باب تزويج الصغار
قال الله تعالى : { وَإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا في اليَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } . روى الزهري عن عروة قال : قلت لعائشة : قوله تعالى : { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } الآية ؟ فقالت : " يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حِجْرِ وليّها فيرغب في مالها وجمالها ويريد أن ينكحها بأدْنَى من صَدَاقِهَا ، فَنُهُوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن وأُمروا أن ينكحوا سواهن من النساء " قالت عائشة : " ثم إن الناس اسْتَفْتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن ، فأنزل الله : { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب } إلى قوله تعالى : { وترغبون أن تنكحوهن } [ النساء : 127 ] " قالت : " والذي ذكر الله تعالى أنه يُتْلَى عليكم في الكتاب الآية الأولى التي قال فيها : { وإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا في اليَتَامَى } ، وقوله في الآية الأخرى : { وترغبون أن تنكحوهن } [ النساء :127 ] رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال ، فنُهُوا أن يَنْكِحُوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن " . قال أبو بكر : ورُوي عن ابن عباس نحو تأويل عائشة في قوله تعالى : { وإنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا في اليَتَامَى } . ورُوي عن سعيد بن جبير والضحاك والربيع تأويلٌ غير هذا ، وهو ما حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال : أخبرنا عبدالرزاق قال : أخبرنا معمر عن أيوب عن سعيد بن جبير في قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا في اليَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } يقول : " ما أحل لكم من النساء مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ وخافوا في النساء مثل الذي خفتم في اليتامى ألا تقسطوا فيهن " . ورُوي عن مجاهد : " وإن خفتم ألا تقسطوا فحرّجتم من أكل أموالهم ، وكذلك فتحرَّجُوا من الزنا فانكحوا النساء نكاحاً طيباً مَثْنَى وثُلاث ورُباع " . ورُوي فيه قولٌ ثالثٌ وهو ما رَوَى شعبة عن سِمَاكٍ عن عكرمة قال : " كان الرجل من قريش تكون عنده النسوة ويكون عنده الأيتام فيذهب ماله فيميل على مال الأيتام ، فنزلت : { وإنْ خِفْتُمْ ألاَّ تُقْسِطُوا في اليَتَامَى } الآية " .
وقد اختلف الفقهاء في تزويج غير الأب والجدّ الصغيرين ، فقال أبو حنيفة : " لكل من كان من أهل الميراث من القرابات أن يزوج الأقرب فالأقرب ، فإن كان المزوج الأب أو الجدّ فلا خيار لهم بعد البلوغ ، وإن كان غيرهما فلهم الخيار بعد البلوغ " . وقال أبو يوسف ومحمد : " لا يزوِّج الصغيرين إلا العَصَبات الأقرب فالأقرب " ؛ قال أبو يوسف : " ولا خيار لهما بعد البلوغ " ، وقال محمد : " لهما الخيار إذا زوجهما غير الأب والجدّ " . وذكر ابن وهب عن مالك في تزويج الرجل يتيمه إذا رأى له الفضل والصلاح والنظر : " أن ذلك جائز له عليه " . وقال ابن القاسم عن مالك في الرجل يزوج أخته وهي صغيرة : " إنه لا يجوز ، ويزوج الوصي وإن كره الأولياء ، والوصيّ أوْلى من الوليّ ، غير أنه لا يزوج الثَّيِّبَ إلا برضاها ولا ينبغي أن يقطع عنها الخيار الذي جعل لها في نفسها ، ويزوج الوصي بنيه الصغار وبناته الصغار ولا يزوج البنات الكبار إلاّ برضاهن " . وقول الليث في ذلك كقول مالك ، وكذلك قال يحيى بن سعيد وربيعة إن الوصيّ أوْلى . وقال الثوري : " لا يزوج العمُّ ولا الأخُ الصغيرَة والأموال إلى الأوصياء والنكاح إلى الأولياء " . وقال الأوزاعي : " لا يزوج الصغيرَة إلا الأبُ " . وقال الحسن بن صالح : " لا يزوِّجُ الوصيُّ إلا أن يكون وليّاً " . وقال الشافعي : " لا يزوِّجُ الصغارَ من الرجال والنساء إلا الأبُ أو الجدُّ إذا لم يكن أبٌ ، ولا ولاية للوصيّ على الصغيرة " .
