قوله تعالى : { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمُ } الآية . اختلف السلف في تأويله ، فرُوي عن ابن عباس رواية وعن سعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي قالوا : " هو الرجل يحضره الموت فيقول له من يحضره اتّق الله أعطهم صِلْهُم برَّهُم ، ولو كانوا هم الذين يوصون لأحبوا أن يبقوا لأولادهم " ، قال حبيب بن أبي ثابت : فسألت مقسماً عن ذلك ، فقال : لا ، ولكنه الرجل يحضره الموت فيقول له من يحضره اتَّقِ الله وأمسك عليك مالك ، ولو كانوا ذوي قرابته لأحَبُّوا أن يوصي لهم . فتأوّله الأوّلون على نهي الحاضرين عن الحضِّ على الوصية ، وتأوله مقْسَمٌ على نَهْي من يأمره بتركها . وقال الحسن في رواية أخرى : " هو الرجل يكون عند الميت فيقول أوص بأكثر من الثلث من مالك " . وعن ابن عباس رواية أخرى أنه قال في ولاية مال اليتيم وحِفْظه : " إن عليهم أن يعملوا فيه ويقولوا بمثل ما يحبّ أن يُعْمَلَ ويُقَالَ في أموال أيتامهم وضعاف ذرّيتهم بعد موتهم " . وجائز أن تكون هذه المعاني التي تأوّل السلف عليها الآية مرادة بها ؛ إلا أن ما نُهي عنه من الأمر بالوصية أن النّهْيَ عنها إذا قصد المشير بذلك إلى الإضرار بالورثة أو بالمُوصَى لهم مما لا يرضاه هو لنفسه لو كان مكان هؤلاء ، وذلك بأن يكون المريض قليل المال له ذرية ضعفاء فيأمره الذي يحضره باستغراق الثلث للوصية ، ولو كان هو مكانه لم يَرْضَ بذلك وصيةً له لأجل ورثته ؛ وهذا يدل على أن المستحبَّ له إذا كان له ورثة ضعفاء وهو قليل المال أن لا يوصي بشيء ويتركه لهم أو يوصي لهم بأقلّ من الثلث . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد حين قال أوصي بجميع مالي ؟ فقال : " لا " إلى أن ردَّه إلى الثلث فقال : " الثّلُثُ والثُّلُثُ كَثِيرٌ ، إنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عالةً يَتكَفَّفُونَ النّاسَ " ؛ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الورثة إذا كانوا فقراء فتَرْكُ الوصية ليستغنوا به أفضل من فعلها . وذكر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه كان يقول : " الأفضل لمن له مال كثير الوصية بما يريد أن يوصي به على وجه القربة من ثلث ماله ، والأفضل لمن ليس له مال كثير أن لا يوصي منه بشيء وأن يبقيه لورثته " . والنهي منصرف أيضاً إلى من يأمره من الحاضرين بأن يوصي بأكثر من الثلث ، على ما رُوي عن الحسن ، لأن ذلك لا يجوز أن يفعله لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " الثلث كثير " ولنهيه سعداً عن الوصية بأكثر من الثلث . وجائز أن يكون ما قال مِقْسَمٌ مراداً بأن يقول الحاضر : لا تُوصِ بشيء ! ولو كان من ذوي قرابته لأحَبَّ أن يوصي له ، فيشير عليه بما لا يرضاه لنفسه . وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم معنى ذلك ، حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا إبراهيم بن هاشم قال : حدثنا هُدْبَةُ قال : حدثنا همامٌ قال : حدثنا قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يُؤْمِنُ العَبْدُ حَتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الخَيْرِ " . وحدثنا عبد الباقي قال : حدثنا الحسن بن العباس الرازي قال : حدثنا سهل بن عثمان قال : حدثنا زياد بن عبدالله عن ليث عن طلحة عن خيثمة عن عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لا إِله إِلاّ الله وأنّ مُحَمّداً رَسُولُ الله ويُحِبُّ أن يأتيَ إلى النّاس ما يُحِبُّ أنْ يُؤْتَى إليه " . قال أبو بكر : فهذا معنى قوله تعالى : { وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا الله وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً } ، فنهاه عزّ وجلّ أن يشير على غيره ويأمره بما لا يرضاه لنفسه ولأهله ولورثته ، وأمر الله تعالى بأن يقول الحاضرون قولاً سديداً وهو العدل والحقّ الذي لا خلل فيه ولا فساد في إجحافٍ بوارثٍ أو حرمانٍ لذي قرابة .