قوله تعالى : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ } ، نهى الله بهذه الآية عن عَيْب من لا يستحق أن يُعاب على وجه الاحتقار له ؛ لأن ذلك هو معنى السخرية ، وأخبر أنه وإن كان أرفع حالاً منه في الدنيا فعسى أن يكون المسخور منه خيراً عند الله .
وقوله تعالى : { وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } ، رُوي عن ابن عباس وقتادة : " لا يطعن بعضكم على بعض " . قال أبو بكر : هو كقوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] لأن المؤمنين كنفس واحدة فكأنه بقتله أخاه قاتل نفسه ، وكقوله : { فسلموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] يعني يسلّم بعضكم على بعض . واللَّمْزُ العيب ، يقال : لمزه ، إذا عابه وطعن عليه ؛ قال الله تعالى : { ومنهم من يلمزك في الصدقات } [ التوبة : 58 ] . قال زياد الأعجم :
* إذا لَقِيتُكَ تُبْدِي لي مُكَاشَرَةً * وإِنْ تَغَيَّبْتُ كُنْتَ الهَامِزَ اللُّمَزَهْ *
* ما كُنْتُ أَخْشَى وإِنْ كَانَ الزَّمَانُ بِهِ * حَيْفٌ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَغْتَابَنِي عَنَزَهْ *
وإنما نهى بذلك عن عيب من لا يستحق وليس بمَعِيبٍ ، فإن من كان معيباً فاجراً فعيبه بما فيه جائز . ورُوي أنه لما مات الحجاج قال الحسن : " اللهم أنت أمَتَّهُ فاقطع عنا سنّته فإنه أتانا أُخَيْفِشَ أُعَيْمِشَ يمدّ بيد قصيرةِ البَنَانِ والله ما عَرِقَ فيها عِنَانٌ في سبيل الله ، يُرَجِّلُ جُمَّتَهُ ويَخْطُرُ في مشيته ويصعد المنبر فيهذر حتى تفوته الصلاة ، لا من الله يتقي ولا من الناس يستحي ، فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون لا يقول له قائل الصلاة أيها الرجل " ثم قال الحسن : " هيهات والله حَالَ دون ذلك السيفُ والسوطُ " .
وقوله تعالى : { وَلا تَنَابَزُوا بالأَلْقَابِ } ، روى حماد بن سلمة عن يونس عن الحسن : أن أبا ذرّ كان عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان بينه وبين رجل منازعة ، فقال له أبو ذر : يا ابن اليهودية ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أَمَا تَرَى هاهُنَا ما شَيْءٍ أَحْمَرَ وَلا أَسْوَدَ وما أَنتَ أَفْضَلُ مِنْهُ إِلاّ بالتَّقْوَى ! " قال : ونزلت هذه الآية : { وَلا تَنَابَزُوا بالأَلْقَابِ } . وقال قتادة في قوله تعالى : { وَلاَ تَنَابَزُوا بالأَلْقَابِ } قال : " لا تقل لأخيك المسلم يا فاسق يا منافق " . حدثنا عبدالله بن محمد قال : حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن الحسن قال : " كان اليهودي والنصراني يسلم فيقال له يا يهودي يا نصراني ، فنُهُوا عن ذلك " .
حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا وهيب عن داود عن عامر قال : حدثني أبو جبيرة بن الضحاك قال : فينا نزلت هذه الآية في بني سلمة : { وَلا تَنَابَزُوا بالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ } قال : " قدم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس منّا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يا فلان ، فيقولون : مَهْ يا رسول الله إنه يغضب من هذا الاسم ! فأنزلت هذه الآية : { وَلا تَنَابَزُوا بالأَلْقَابِ } " .
وهذا يدل على أن اللقب المكروه هو ما يكرهه صاحبه ويفيد ذمّاً للموصوف به ؛ لأنه بمنزلة السباب والشتيمة . فأما الأسماء والأوصاف الجارية غير هذا المجرى فغير مكروهة لم يتناولها النهي ؛ لأنها بمنزلة أسماء الأشخاص والأسماء المشتقة من أفعال .
وقد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن يزيد بن خُثَيْم عن محمد بن كعب قال : حدثني محمد بن خثيم المحاربي عن عمار بن ياسر قال : كنت أنا وعليّ بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة من بطن يَنْبُعَ ، فلما نزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بها شهراً وصالح فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة ووادعهم ، فقال لي علي رضي الله عنه : هل لك أن تأتي هؤلاء من بني مدلج يعملون في عِيرٍ لهم ننظر كيف يعملون ! فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة ثم غَشِيَنا النوم ، فعمدنا إلى صور من النخل في دقعاء من الأرض فنمنا ، فما أنبهنا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدمه ، فجلسنا وقد تَتَرَّبْنا من تلك الدقعاء ، فيومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي : " يا أبا تُرابٍ " لما عليه من التراب ، فأخبرناه بما كان من أمرنا فقال : " أَلا أُخْبِرُكُمْ بأَشْقَى رَجُلَيْنِ ؟ " قلنا : من هما يا رسول الله ؟ قال : " أُحَيْمِرُ ثَمُودَ الّذي عَقَرَ النَّاقَةَ وَالَّذي يَضْرِبُكَ يا عليّ عَلَى هذا " ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسه " حتّى تُبَلَّ مِنْهُ هَذِهِ " ووضع يده على لحيته .
وقال سهل بن سعد : " ما كان اسم أَحَبُّ إلى عليّ رضي الله عنه أن يدعى به من أبي تراب " . فمثل هذا لا يُكره ، إذ ليس فيه ذمٌّ ولا يكرهه صاحبه .
وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا إبراهيم بن مهدي قال : حدثنا شريك عن عاصم عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا ذا الأُذُنَيْنِ " . وقد غير النبي صلى الله عليه وسلم أسماء قوم ، فسمَّى العاص عبدالله وسمَّى شهاباً هشاماً وسمى حرباً سِلْماً ، وفي جميع ذلك دليل على أن المنهيّ من الألقاب ما ذكرنا دون غيره . وقد رُوي أن رجلاً أراد أن يتزوج امرأة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انْظُرْ إِلَيْهَا فإِنّ في أَعْيُنِ الأَنْصَارِ شَيْئاً " يعني الصِّغَرَ .
قال أبو بكر : فلم يكن ذلك غيبة لأنه لم يُرِدْ به ذمَّ المذكور ولا غيبته