قال أبو بكر : روى جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال : قال عمر : " من كان في حِجْرِهِ تَرْكَةٌ لها عَوَارٌ فليضمها إليه فإن كانت رَغِبَةً فليزوجها غيره " . ورُوي عن علي وابن مسعود وابن عمر وزيد بن ثابت وأم سلمة والحسن وطاوس وعطاء في آخرين جوازُ تزويج غير الأب والجدّ الصغيرة . ورُوي عن ابن عباس وعائشة في تأويل الآية ما ذكرنا وأنها في اليتيمة فتكون في حجر وليِّها فيرغب في مالها وجمالها ولا يقسط لها في صداقها ، فنُهُوا أن ينكحوهن أو يبلغوا بهن أعْلَى سننهن في الصداق . ولما كان ذلك عندهما تأويل الآية دلّ على أن جواز ذلك من مذهبهما أيضاً ، ولا نعلم أحداً من السلف منع ذلك ، والآية تدل على ما تأولها عليه ابن عباس وعائشة ؛ لأنهما ذكرا أنها في اليتيمة تكون في حِجْرِ وليها فيرغب في مالها وجمالها ولا يقسط لها في الصداق فنُهُوا أن ينكحوهن أو يقسطوا لهن في الصداق ، وأقرب الأولياء الذي تكون اليتيمة في حجره ويجوز له تزوجها هو ابن العم ، فقد تضمنت الآية جواز تزويج ابن العم اليتيمة التي في حجره .
فإن قيل : لم جعلت هذا التأويل أوْلى من تأويل سعيد بن جبير وغيره الذي ذكرت مع احتمال الآية للتأويلات كلها ؟ قيل له : ليس يمتنع أن يكون المراد المعنيين جميعاً لاحتمال اللفظ لهما وليسا متنافيين فهو عليهما جميعاً ، ومع ذلك فإن ابن عباس وعائشة قد قالا إن الآية نزلت في ذلك ، وذلك لا يُقال بالرأي وإنما يقال توقيفاً فهو أوْلى لأنهما ذكرا سبب نزولها والقصة التي نزلت فيها ، فهو أوْلى .
فإن قيل : يجوز أن يكون المرادُ الجدَّ . قيل له : إنما ذَكَرا أنها نزلت في اليتيمة التي في حِجْرِهِ وَيَرْغَبُ في نِكَاحها ، والجدُّ لا يجوز له نكاحها ، فعلمنا أن المراد ابن العم ومن هو أبعد منه من سائر الأولياء .
