قوله تعالى : { وَإِذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبَى وَاليَتَامَى } الآية . قال سعيد بن المسيب وأبو مالك وأبو صالح : " هي منسوخة بالميراث " . وقال ابن عباس وعطاء والحسن والشَّعْبِيُّ وإبراهيم ومجاهد والزُّهْرِي : " إنها مُحْكَمَةٌ ليست بمنسوخة " . ورَوَى عطيةُ عن ابن عباس : " يعني عند قسمة الميراث ، وذلك قبل أن ينزل القرآن ، فأنزل الله تعالى بعد ذلك الفرائض فأعطى كل ذي حَقٍّ حَقَّه فجعلت الصدقة فيما سَمَّى المتوفى " . ففي هذه الرواية عن ابن عباس أنها كانت واجبةً عند قسمة الميراث ثم نُسخت بالميراث ، وجعلت ذلك في وصية الميت لهم . وروى عكرمة عنه : " أنها ليست بمنسوخة ، وهي في قسمة الميراث تُرْضَخُ لهم ، فإن كان في المال تقصير اعتذر إليهم ، فهو قوله تعالى : { وقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً } " . وروى الحجّاجُ عن أبي إسحاق : أن أبا موسى الأشعري وعبد الرحمن بن أبي بكر كانا يعطيان من حضر من هؤلاء . وقال قتادة عن الحسن قال : قال أبو موسى : " هي محكمة " . ورَوَى أَشْعَثُ عن ابن سيرين عن حميد بن عبدالرحمن قال : " ولي أبي ميراثاً ، فأمر بشاة فذُبحت ثمّ صُنعت ، ولما قسم ذلك الميراث أطعمهم ثم تلا : { وَإِذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبَى واليَتَامَى } الآية " . ورَوَى محمد بن سيرين عن عبيدة مثله ، وقال : " لولا هذه الآية لكانت هذه الشاة من مالي " وذكر أنه كان من مال يتيم قد وَلِيه . ورَوَى هُشَيْمٌ عن أبي بِشْرٍ عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال : " هذه الآية يتهاون بها الناس ، وقال : هما وَليَّان أحدهما يَرِثُ والآخر لا يَرِثُ ، والذي يرث هو الذي أُمِرَ أن يرزقهم ويعطيهم ، والذي لا يرث هو الذي أُمر أن يقول لهم قولاً معروفاً ويقول هذا المال لقوم غُيَّب أو لأيتام صغار ولكم فيه حقٌّ ولسنا نملك أن نُعْطَى منه شيئاً ، فهذا القول المعروف ؛ قال : هي محكمة وليست بمنسوخة " . فحمل سعيد بن جبير قوله : { فَارْزُقُوهُمْ } على أنهم يُعْطَوْن أنْصِبَاءهم من الميراث والقول المعروف للآخرين ، فكانت فائدة الآية عنده إِنْ حضر بعضُ الوَرَثَةِ وفيهم غائبٌ أو صغير أنه يُعْطَى الحاضرُ نَصِيبَهُ من الميراث ويُمْسَكُ نَصِيبٌ الغائب والصغير ؛ فإن صحَّ هذا التأويل فهو حجّة لقول من يقول في الوديعة " إذا كانت بين رجلين وغاب أحدهما أن للحاضر أن يأخذ نصيبه ويمسك المودع نصيب الغائب " ، وهو قول أبي يوسف ومحمد ؛ وأبو حنيفة يقول : " لا يُعْطَى أحد المودعين شيئاً إذا كانا شريكين فيه حتى يحضر الآخر " . وروى عطاء عن سعيد بن جبير : { وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً } قال : " يقول عِدَةً جميلة إن كان الورثة صغاراً ، يقول أولياء الورثة لهؤلاء الذين لا يرثون من قرابة الميت واليتامى والمساكين : إن هؤلاء الورثة صغار فإذا بلغوا أمرناهم أن يعرفوا حقّكم ويتبعوا فيه وصية ربهم " .
