ماله حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم ، والرابعة : أنه منسوخ . والذي نعرفه من مذهب أصحابنا أنه لا يأخذه قرضاً ولا غيره غنيّاً كان أو فقيراً ، ولا يقرضه غيره أيضاً . وقد رَوَى إسماعيل بن سالم عن محمد قال : أما نحن فلا نحبّ للوصيّ أن يأكل من مال اليتيم شيئاً قرضاً ولا غيره ، ولم يَذْكُرْ خلافاً . وروى محمد في كتاب الآثار عن أبي حنيفة عن رجل عن ابن مسعود قال : " لا يأكل الوصيُّ من مال اليتيم قرضاً ولا غيره " ، وهو قول أبي حنيفة ؛ وذكر الطحاوي أن مذهب أبي حنيفة أنه يأخذ قرضاً إذا احتاج ثم يقضيه ، كما رُوي عن عمر ومن تابعه . ورَوَى بشر بن الوليد عن أبي يوسف : " إنه لا يأكل من مال اليتيم إذا كان مقيماً ، فإن خرج لتقاضي دَيْنٍ لهم أو إلى ضياع لهم فله أن ينفق ويكتسي ويركب ، فإذا رجع رَدَّ الثياب والدابة إلى اليتيم " ، قال : وقال أبو يوسف : وقوله تعالى : { فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } يجوز أن يكون منسوخاً بقوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم } [ النساء :29 ] . قال أبو بكر : جعل أبو يوسف الوصي في هذه الحال كالمضارب في جواز النفقة من ماله في السفر . وقال ابن عبد الحكم عن مالك : " ومن كان له يتيم فَخَلَط نفقته بماله فإن كان الذي يصيب اليتيم أكثر مما يصيب وليُّه من نفقته فلا بأس ، وإن كان الفضلُ لليتيم فلا يخلطه " ولم يفرق بين الغني والفقير . وقال المعافى عن الثوري : " يجوز لوليّ اليتيم أن يأكل طعام اليتيم ويكافئه عليه " ؛ وهذا يدل على أنه كان يجيز له أن يستقرض من ماله . وقال الثوري : " لا يعجبني أن ينتفع من ماله بشيء وإن لم يكن على اليتيم فيه ضرر ، نحو اللوح يكتب فيه " . وقال الحسن بن حيّ : " يستقرض الوصيُّ من مال اليتيم إذا احتاج إليه ثم يقضيه ، ويأكل الوصيُّ من مال اليتيم بقدر عمله فيه إذا لم يضرّ بالصبي " .
قال أبو بكر : قال الله تعالى : { وآتُوا اليَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الخَبِيثَ بالطَّيِّب وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } ، وقال تعالى : { فَإنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إسْرَافاً وَبدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا } ، وقال تعالى : { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده } [ الأنعام :152 ] ، وقال تعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً } [ النساء : 10 ] ، وقال تعالى : { وأن تقوموا لليتامى بالقسط } [ النساء : 127 ] ، وقال تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم } [ النساء : 29 ] . وهذه الآي مُحْكَمَةٌ حاظِرَةٌ لمال اليتيم على وليّه في حال الغنى والفقر ، وقوله تعالى : { وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } متشابه محتمل للوجوه التي ذكرنا ؛ فأوْلى الأشياء بها حملها على موافقة الآي المحكمة ، وهو أن يأكل من مال نفسه بالمعروف لئلا يحتاج إلى مال اليتيم ؛ لأن الله تعالى قد أمَرَنا بردّ المتشابه إلى المحكم ونهانا عن اتّباع المتشابه من غير ردٍّ له إلى المحكم ، قال الله تعالى : { منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } [ آل عمران : 7 ] ، وتأويل من تأوّله على جواز أخذ مال اليتيم قرضاً أو غير قرض مخالفٌ لمعنى المحكم ، ومن تأوله على غير ذلك فقد ردَّه إلى المحكم وحمله على معناه فهو أوْلَى . وقد رُوي أن قوله تعالى : { فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } منسوخٌ ؛ رواه الحسن بن أبي الحسن بن عطية عن عطية أبيه عن ابن عباس : { وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ } نسختها الآية التي تليها : { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً } . ورَوَى عثمان بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس مثله . ورَوَى عيسى بن عُبَيْد الكندي عن عبيدالله بن عمر بن مسلم عن الضحاك بن مزاحم في قوله تعالى : { وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } منسوخ بقوله تعالى : { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً } .
فإن قيل : رَوَى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ليس لي مال ولي يتيم ؟ فقال : " كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمِكَ غَيْرَ مُسْرِفٍ ولا مُتَأَثّلٍ مَالَكَ بِمَالِهِ " ، ورَوَى عمرو بن دينار عن الحسن العوفي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يَأْكُلُ وليُّ اليتيمِ مِنْ مَالِهِ بالمَعْرُوفِ غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مِنْهُ مَالاً " . قيل له : غير جائز الاعتراض بهذين الخبرين على ما ذكرنا من الآي المقتضية لحظر مال اليتيم ؛ فإن صحَّ ذلك فهو محمول على الوجه الذي يجوز ، وهو أن يعمل في مال اليتيم مضاربةً فيأخذ منه مقدار ربحه ، وهذا جائز عندنا ، وقد رُوي عن جماعة من السلف نحو ذلك .
فإن قيل : فإذا جاز أن يأخذ ربح مال اليتيم إذا عمل به مضاربةً ، فلِمَ لا يجوز أن يأكل من ماله إذا عمل فيه كما رُوي عن ابنِ عباس في إحدى الروايات عنه أنه إذا كان يَهْنَأُ جَرْبَاء الإبل ويبغي ضالّتها ويَلُوطُ حياضَها جاز له أن يشرب من لبنها غير مُضِرٍّ بنسل ولا نَاهِكٍ حَلْباً ؟ وكما رُوي عن الحسن أن الوصيّ كان إذا عمل في نخل اليتيم كانت يده مع أيديهم ؟ قيل له : لأنه لا يخلو الوصيّ إذا أعان في الإبل وعمل في النخل من أحد وجهين : إما أن يأخذه على وجه الأجرة لعمله أو على غير وجه الأجرة والعوض من العمل ، فإن كان يأخذه عل وجه الأجرة فذلك يفسد من أربعة أوجه ، أحدها : أن الذين أباحوا ذلك له إنما أباحوه في حال الفقر ، إذ لا خلاف أن الغنيّ لا يجوز له أخذه ، وهو نصّ الكتاب في قوله تعالى : { وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ } واستحقاق الأجرة لا يختلف فيه الغنيّ والفقير ، فبطل أن يكون أجرة من هذا الوجه . والوجه الثاني : أن الوصيّ لا يجوز له أن يستأجر نفسه لليتيم . والوجه الثالث : أن الذين أباحوا ذلك لم يشرطوا له شيئاً معلوماً ، والإجارةُ لا تصحّ إلا بأجرة معلومة . والوجه الرابع : أن من أباح ذلك له لم يجعله أجرةً ، فبطل أن يكون ذلك أجرةً ، وليس هو بمنزلة ربح المضاربة إذا عمل به الوصيّ ؛ لأن الربح الذي يستحقه من المال لم يكن قَطُّ مالاً لليتيم ، ألا ترى أن ما يشرطه رَبُّ المال للمضارب من الربح لم يكن قَطُّ ملكاً لرب المال ، ولو كان ملكاً لرب المال مشروطاً للمضارب بدلاً من عمله لوجب أن يكون مضموناً عليه كالأجرة التي هي مستحقة من مال المستأجر بدلاً من عمل الأجير هي مضمونة على المستأجر ؟ فلما لم يكن الربح المشروط للمضارب مضموناً على ربّ المال ثبت أنه لم يكن قطّ ملكاً لرب المال ، وأنه إنما حدث على ملك المضارب . ويدل على ذلك أن مريضاً لو دفع مالاً مضاربة وشرط للمضارب تسعة أعشار الربح وهو أكثر من ربح مثله ، أن ذلك جائز ولم يحتسب بالمشروط للمضارب من ذلك من مال المريض إن مات من مرضه ، وأن ذلك ليس بمنزلة ما لو استأجره بأكثر من أجرة مثله فيكون ذلك من الثلث ؛ فليس إذاً في أخْذِهِ ربح المضاربة أخذ شيء من مال اليتيم .