فإن قيل : إن الآية إنما هي في الكبيرة ؛ لأن عائشة قالت : إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله تعالى : { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء } [ النساء :127 ] ، يعني قوله : { وإنْ خِفْتُمْ ألاَّ تُقْسِطُوا في اليَتَامَى } قال : فلما قال : { في يتامى النساء } [ النساء :127 ] دلّ على أن المراد الكبار منهن دون الصغار لأن الصغار لا يسمين نساء . قيل له : هذا غلط من وجهين ، أحدهما : أن قوله : { وإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا في اليَتَامَى } حقيقته تقتضي اللاتي لم يبلغْنَ ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يُتْمَ بَعْدَ بُلُوغِ الحُلُمِ " ، ولا يجوز صرف الكلام عن حقيقته إلى المجاز إلا بدلالة ، والكبيرة تسمَّى يتيمة على وجه المجاز ، وقوله تعالى : { في يتامى النساء } [ النساء :127 ] لا دلالة فيه على ما ذكرت ؛ لأنهن إذا كنّ من جنس النساء جازت إضافتهن إليهن ، وقد قال الله تعالى : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } والصغار والكبار داخلات فيهن ، وقال : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } [ النساء :22 ] ، والصغار والكبار مرادات به ، وقال : { وأمهات نسائكم } [ النساء :23 ] ، ولو تزوج صغيرة حرمت عليه أمُّها تحريماً مؤبداً ؛ فليس إذاً في إضافة اليتامى إلى النساء دلالة على أنهن الكبار دون الصغار . والوجه الآخر : أن هذا التأويل الذي ذكره ابن عباس وعائشة لا يصح في الكبار ، لأن الكبيرة إذا رضيت بأن يتزوجها بأقلّ من مهر مثلها جاز النكاح ، وليس لأحد أن يعترض عليها ، فعلمنا أن المراد الصغار اللاتي يتصرف عليهن في التزويج من هن في حجره . ويدلّ عليه ما رَوَى محمد بن إسحاق قال : أخبرني عبدالله بن أبي بكر بن حزم وعبدالله بن الحارث ومن لا أتَّهم عن عبدالله بن شداد قال : كان الذي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أُمَّ سلمة ابنُها سلمة ، فزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت حمزة وهما صبيان صغيران فلم يجتمعا حتى ماتا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هَلْ جَزَيْتُ سَلَمَةَ بتَزْوِيجِهِ إيّايَ أُمَّهِ ؟ " . وفيه الدلالة على ما ذكرنا من وجهين ، أحدهما : أنه زوجهما وليس بأب ولا جدّ ، فدل على أن تزويج غير الأب والجد للصغيرين ، والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فعل ذلك وقد قال الله تعالى : { فاتّبعوه } [ الأنعام :153 و 155 ] فعلينا اتّباعه ، فيدل على أن للقاضي تزويج الصغيرين ، وإذا جاز ذلك للقاضي جاز لسائر الأولياء لأن أحداً لم يفرق بينهما . ويدل عليه أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا نِكَاحَ إلاّ بوَليٍّ " ، فأثبت النكاح إذا كان بوليّ ، والأخُ وابنُ العم أولياء ، والدليل عليه أنها لو كانت كبيرة كانوا أولياء في النكاح . ويدلّ عليه من طريق النظر اتفاقُ الجميع على أن الأب والجدَّ إذا لم يكونا من أهل الميراث بأن كانا كافرين أو عبدين لم يزوِّجا ، فدل على أن هذه الولاية مستحقَّةٌ بالميراث ، فكل من كان من أهل الميراث فله أن يزوِّج الأقرب فالأقرب ؛ ولذلك قال أبو حنيفة : " إن للأم ومولى الموالاة أن يزوجوا إذا لم يكن أقرب منهم لأنهم من أهل الميراث " .