فحصل اختلاف السلف في ذلك على أربعة أوجه : قال سعيد بن المسيب وأبو مالك وأبو صالح : إنها منسوخة بالميراث . والثاني : رواية عكرمة عن ابن عباس وقول عطاء والحسن والشعبي وإبراهيم ومجاهد : أنها ثابتة الحكم غير منسوخة وهي في الميراث . والثالث ، وهو قول ثالث عن ابن عباس : أنها في وصية الميت لهؤلاء منسوخة عن الميراث ؛ وروي نحوه عن زيد بن أسلم ، قال زيد بن أسلم : " هذا شيء أُمرَ به المُوصِي في الوقت الذي يُوصِي فيه " ؛ واستدلَّ بقوله تعالى : { وَلْيَخْشَ الّذِين لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً } قال : يقول له من حضره اتّق الله وصِلْهُمْ وبِرَّهُمْ وأعطهم . والرابع : قول سعيد بن جبير في رواية أبي بشر عنه إن قوله : { فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ } هو الميراث نفسه { وقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً } لغير أهل الميراث . فأما الذين قالوا إنها منسوخة فإنه كان عندهم على الوجوب قبل نزول الميراث ، فلما نزلت المواريث وجُعِلَ لكل وارث نصيب معلوم صار ذلك منسوخاً . وأما الذين قالوا إنها ثابتة الحكم فإنه محمول عندنا على أنهم رأوها ندباً واستحباباً لا حتماً وإيجاباً ؛ لأنها لو كانت واجبة مع كثرة قسمة المواريث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ومَنْ بَعْدَهُمْ لنُقل وجوب ذلك واستحقاقه لهؤلاء كما نقلت المواريث لعموم الحاجة إليه ، فلما لم يثبت وجوب ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة دلَّ ذلك على أنه استحباب ليس بإيجاب ؛ وما رُوي عن عبدالرحمن وعبيدة وأبي موسى في ذلك فجائزٌ أن يكون الورثةُ كانوا كباراً ، فذبح الشاة من جملة المال بإذنهم ؛ وما رُوي في هذا الحديث أن عبيدة قسم ميراث أيتام فذبح شاة ، فإن هذا على أنهم كانوا يتامى فكبروا ؛ لأنهم لو كانوا صغاراً لم تصح مقاسمتهم . ويدل على أنه نَدْبٌ ما رَوَى عطاء عن سعيد بن جبير : أن الوصي يقول لهؤلاء الحاضرين من أولي القربى وغيرهم : إن هؤلاء الورثة صغار ، ويعتذرون إليهم بمثله ، ولو كانوا مستحقين له على الإيجاب لوجب إعطاؤهم صغاراً كان الورثة أو كباراً . وأيضاً فإن الله تعالى قد قسم المواريث بين الورثة وبين نصيب كل واحد منهم في آية المواريث ولم يجعل فيها لهؤلاء شيئاً ، وما كان ملكاً لغيره فغير جائز إزالتُه إلى غيره إلا بالوجوه التي حكم الله بإزالته بها لقوله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم } [ النساء : 29 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " دِمَاؤُكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ " ، وقال : " لا يَحِلُّ مَالُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ إلا بِطيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ " ؛ وهذا كله يوجب أن يكون إعطاء هؤلاء الحاضرين عند القسمة استحباباً لا إيجاباً .
وأما قوله تعالى : { وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً } ، فقد رُوي عن ابن عباس أنه إذا كان في المال تقصير اعْتُذر إليهم . وعن سعيد بن جبير قال : " يُعْطَى الميراثُ أهلَه وهو معنى قوله تعالى : { فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ } في هذه الرواية ويقول لمن لا يرث : إن هذا المال لقوم غُيَّبٍ ولأيتام صغار ولكم فيه حقّ ولسنا نملك أن نعطي منه شيئاً " . فمعناه عنده ضَرْبٌ من الاعتذار إليهم . وقال بعض أهل العلم : إذا أعطوهم عند القسمة شيئاً لا يمنّ عليهم ولا ينتهرهم ولا يسيء اللفظ فيما يخاطبهم به ، لقوله تعالى : { قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى } [ البقرة : 263 ] ، وقوله تعالى : { فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر } [ الضحى : 9 و 10 ] .