باب هبة المرأة المهر لزوجها
قال الله تعالى : { وآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً } . رُوي عن قتادة وابن جريج في قوله تعالى : { وآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } قالا : " فريضة " ، كأنهما ذهبا إلى نِحْلَةِ الدَّيْن وأن ذلك فرض فيه . ورُوي عن أبي صالح في قوله تعالى : { وآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } قال : " كان الرجل إذا زوّج موليته أخذ صداقتها فنُهوا عن ذلك " ، فجعله خطاباً للأولياء أن لا يحبسوا عنهن المهور إذا قبضوها . إلا أن معنى النحلة يرجع إلى ما ذكره قتادة في أنها فريضة ، وهذا على معنى ما ذكره الله عقيب ذكر المواريث فريضة من الله . قال بعض أهل العلم : إنما سُمِّي المهرُ نحلةً والنحلةُ في الأصل العطية والهبة في بعض الوجوه ؛ لأن الزوج لا يملك بدله شيئاً ، لأن البُضْعَ في ملك المرأة بعد النكاح كهو قبله ، ألا ترى أنها لو وطئت بشبهة كان المهر لها دون الزوج ؟ فإنما سمّي المهر نحلة لأنه لم يَعْتَضْ من قِبَلِها عِوَضاً يملكه ، فكان في معنى النحلة التي ليس بإزائها بدل ؛ وإنما الذي يستحقه الزوج منها بعقد النكاح هو الاستباحة لا الملك . وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى في قوله تعالى : { نِحْلَةً } يعني : بطيبة أنفسكم ، يقول لا تعطوهن مهورهن وأنتم كارهون ولكن آتوهن ذلك وأنفسكم به طيبة وإن كان المهر لهن دونكم . قال أبو بكر : فجائز على هذا المعنى أن يكون إنما سماه نحلةً لأن النحلة هي العطية وليس يكاد يفعلها الناحِلُ إلا متبرعاً بها طَيِّبة بها نفسه ، فأُمروا بإيتاء النساء مهورهن بطيبة من أنفسهم كالعطية التي يفعلها المعطي بطيبة من نفسه .
ويُحتجّ بقوله تعالى : { وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهنَّ نِحْلَةً } في إيجاب كمال المهر للمَخْلُوِّ بها لاقتضاء الظاهر له ، وأما قوله تعالى : { فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً } فإنه يعني عن المهر ، لما أمرهم بإيتائهن صدقاتهن عقبه بذكر جواز قبول إبرائها وهِبَتِها له لئلا يظن أن عليه إيتاءها مهرها وإن طابت نفسها بتركه . قال قتادة في هذه الآية : " ما طابت به نفسها من غيره كره فهو حلال " ، وقال علقمة لامرأته : أطعميني من الهنيء المريء . فتضمنت الآية معاني : منها أن المهر لها وهي المستحقة له لا حقَّ للوليّ فيه . ومنها أن على الزوج أن يعطيها بطيبة من نفسه . ومنها جواز هبتها المهر للزوج والإباحة للزوج في أخذه بقوله تعالى : { فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً } . ومنها تساوي حال قبضها للمر وترك قبضها في جواز هبتها للمهر ؛ لأن قوله تعالى : { فكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً } يدل على المعنيين ، ويدل أيضاً على جواز هبتها للمهر قبل القبض لأن الله تعالى لم يفرق بينهما .
فإن قيل : قوله تعالى : { فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً } يدل على أن المراد فيما تعيَّن من المهر ، إما أن يكون عَرَضاً بعينه فقبضته أو لم تقبضه أو دراهم قد قبضتها ، فأما دين في الذمة فلا دلالة في الآية على جواز هبتها له ، إذ لا يقال لما في الذمة كُلْهُ هنيئاً مريئاً . قيل له : ليس المراد في ذلك مقصوراً على ما يتأتى فيه الأكل دون ما لا يتأتّى ؛ لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون خاصّةً في المهر إذا كان شيئاً مأكولاً ، وقد عقل من مفهوم الخطاب أنه غير مقصور على المأكول منه دون غيره ؛ لأن قوله تعالى : { وآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } عامّ في المهور كلها سواء كانت من جنس المأكول أو من غيره ، وقوله تعالى : { فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً } شامل لجميع الصدقات المأمور بإيتائها ، فدل أنه لا اعتبار بلفظ الأكل في ذلك وأن المقصد فيه جواز استباحته بطيبة من نفسها ؛ وقال الله تعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً } [ النساء :10 ] وقال تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [ البقرة :188 ] ، وهو عموم في النهي عن سائر وجوه التصرف في مال اليتيم من الديون والأعيان المأكول وغير المأكول ، وشاملٌ للنهي في أخذ أموال الناس إلا على وجه التجارة عن تراضٍ ، وليس المأكول بأوْلى بمعنى الآية من غيره . وإنما خُصَّ الأكل بالذكر لأنه معظم ما يبتغى له الأموال ، إذْ به قوام بدن الإنسان ، وفي ذكره للأكل دلالة على ما دونه ، وهذا كقوله