فإن قيل : لما كان في النكاح مالٌ وجب أن لا يجوز عقد من لا يجوز تصرفه في المال . قيل له : إن المال يثبت في النكاح من غير تسمية فلا اعتبار فيه بالولاية في المال ، ألا ترى أن عند من لا يجيز النكاح بغير ولي فللأولياء حقٌّ في التزويج وليست لهم ولاية في المال على الكبيرة ؟ ويلزم مالكاً والشافعيَّ أن لا يجيزا تزويج الأب لابنته البكر الكبيرة إذ لا ولاية له عليها في المال ، فلما جاز عند مالك والشافعي لأب البكر الكبيرة تزويجها بغير رضاها مع عدم ولايته عليها في المال دلّ ذلك على أنه لا اعتبار في استحقاق الولاية في عقد النكاح بجواز التصرف في المال ، ولما ثبت بما ذكرنا من دلالة الآية جواز تزويج وليِّ الصغيرة إيّاها من نفسه دلّ على أن لوليِّ الكبيرة أن يزوجها من نفسه برضاها . ويدل أيضاً على أن العاقد للزوج والمرأة يجوز أن يكون واحداً بأن يكون وكيلاً لهما كما جاز لوليّ الصغيرة أن يزوجها من نفسه ، فيكون الموجب للنكاح والقابل له واحداً . ويدل أيضاً على أنه إذا كان وليّاً لصغيرين جاز له أن يزوج أحدهما من صاحبه . فالآية دالَّةٌ من هذه الوجوه على بطلان مذهب الشافعي في قوله : " إن الصغيرة لا يزوجها غير الأب والجدّ " وفي قوله : " إنه لا يجوز لولي الكبيرة أن يتزوجها برضاها بغير محضر منها " ، ويدل على بطلان قوله في أنه لا يجوز أن يكون رجل واحد وكيلاً لهما جميعاً في عقد النكاح عليهما . وإنما قال أصحابنا إنه لا يجوز للوصيّ تزويج الصغيرة ، مِنْ قِبَلِ قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا نِكَاحَ إلاّ بوَلِيٍّ " ، والوصيُّ ليس بوليّ لها ، ألا ترى أن قوله : { ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً } [ الإسراء :33 ] ، فلو وجب لها قَوَدٌ لم يكن الوصيُّ لها وليّاً في ذلك ولم يستحق الولاية فيه ؟ فثبت أن الوصي لا يقع عليه اسم الوليّ ، فواجب أن لا يجوز تزويجه إياها إذ ليس بوليّ لها .
فإن قيل : فواجب على هذا أن لا يكون الأخُ أو العمُّ وليّاً للصغيرة لأنهما لا يستحقان الولاية في القِصَاصِ . قيل له : لم نجعل عدم الولاية في القصاص علة في ذلك حتى يلزمنا عليها ، وإنما بيّنا أن ذلك الاسم لا يتناوله ولا يقع عليه من جهة ما يستحق من التصرف في المال ، وأما الأخ والعم فهما وليّان لأنهما من العَصَبَاتِ ، وأحَدٌ لا يمتنع من إطلاق اسم الولي على العصبات ، قال الله تعالى : { وإني خفت الموالي من ورائي } [ مريم :5 ] . قيل إنه أراد به بني أعمامه وعَصَبَاتِه ، فاسم الوليّ يقع على العصبات ولا يقع على الوصيّ ؛ فلما قال صلى الله عليه وسلم : " لا نكاح إلا بولي " انتفى بذلك جواز تزويج الوصي للصغيرة إذْ ليس بولي ، وقال صلى الله عليه وسلم : " أيّما امْرَأَةٍ نكحت بغير إذْنِ وليّها " وفي لفظ آخر : " بغير إذن مواليها ، فنِكَاحُها باطِلٌ " فقد اقتضى بطلان نكاح المجنونة والبكر الكبيرة إذا زوّجها الوصيُّ أو تزوجت بإذن الوصيّ دون إذن الوليّ لحُكْمِ النبي صلى الله عليه وسلم ببطلان نكاحها ، إذ كانت متزوجة بغير إذن وليها . وأيضاً فإن هذه الولاية في النكاح مستحقة بالميراث لما دللنا عليه ، وليس الوصيُّ من أهل الميراث ، فلا ولاية له . وأيضاً فإن السبب الذي به يستحق الولاية في النكاح هو النسب ، وذلك لا يصح النقل فيه ولا يستحقه الوصيّ لعدم السبب الذي به يستحق الولاية ، وليس التصرف في المال بعد الموت كالتصرف في النكاح ؛ لأن المال يصح النقل فيه والنكاح لا يصح النقل فيه إلى غير الزوجين ، فلم يَجُزْ أن يكون للوصيِّ ولايةٌ فيه ، وليس الوصيُّ كالوكيل في حال حياة الأب لأن الوكيل يتصرف بأمر الموكل وأمره باقٍ لجواز تصرفه وأمر الميت منقطع فيما لا يصح فيه النقل وهو النكاح ، فلذلك اختلفا .