فإن قيل : هلاّ كان الوصيُّ في ذلك كسائر العمال والقضاة الذين يعملون ويأخذون أرزاقهم لأجل عملهم للمسلمين ! فكذلك الوصيّ إذا عمل لليتيم جاز له أخذ رزقه بقدر عمله . قيل له : لا خلاف بين الفقهاء أن الوصيّ لا يجوز له أخْذُ شيء من مالِ اليتيم لأجل عمله إذا كان غنيّاً ، وقد حظر ذلك عليه نصُّ التنزيل في قوله تعالى : { وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ } ، ولا خلاف مع ذلك أن القضاة والعمال جائز لهم أخذ أرزاقهم مع الغِنَى ؛ فلو كان ما أخذه وليّ اليتيم من ماله يَجْرِي مَجْرَى رزق القضاة والعمال جاز له أن يأخذه في حال الغِنَى ، فدلّ ذلك أن وليّ اليتيم لا يستحق رزقاً من ماله ؛ ولا خلاف أيضاً أن القاضي لا يجوز له أن يأخذ من مال اليتيم شيئاً وإليه القيام بأمر الأيتام ، فثبت بذلك أن سائر الناس ممن لهم الولاية على الأيتام لا يجوز لهم أخذ شيء من أموالهم لا قرضاً ولا غيره كما لا يأخذه القاضي فقيراً كان أو غنيّاً .
فإن قيل : فما الفرق بين رزق القاضي والعامل وبين أخْذِ وليّ اليتيم من ماله مقدار الكفاية وبين أخْذ الأجرة ؟ قيل له : إن الرزق ليس بأجرة لشيء وإنما هو شيء جعله الله له ولكل من قام بشيء من أمور المسلمين ، ألا ترى أن الفقهاء لهم أخْذُ الأرزاق ولم يعملوا شيئاً يجوز أخذ الأجرة عليه ؟ لأن اشتغالهم بالفتيا وتفقيه الناس فَرْضٌ ، ولا جائز لأحد أخْذُ الأجرة على الفروض ، والمقاتلةُ وذريتها يأخذون الأرزاق وليست بأجرة ، وكذلك الخلفاء ؛ وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم سَهْمٌ من الخُمْسِ والفَيْءِ وَسَهْمٌ من الغنيمة إذا حضر القتال ، وغير جائز لأحد أن يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قد كانَ يأخذ الأجر على شيء مما يقوم به من أمور الدين ، وكيف يجوز ذلك مع قول الله تعالى : { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين } [ ص : 86 ] و { قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى } [ الشورى : 23 ] ، فثبت بذلك أن الرزق ليس بأجرة . ويدلّك على هذا أنه قد تجب للفقراء والمساكين والأيتام في بيت المال الحقوق ولا يأخذونها بدلاً من شيء ، فأخْذُ الأجرة للقاضي ولمن قام بشيء من أمور الدين غير جائز ، وقد مُنِعَ القاضي أن يقبل الهدية . وسئل عبدالله بن مسعود عن قوله تعالى : { أكالون للسحت } [ المائدة : 42 ] أهو الرشا ؟ قال : " لا ، ذاك كفر إنما هو هدايا العمال " ؛ ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " هَدَايَا الأُمَرَاءِ غُلُولٌ " . فالقاضي ممنوع من أخْذِ الأجرة على شيء من أمر القضاء ومحظورٌ عليه قبول الهدايا ؛ وتأوّلها السلف على أنها السُّحْتُ المذكور في كتاب الله تعالى . ووليّ اليتيم لا يخلو فيما يأخذه من مال اليتيم من أن يأخذه أجرة أو على سبيل رزق القاضي والعامل ، ومعلوم أن الأجرة إنما تكون على عمل معلوم ومدة معلومة وأجر معلوم ، وينبغي أن يتقدم له عقد إجارة ويستوي فيها الغنيّ والفقير ، ومن يجيز له أخْذَ شيء من مال اليتيم على وَجْهِ القرض أو على جهة غير القرض فإنه لا يجعله أجرةً كما ذكرنا ولاختلاف حكم الغنيّ والفقير عندهم فيه ؛ فثبت أنه ليس بأجرة ولا يجوز له أن يأخذه على حسب ما يأخذه القضاة من الأرزاق لاستواء حال الغنيّ والفقير من القضاة فيما يأخذونه من الأرزاق ، واختلاف الغني والفقير عند مجيزي أخذ ذلك من مال اليتيم ، ولأن الرزق إنما يجب في بيت مال المسلمين لا في مال أحد بعينه من الناس . فالمشبِّهُ لوليّ اليتيم فيما يجيز له أخذ شيء من ماله بالقاضي والأجير فيما يأخذ أنه مغفل للواجب عليه .
