قوله تعالى : { للرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ } الأية . قال أبو بكر : قد انتظمت هذه الجملة عموماً ومجملاً ، فأما العموم فقوله : " للرجال وللنساء " وقوله تعالى : { مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ } ، فذلك عموم في إيجاب الميراث للرجال والنساء من الوالدين والأقربين ، فدل من هذه الجهة على إثبات مواريث ذوي الأرحام ؛ لأن أحداً لا يمتنع أن يقول إن العمَّاتِ والخالاتِ والأخوالَ وأولادَ البناتِ من الأقربين ، فوجب بظاهر الآية إثباتُ ميراثهم . إلا أنه لما كان قوله : { نَصِيبٌ } مجملاً غير مذكور المقدار في الآية امتنع استعمال حكمه إلا بورود بيان من غيره . إلا أن الاحتجاج بظاهر الآية في إثبات ميراث لذوي الأرحام سائغٌ ، وهذا مثل قوله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة } [ التوبة : 103 ] ، وقوله تعالى : { أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض } [ البقرة : 267 ] ، وقوله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } [ الأنعام : 141 ] عطفاً على ما قدم ذكره من الزرع والثمرة . فهذه ألفاظ قد اشتملت على العموم والمجمل ، فلا يمنع ما فيها من الإجمال من الاحتجاج بعمومها متى اختلفنا فيما انتظمه لفظ العموم ، وهو أصناف الأموال الموجب فيها ، وإن لم يصحَّ الاحتجاجُ بما فيها من المجمَلِ عند اختلافنا في المقدار الواجب ؛ كذلك متى اختلفنا في الورثة المستحقين للميراث ساغ الاحتجاج بعموم قوله تعالى : { للرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ } الآية ؛ ومتى اختلفنا في المقدار الواجب لكل واحد منهم احْتَجْنا في إثباته إلى بيان من غيره .
فإن قيل : لما قال : { نَصِيباً مَفْرُوضاً } ولم يكن لذوي الأرحام نصيبٌ مفروضٌ عَلِمْنا أنهم لم يدخلوا في مراد الآية . قيل له : ما ذكرتَ لا يُخرجهم من حُكْمِها وكونهم مرادين بها ؛ لأن الذي يجب لذوي الأرحام عند مُوجِبي مواريثهم هو نصيبٌ مفروضٌ لكلِّ واحد منهم ، وهو معلوم مقدَّر كأنصباء ذوي السهام لا فرق بينهما من هذا الوجه ؛ وإنما أبان الله تعالى أن لكل واحد من الرجال والنساء نصيباً مفروضاً غير مذكور المقدار في الآية ؛ لأنه مُؤْذِنٌ ببيان وتقدير معلوم له يَرِدُ في التالي فكما وَرَدَ البيان في نصيب الوالدين والأولاد وذوي السهام بعضها بنصِّ التنزيل وبعضها بنصِّ السُّنَّة وبعضها بإجماع الأمّة وبعضها بالقياس والنظر ؛ كذلك قد ورد بيان أنصباء ذوي الأرحام بعضها بالسنَّة وبعضها بدليل الكتاب وبعضها باتفاق الأمة من حيث أوجبت الآية لذوي الأرحام أنْصِبَاء ، فلم يَجُزْ إسقاط عمومها فيهم ووجب توريثهم بها . ثم إذا استحقُّوا الميراث بها كان المستحَقُّ من النصيب المفروض على ما ذهب إليه القائلون بتوريث ذوي الأرحام فيهم ، فهم وإن كانوا مختلفين في بعضها فقد اتفقوا في البعض ، وما اختلفوا فيه لم يَخْلُ من دليل لله تعالى يدلّ على حكم فيه .
فإن قيل : قد رُوي عن قتادة وابن جريج أن الآية نزلت على سبب ، وهو أن أهل الجاهلية كانوا يورثون الذكور دون الإناث فنزلت الآية ، وقال غيرهما : إن العرب كانت لا تورث إلا من طَاعِنٍ بالرمح وزَادٍ عن الحريم والمال ، فأنزل الله تعالى هذه الآية إبطالاً لحكمهم ، فلا يصحُّ اعتبار عمومها في غير ما وردت فيه . قيل له : هذا غلطٌ من وجوه ، أحدها : أن السبب الذي ذكرتَ غيرُ مقصورٍ على الأولاد وذوي السهام من القرابات الذين بَيَّنَ الله حكمهم في غيرها ، وإنما السبب أنهم كانوا يورّثون الذكور دون الإناث ، وجائز أن يكونوا قد كانوا يورّثون ذوي الأرحام من الرجال دون الإناث ؛ فليس فيما ذكرت إذاً دليل على أن السبب كان توريث الأولاد ومن ذكرهم الله تعالى من ذوي السهام في آية المواريث . ومن جهة أخرى أنها لو نزلت على سبب خاصٍّ لم يوجب ذلك تخصيصَ عمومِ اللفظ ، بل الحكم للعموم دون السبب عندنا ، فنزولها على سبب ونزولها مبتدأة من غير سبب سَواءٌ . وأيضاً فإن الله قد ذكر مع الأولاد غيرهم من الأقربين في قوله تعالى : { مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ } ، فَعَلِمْنَا أنه لم يُرِدْ به ميراث الأولاد دون سائر الأقربين . ويحتجُّ بهذه الآية في توريث الإخوة والأخوات مع الجدّ كنحو احتجاجنا بها في توريث ذوي الأرحام .
وقوله تعالى : { نَصِيباً مَفْرُوضاً } يعني والله أعلم : معلوماً مقدراً . ويقال إن أصل الفرض الحَزُّ في القِدَاح علامةً لها يميَّزُ بينها ، والفُرْضَةُ العلامة في قَسْمِ الماء يَعْرِفُ بها كل ذي حقّ نصيبه من الشرْب ؛ فإذاً كان أصلُ الفرض هذا ثم نُقل إلى المقادير المعلومة في الشرع أو إلى الأمور الثابتة اللازمة . وقد قيل إن أصل الفرض الثبوت ، ولذلك سُمّي الحزُّ الذي فِي سِيَةِ القوس فرضاً لثبوته ؛ والفرض في الشرع ينقسم إلى هذين المعنيين ، فمتى أُرِيدَ به الوجوب كان المفروض في أعلى مراتب الإيجاب . وقد اخْتُلِفَ في معنى الفرض والواجب في الشرع من بعض الوجوه ، وإن كان كل مفروض واجباً من حيث كان الفرض يقتضي فارضاً وموجباً له وليس كذلك الواجب ؛ لأنه قد يجب من غير إيجاب موجب له ، ألا ترى أنه جائز أن يقال إن ثواب المطيعين واجبٌ على الله في حكمته ولا يجوز أن يقال إنه فرض عليه ؟ إذ كان الفرض يقتضي فارضاً ، وقد يكونُ واجباً في الحكمة غير مقتضٍ موجباً . وأصل الوجوب في اللغة هو السقوط ، يقال : وَجَبَتِ الشّمْسُ إذا سقطت ، ووَجَبَ الحائِطُ إذا سَقَطَ ، وسَمِعْتُ وَجْبَةً يعني سَقْطَةً ، وقال الله تعالى : { فإذا وجبت جنوبها } [ الحج : 36 ] يعني سقطت ؛ فالفرض في أصل اللغة أشدّ تأثيراً من الواجب ؛ وكذلك حكمهما في الشرع ، إذ كان الجزُّ الواقع ثابتُ الأثر وليس كذلك الوجوب .