فإن قيل : فإن الحاكم يزوِّجُ عندكم الصغيرين مع عدم الميراث والولاية من طريق النسب . قيل له : إن الحاكم قائم مقام جماعة المسلمين فيما يتصرف فيه من ذلك ، وجماعةُ المسلمين هم من أهل ميراث الصغيرين وهم باقون ، فاستحق الولاية من حيث هو كالوكيل لهم وهو من أهل ميراثه ؛ لأنه لو مات ولا وارث له من ذوي أنسابه ورثه المسلمون .
وفي هذه الآية دلالة أيضاً على أن للأب تزويج ابنته الصغيرة من حيث دلّتْ على جواز تزويج سائر الأولياء ، إذ كان هو أقرب الأولياء ، ولا نعلم في جواز ذلك خلافاً بين السلف والخلف من فقهاء الأمصار إلا شيئاً رواه بشر بن الوليد عن ابن شبرمة أن تزويج الآباء على الصغار لا يجوز ، وهو مذهب الأصم . ويدل على بطلان هذا المذهب سوى ما ذكرنا من دلالة هذه الآية قولُه تعالى : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } [ الطلاق :4 ] ، فحكم بصحة طلاق الصغيرة التي لم تَحِضْ ، والطلاقُ لا يقع إلا في نكاح صحيح ، فتضمنت الآية جواز تزويج الصغيرة .
ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوّج عائشة وهي بنت ست سنين ، زوَّجها إيّاه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ؛ وقد حَوَى هذا الخبر معنيين : أحدهما جواز تزويج الأب الصغيرة ، والآخر أن لا خيار لها بعد البلوغ ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخيّرها بعد البلوغ .
وأما قوله تعالى : { مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } ، فإن مجاهداً قال : " معناه انكحوا نكاحاً طيباً " . وعن عائشة والحسن وأبي مالك : " ما أحل لكم " . وقال الفراء : أراد بقوله تعالى : { مَا طَابَ } المصدر ، كأنه قال : فانكحوا من النساء الطيّب ، أي الحلال ، قال : ولذلك جاز أن يقول " ما " ولم يقل " من " .
وأما قوله تعالى : { مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ } ، فإنه إباحةٌ للثنتين إن شاء وللثلاث إن شاء وللرباع إن شاء ، على أنه مخير في أن يجمع في هذه الأعداد من شاء ؛ قال : فإن خاف أن لا يعدل اقتصر من الأربع على الثلاث ، فإن خاف أن لا يعدل اقتصر من الثلاث على الاثنتين ، فإن خاف أن لا يعدل بينهما اقتصر على الواحدة . وقيل : إن " الواو " ههنا بمعنى " أو " كأنه قال : مثنى أو ثلاث أو رباع . وقيل أيضاً فيه : إن " الواو " على حقيقتها ولكنه على وجه البدل ، كأنه قال : وثلاث بدلاً من مثنى ، ورباع بدلاً من ثلاث ، لا على الجمع بين الأعداد . ومن قال هذا قال : إنه لو قيل ب " أو " لجاز أن لا يكون الثلاث لصاحب المثْنَى ولا الرباع لصاحب الثلاث ، فأفاد ذكر " الواو " إباحة الأربع لكل أحد ممن دخل في الخطاب ، وأيضا فإن المثنى داخل في الثلاث والثلاث في الرباع ؛ إذ لم يثبت أن كل واحد من الأعداد مراد مع الأعداد الأُخَر على وجه الجمع ، فتكون تسعاً ؛ وهذا كقوله تعالى : { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك ربّ العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها } [ فصلت : 9 و 10 ] إلى قوله : { وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام } [ فصلت :10 ] والمعنى : في أربعة أيام باليومين المذكورين بدياً ، ثم قال : { فقضاهن