ويدلّ على أن وليَّ اليتيم لا يَحلّ له أخذ شيء من ماله قول النبي صلى الله عليه وسلم في غنائم خيبر : " لا يَحِلُّ لي مما أفَاءَ الله عَلَيْكُمْ مِثْلُ هذه " يعني وَبَرَةً أخذها من بعيره " إلاّ الخُمُس وَالخُمُسُ مَرْدُودٌ فيكم " . فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتولاه من مال المسلمين كما ذكرنا ، فالوصيّ فيما يتولاه من مال اليتيم أحْرَى أن يكون كذلك . وأيضاً لما كان دخول الوصيّ في الوصية على وجه التبرع من غير شرط أجرة ، كان بمنزلة المستبضع فلا أجرة له ولا يحلّ له أخذ شيء منه قرضاً ولا غيره كما لا يجوز ذلك للمستبضع .
وقوله تعالى : { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ } . قال أبو بكر : الآي التي تقدم ذِكْرُهَا في أمر الأيتام تدل على أن سبيل الأيتام أن يلي عليهم غيرُهم في حفظ أموالهم والتصرف عليهم فيما يعود نفعه عليهم ، وهم وصي الأب أو الجد إن لم يكن وصيّ أب ، أو وصي الجد إن لم يكن أحد من هؤلاء ، أو أمين حاكم عَدْلٍ بعد أن يكون الأمين أيضاً عَدْلاً ؛ وكذلك شرط الأوصياء والجدّ والأب وكل من يتصرف على الصغير لا يستحق الولاية عليه إلا أن يكون عَدْلاً مأموناً ، فأما الفاسق والمتّهم من الآباء والمرتشي من الحكّام والأوصياء والأمناء غير المأمونين فإن واحداً من هؤلاء غير جائز له التصرف على الصغير ولا خلاف في ذلك نعلمه ، ألا ترى أنه لا خلاف بين المسلمين في أن القاضي إذا فسق يأخذ الرشا أو مَيْلٍ إلى هوًى وترك الحكم أنه معزول غير جائز الحكم ؟ فكذلك حكم الله فيمن ائتمنه على أموال الأيتام من قاضٍ أو وصيٍّ أو أمين أو حاكم ، فكذلك حكم الله فيمن ائتمنه على أموال الأيتام من قاضٍ أو وصيٍّ أو أمين أو حاكم ، فغير جائز ثبوت ولايته في ذلك إلا على شرط العدالة وصحة الأمانة . وقد أمر الله أولياء الأيتام بالإشهاد عليهم بعد البلوغ بما يدفعون إليهم من أموالهم ؛ وفي ذلك ضروب من الأحكام ، أحدها : الاحتياط لكل واحد من اليتيم ووالي ماله ، فأما اليتيم فلأنه إذا قامت عليه البَيِّنَةُ بقَبْضِ المالِ كان أَبْعَدَ من أن يدّعي ما ليس له ، وأما الوصيّ فلأن يبطل دعوى اليتيم بأنه لم يدفعه إليه ، كما أمر الله تعالى بالإشهاد على البيوع احتياطاً للمتبايعين . ووجه آخر في الإشهاد : وهو أنه يُظهر أداء أمانته وبراءة ساحته ، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الملتقط بالإشهاد على اللُّقَطَةِ في حديث عياض بن حماد المجاشعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَوَيْ عَدْلٍ ولا يَكْتُمْ ولا يُغَيِّبْ " ، فأمره بالإشهاد لتظهر أمانته وتزول عنه التهمة ؛ والله الموفق .
ذكر اختلاف الفقهاء في تصديق الوصي على دفع المال إلى اليتيم
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد في الوصي إذا ادَّعَى بعد بلوغ اليتيم أنه قد دفع المال إليه : " إنه يصدَّق " ، وكذلك لو قال : أنفقتُ عليه في صِغَرِهِ ، صُدِّقَ في نفقة مثله ، وكذلك لو قال : هلك المال ؛ وهو قول سفيان الثوري . وقال مالك : " لا يصدَّقُ الوصيُّ أنه دفع المال إلى اليتيم " ، وهو قول الشافعي ، قال : " لأن الذي زعم أنه دفعه إليه غير الذي ائتمنه كالوكيل بدفع المال إلى غيره لا يصدَّقُ إلا ببَيِّنَة " ، وقال الله تعالى : { فإذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ } .
قال أبو بكر : وليس في الأمر بالإشهاد دليلٌ على أنه غير أمين ولا مصدَّق فيه ؛ لأن الإشهاد مندوب إليه في الأمانات كهو في المضمونات ، ألا ترى أنه يَصُحُّ الإشهادُ على رَدِّ الأمانات من الودائع كما يصح في أداء المضمونات من الديون ؟ فإذاً ليس في الأمر بالإشهاد دلالة على أنه غير مصدق فيه إذا لم يشهد .
فإن قيل : إذا كان مصدَّقاً في الردِّ فما معنى الإشهاد مع قبول قوله بغير بَيِّنة ؟ قيل له : فيه ما قدمنا ذكره من ظهور أمانته والاحتياط له في زوال التّهمة عنه في أن لا يُدَّعَى عليه بعد ما قد ظهر ردُّه ، وفيه الاحتياط لليتيم في أن لا يدَّعي ما يظهر كذبه فيه ، وفيه أيضاً سقوط اليمين عن الوصيّ إذا كانت له بَيِّنَةٌ في دفعه إليه ؛ ولو لم يشهد وادَّعى اليتيمُ أنه لم يدفعه كان القولُ قولَ الوصيِّ مع يمينه ، وإذا أَشْهَدَ فلا يمين عليه . فهذه المعاني كلها مضمنة بالإشهاد وإن كان أمانة في يده .
ويدل على أنه مصدَّقٌ فيه بغير إشهاد اتفاقُ الجميع على أنه مأمورٌ بحفظه وإمساكه على وجه الأمانة حتى يوصله إلى اليتيم في وقت استحقاقه ، فهو بمنزلة الودائع والمضاربات وما جرى مجراها من الأمانات ، فوجب أن يكون مصدَّقاً على الرد كما يصدَّقُ على رَدِّ الوديعة . والدليل على أنه أمانة أن اليتيم لو صدقه على الهلاك لم يضمنه ، كما أن المُودِعَ إذا صدق المُودَعَ في هلاك الوديعة لم يضمنه . وأما قول الشافعي : " إنه لما لم يأتمنهم الأيتام لم يُصَدَّقُوا " ، فقولٌ ظاهِر الاختلال بعيدٌ من معاني الفقه مُنْتَقَضٌ فاسدٌ ؛ لأنه لو كان ما ذكره علة لنفي التصديق لوجب أن لا يصدَّقَ القاضي إذا قال لليتيم قد دفعتُه إليك ؛ لأنه لم يأتمنه . وكذلك يلزمه أن يقول في الأب إذا قال بعد بلوغ الصغير : " قد دفعتُ إليك مالك " أن لا يصدقه لأنه لم يأتمنه ، ويلزمه أيضاً أن يوجب عليهم الضمان إذا تصادقوا بعد البلوغ أنه قد هلك ؛ لأنه أمسك ماله من غير ائتمان له عليه . وأما تشبيهه إيّاه بالوكيل بدفع المال إلى غيره فتشبيهٌ بعيد ، ومع ذلك فلا فرق بينهما من الوجه الذي صدقنا فيه الوصي ؛ لأن الوكيل مصدَّقٌ أيضاً في براءة نفسه غير مصدَّقٍ في إيجاب الضمان ودَفْعِهِ إلى غيره ، وإنما يُقبل قوله على المأمور بالدفع إليه ، فأما في براءة نفسه فهو مصدق كما صدقنا الوصيَّ على الرد بعد البلوغ . وأيضاً فإن الوصيَّ في معنى من يتصرف على اليتيم بإذنه ، ألا ترى أنه يجوز تصرُّفُه عليه في البيع والشِّرَى كجواز تصرف أبيه ؟ فإذا كان إمساك الوصيِّ المالَ بائتمان الأب له عليه وإذنُ الأب جائزٌ على الصغير صار كأنه ممسك له بعد البلوغ بإذنه ، فلا فرق بينه وبين المُودَع .