تعالى : { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع } [ الجمعة :9 ] فخصَّ البيع بالذكر وإن كان ما عداه من سائر ما يشغله عن الصلاة بمثابته في النهي ؛ لأن الاشتغال بالبيع من أعظم أمورهم في السعي في طلب معايشهم ، فعقل من ذلك إرادة ما هو دونه وأنه أوْلى بالنهي إذْ قد نهاهم عما هم إليه أحْوَجُ والحاجة إليه أشدّ ؛ وكما قال تعالى : { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير } [ المائدة :3 ] فخص اللحمِ بذكر التحريم وسائر أجزائه مثله لأنه معظم ما يراد منه وينتفع به ، فكان في تحريمه أعْظَمَ منافعه دلالة على ما دونه ، فكذلك قوله تعالى : { فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً } قد اقتضى جواز هِبَتها للمهر من أي جنس كان عيناً أو ديناً قبضته أو لم تقبضه . ومن جهة أخرى أنه إذا جازت هبتها للمهر إذا كان مقبوضاً معيناً فكذلك حكمه إذا كان ديناً ؛ لأنه قد ثبت جواز تصرفها في مالها ، فلا يختلف حكم العين والدين فيه ؛ ولأن أحداً لم يفرق بينهما . وقد دلت هذه الآية على جواز هبة الدين والبراءة منه كما جازت هبة المرأة للمهر وهو دَيْنٌ ، ويدل أيضاً على أن من وهب لإنسان دَيْناً له عليه أن البراءة قد وقعت بنفس الهبة ؛ لأن الله تعالى قد حكم بصحته وأسقطه عن ذمته . ويدل على أن من وهب لإنسان مالاً فقبضه وتصرف فيه أنه جائز له ذلك وإن لم يَقُلْ بلسانه قد قبلتُ ؛ لأن الله تعالى قد أباح له أكْلَ ما وُهِبَهُ من غير شرط القبول ، بل يكون التصرف فيه بحضرته حين وهبه قبولاً . ويدل على أنها لو قالت " قد طبت لك نفساً عن مهري " وأرادت الهبة والبراءة أن ذلك جائز لقوله تعالى : { فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً } .
وقد اختلف الفقهاء في هبة المرأة مهرها لزوجها ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد والشافعي : " إذا بلغت المرأة واجتمع لها عقلُها جاز لها التصرف في مالها بالهبة أو غيرها بكراً كانت أو ثيباً " . وقال مالك : " لا يجوز أمر البكر في مالها ولا ما وضعت عن زوجها من الصداق وإنما ذلك إلى أبيها في العفو عن زوجها ، ولا يجوز لغير الأب من أوليائها ذلك " ، قال : " وبيع المرأة ذات الزوج دارها وخادمها جائز وإن كره الزوج إذا أصابت وجه البيع ، فإن كانت فيه محاباة كان من ثلث مالها ، وإن تصدقت أو وهبت أكثر من الثلث لم يجز من ذلك قليل ولا كثير " ، قال مالك : " والمرأة الأيّم إذا لم يكن لها زوج في مالها كالرجل في ماله سواء " . وقال الأوزاعي : " لا تجوز عطية المرأة حتى تلد وتكون في بيت زوجها سنة " . وقال الليث : " لا يجوز عِتْقُ المرأة ذات الزوج ولا صدقتها إلا في الشيء اليسير الذي لا بدَّ لها منه لصلة رحم أو غير ذلك مما يتقرب به إلى الله تعالى " .
قال أبو بكر : الآية قاضيةٌ بفساد هذه الأقوال شاهدةٌ بصحة قول أصحابنا الذي قدمنا ، لقوله عز وجل : { فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً } ولم يفرق فيه بين البكر والثيب ولا بين من أقامت في بيت زوجها سنة أو لم تُقِمْ ، وغير جائز الفرق بين البكر والثيب في ذلك إلا بدلالة تدل على خصوص حكم الآية في الثيب دون البكر ؛ وأجاز مالك هبة الأب والله تعالى أمرنا بإعطائها جميع الصداق إلا أن تَهَبَ هي شيئاً منه له ، فالآية قاضية ببطلان هبة الأب لأنه مأمور بإيتاء جميع الصداق إلا أن تطيب نفسها بتركه ، ولم يشرط الله تعالى طيبة نفس الأب ، فمنع ما أباحه الله له بطيبة نفسها من مهرها وأجاز ما حظره الله تعالى من منع شيء من مهرها إلا بطيبة نفسها بهبة الأب . وهذا اعتراض على الآية من وجهين بغير دلالة ، أحدهما : منعها الهبة مع اقتضاء ظاهر الآية لجوازها ، والثاني : جواز هبة الأب مع أمر الله الزوج بإعطائها الجميع إلا أن تطيب نفساً بتركه . ويدل على ذلك قوله تعالى : { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } [ البقرة :229 ] ، فمنع أن يأخذ منها شيئاً مما أعطاها إلا برضاها بالفدية ، فقد شرط رضا المرأة ولم يفرّق مع ذلك بين البكر والثَّيِّب . ويدل عليه حديث زينب امرأة عبدالله بن مسعود ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للنساء : " تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ " ، وفي حديث ابن عباس : " أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر فصلَّى ثم خطب ثم أتى النساء فأمرهن أن يتصدقن " ، ولم يفرق في شيء منه بين البكر والثيب ؛ ولأن هذا حَجْرٌ ولا يصح الحَجْرُ على من هذه صفته ، والله أعلم .