سبع سماوات في يومين } [ فصلت :12 ] ، ولولا أن ذلك كذلك لصارت الأيام كلها ثمانية ، وقد عُلم أن ذلك ليس كذلك لقوله تعالى : { خلق السماوات والأرض في ستة أيام } [ الأعراف :54 ] ، فكذلك المثْنَى داخل في الثلاث والثلاث في الرباع ، فجميع ما أباحته الآية من العدد أربع لا زيادة عليها . وهذا العدد إنما هو للأحرار دون العبيد في قول أصحابنا والثوري والليث والشافعي ، وقال مالك : " للعبد أن يتزوج أربعاً " . والدليل على أن الآية في الأحرار دون العبيد قوله تعالى : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ } إنما هو مختصّ بالأحرار ؛ لأن العبد لا يملك عقد النكاح لاتفاق الفقهاء أنه لا يجوز له أن يتزوج إلا بإذن المولى وإن المولى أملك بالعقد عليه منه بنفسه ؛ لأن المولى لو زوّجه وهو كارهٌ لجاز عليه ولو تزوج هو بغير إذن المولى لم يجز نكاحه ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أيّما عبْدٍ تَزَوَّجَ بغير إذْنِ مَوْلاهُ فهُو عَاهِرٌ " ، وقال الله تعالى : { ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء } [ النحل : 75 ] ، فلما كان العبد لا يملك عقد النكاح لم يكن من أهل الخطاب بالآية ، فوجب أن تكون الآية في الأحرار . وأيضاً لا يختلفون أن للرّقّ تأثيراً في نقصان حقوق النكاح المقدرة كالطلاق والعدّة ، فلما كان العدد من حقوق النكاح وجب أن يكون للعبد النصف مما للحرّ . وقد رُوي عن ستّة من الصحابة أن العبد لا يتزوج إلا اثنتين ، ولا يروى عن أحد من نظرائهم خلافه فيما نعلمه . وقد روى سليمان بن يسار عن عبدالله بن عتبة قال : قال عمر بن الخطاب : " ينكح العبد اثنتين ويطلق اثنتين وتعتدُّ الأَمَةُ حَيْضَتَيْن ، فإن لم تَحِضْ فشهر ونصف " . وروى الحسن وابن سيرين عن عمر وعبدالرحمن بن عوف : " أن العبد لا يحل له أكثر من امرأتين " . وروى جعفر بن محمد عن أبيه أن عليّاً قال : " لا يجوز للعبد أن ينكح فوق اثنتين " . وروى حماد عن إبراهيم أن عمر وعبدالله قالا : " لا ينكح العبد أكثر من اثنتين " . وشعبة عن الحكم عن الفضل بن عباس قال : " يتزوج العبد اثنتين " ، وابن سيرين قال : قال عمر : أيكم يعلم ما يحلّ للعبد من النساء ؟ فقال رجل من الأنصار : أنا ، فقال عمر : كم ؟ قال : اثنتين ، فسكت ؛ ومن يشاوره عمر ويرضى بقوله فالظاهر أنه صحابيّ . وروى ليث عن الحكم قال : " اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن العبد لا يجمع من النساء فوق اثنتين " . فقد ثبت بإجماع أئمة الصحابة ما ذكرناه ، ولا نعلم أحداً من نظرائهم قال إنه يتزوج أربعاً ، فمن خالف ذلك كان محجوجاً بإجماع الصحابة . وقد رُوي نحو قولنا عن الحسن وإبراهيم وابن سيرين وعطاء والشعبي .
فإن قيل : روى يحيى بن حمزة عن أبي وهب عن أبي الدرداء قال : " يتزوج العبد أربعاً " وهو قول مجاهد والقاسم وسالم وربيعة الرأي . قيل له : إسناد حديث أبي الدرداء فيه رجل مجهول وهو أبو وهب ، ولو ثبت لم يجز الاعتراض به على قول الأئمة الذين ذكرنا أقاويلهم واستفاض ذلك عنهم ؛ وقد ذكر الحكم وهو من جلّة فقهاء التابعين إجماعَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العبد لا يتزوج أكثر من اثنتين .
وأما قوله تعالى : { فإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً } فإن معناه والله أعلم : العدل في القسم بينهن ، لما قال تعالى في آية أخرى : { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل } [ النساء :129 ] والمراد ميل القلب ، والعدلُ الذي يمكنه فعله ويخاف أن لا يفعل إظهار الميل بالفعل ، فأمره الله تعالى بالاقتصار على الواحدة إذا خاف إظهار الميل والجور ومجانبة العدل .
وقوله عطفاً على ما تقدم من إباحة العدد المذكور بعقد النكاح : { أوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ } يقتضي حقيقته وظاهره إيجابَ التخيير بين أربع حرائر وأربع إماء بعقد النكاح ، فيوجب ذلك تخييره بين تزويج الحرّة والأَمَةِ ؛ وذلك لأن قوله تعالى : { أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } كلام غير مستقلّ بنفسه بل هو مضمن بما قبله ، وفيه ضمير لا يستغنى عنه ، وضميره ما تقدم ذكره مظهراً في الخطاب ، وغير جائز لنا إضمار معنى لم يتقدم له ذكر إلا بدلالة من غيره ، فلم يَجُزْ لنا أن نجعل الضمير في قوله تعالى : { أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } الوطء ، فيكون تقديره : قد أبحت لكم وَطْءَ ملك اليمين ؛ لأنه ليس في الآية ذكر الوطء وإنما الذي في أول الآية ذكر العقد ، لأن قوله تعالى : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ } لا خلاف أن المراد به العقد ، فوجب أن يكون قوله تعالى : { أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ضميره ، أو فانكحوا ما ملكت أيمانكم ، وذلك النكاح هو العقد ، فالضمير الراجع إليه أيضاً هو العقد دون الوطء .
فإن قيل : لما صلح أن يكون النكاح اسماً للوطء ثم عطف عليه قوله : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } صار كقوله : فانكحوا ما ملكت أيمانكم ، فيكون معناه الوطء في هذا الموضع وإن كان معناه العقد في أول الخطاب . قيل له : لا يجوز هذا ؛ لأنه إذا كان ضميره ما تقدم ذكره بدياً في أول الخطاب فوجب أن يكون بعينه ومعناه المراد به ضميراً فيه ، فإذا كان النكاح المذكور هو العقد فكأنه قيل : فاعقدوا عقدة النكاح فيما طاب لكم ، فإذا أضمره في ملك اليمين كان الضمير هو العقد إذْ لم يَجْرِ للوطء ذكر من جهة المعنى ولا من طريق اللفظ ، فامتنع من أجل ذلك إضمار الوطء فيه وإن كان اسم النكاح قد يتناوله . ومن جهة أخرى أنه لما لم يكن في الآية ذكر النكاح إلا ما تقدم في أوّلها وثبت أن المراد به العقد لم يَجُزْ أن يكون ضمير ذلك اللفظ بعينه وَطْئاً لامتناع أن يكون لفظ واحد مجازاً حقيقة ؛ لأن أحد المعنيين يتناوله اللفظ مجازاً والآخر حقيقة ، ولا يجوز أن ينتظمهما لفظ واحد ، فوجب أن يكون ضميره عقد النكاح المذكور بدياً في الآية .
فإن قيل : الذي يدلّ على أن ضميره هو الوطء دون العقد إضافته لملك اليمين إلى المخاطبين ، ومعلوم استحالة تزوجه بملك يمينه ويجوز له وطء ملك يمينه ، فعلمنا أن المراد الوطء دون العقد . قيل له : لما أضاف ملك اليمين إلى الجماعة كان المرادُ نِكَاحَ ملك يمين الغير ، كقوله تعالى : { ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات } [ النساء : 25 ] ، فأضاف عقد النكاح على ملك أيمانهم إليهم ، والخطابُ متوجه إلى كل واحد منهم في إباحة تزويج ملك غيره ، كذلك قوله تعالى : { أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } محمول على هذا المعنى ؛ فليس إذاً فيما ذكرتَ دليل على وجوب إضمار لا ذكر له في الخطاب ، فوجب أن يكون ضميره ما تقدم ذكره مُظْهَراً وهو عقد النكاح .
وفيما وصفنا دليل على اقتضاء الآية التخيير بين تزويج الأَمَةِ والحرّة لمن يستطيع أن يتزوج حرة ؛ لأن التخيير لا يصح إلا فيما يمكنه فعل كل واحد منهما على حاله ، فقد حوت هذه الآية الدلالة من وجهين على جواز تزويج الأمة مع وجود الطَّوْلِ إلى الحرة ، أحدهما : عموم قوله تعالى : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } ، وذلك شامل للحرائر والإماء لوقوع اسم النساء عليهن ، والثاني : قوله تعالى : { أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وذلك يقتضي التخيير بينهن وبين الحرائر في التزويج ، وقد قدّمنا دلالة قوله تعالى : { ولأَمَةٌ مؤمنة خير من مشركة } [ البقرة : 221 ] على ذلك في سورة البقرة . ويدل عليه أيضاً قوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم } [ النساء : 24 ] ، وذلك عموم شامل للحرائر والإماء ، وغير جائز تخصيصه إلا بدلالة .
وأما قوله تعالى : { ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا } فإن ابن عباس والحسن ومجاهد وأبا رزين والشعبي وأبا مالك وإسماعيل وعكرمة وقتادة قالوا : " يعني لا تميلوا عن الحق " . ورَوَى إسماعيل بن أبي خالد عن أبي مالك الغفاري : " ذلك أدنى ألا تعولوا : أن لا تميلوا " . وأنشد عكرمة شعراً لأبي طالب :
* بمِيزَانِ صِدْقٍ لا يخسُّ شَعِيرَةً * ووزَانِ قِسْطٍ وَزْنُهُ غَيْرُ عَائِلِ *
قال : غير مائل . قال أهل اللغة : أصل العَوْلِ المجاوزة للحدّ ، فالعَوْلُ في الفريضة مجاوزة حدّ السهام المسماة ، والعَوْل المَيْلُ الذي هو خلاف العدل لخروجه عن حد العدل ، وعال يَعُول إذا جار ، وعال يَعِيلُ إذا تبختر ، وعال يعيل إذا افتقر ، حَكَى لنا ذلك أبو عمر غلام ثعلب . وقال الشافعي في قوله تعالى : { ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا } معناه : أن لا يكثر من تعولون ؛ قال : هذا يدل على أن على الرجل نفقة امرأته . وقد خطّأه الناس في ذلك من ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه لا خلاف بين السلف وكل من رُوي عنه تفسير هذه الآية أنه معناه : أن لا تميلوا وأن لا تجوروا ، وأن هذا الميل هو خلاف العدل الذي أمر الله به من القسم بين النساء . والثاني : خطَّأوه في اللغة لأن أهل اللغة لا يختلفون في أنه لا يقال في كثرة العيال " عال يعول " ذكره المبرد وغيره من أئمة اللغة ، وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى : أن لا تعولوا ، قال : أن لا تجوروا ، يقال عِلْتَ عليَّ أي جرت . والثالث : أن في الآية ذكر الواحدة أو ملك اليمين ، والإماء في العيال بمنزلة النساء ، ولا خلاف أن له أن يجمع من العدد من شاء بملك اليمين ، فعلمنا أنه لم يرد كثرة العيال وأن المراد نفي الجور والميل بتزوج امرأة واحدة إذْ ليس معها من يلزمه القسم بينه وبينها إذ لا قسم للإماء بملك اليمين ؛ والله أعلم .