باب حكم خبر الفاسق
قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ } الآية .
حدثنا عبدالله بن محمد قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال : أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } قال : بعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ، فأتاهم الوليد فخرجوا يتلقَّونه فَفَرِقَ ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ارتدّوا ! فبعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد ، فلما دنا منهم بعث عيوناً ليلاً فإذا هم يؤذّنون ويصلّون ، فأتاهم خالد فلم يَرَ منهم إلا طاعة وخيراً ، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره .
قال : وقال معمر : فتلا قتادة : { لَوْ يُطِيعُكُمْ في كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعنِتُّمْ } قال : فأنتم أسخف رأياً وأطْيَشُ أحلاماً ، فاتّهم رجل رأيه وانتصح كتاب الله . ورُوي عن الحسن قال : " والله لئن كانت نزلت في رجل يعني قوله : { إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } إنها لمرسلة إلى يوم القيامة ما نسخها شيء " .
قال أبو بكر : مقتضى الآية إيجابُ التثبّت في خبر الفاسق والنهي عن الإقدام على قبوله والعمل به إلاّ بعد التبيُّن والعلم بصحة مخبره ، وذلك لأن قراءة هذه الآية على وجهين : " فتثبَّتوا " من التثبت ، و { فَتَبَيَّنُوا } ، كلتاهما يقتضي النهي عن قبول خبره إلا بعد العلم بصحته ؛ لأن قوله : " فتثبتوا " فيه أمر بالتثبت لئلا يصيب قوماً بجهالة ، فاقتضى ذلك النهي عن الإقدام إلا بعد العلم لئلا يصيب قوماً بجهالة ، وأما قوله : { فَتَبَيَّنُوا } فإن التبيُّنَ هو العلم ، فاقتضى أن لا يقدم بخبره إلا بعد العلم ، فاقتضى ذلك النهي عن قبول شهادة الفاسق مطلقاً إذ كان كل شهادة خبراً ، وكذلك سائر أخباره ؛ فلذلك قلنا شهادة الفاسق غير مقبولة في شيء من الحقوق ؛ وكذلك إخباره في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وكل ما كان من أمر الدين يتعلق به من إثبات شَرْع أو حكم أو إثبات حقّ على إنسان .
واتفق أهل العلم على جواز قبول خبر الفاسق في أشياء ، فمنها : أمور المعاملات يُقبل فيها خبر الفاسق ، وذلك نحو الهدية إذا قال : " إن فلاناً أهدى إليك هذا " يجوز له قبوله وقَبْضُه ، ونحو قوله : " وكلني فلان ببيع عبده هذا " فيجوز شراؤه منه ، ونحو الإذن في الدخول إذا قال له قائل : " ادخل " لا تُعتبر فيه العدالة ؛ وكذلك جميع أخبار المعاملات . ويقبل في جميع ذلك خبر الصبيّ والعبد والذميّ ، وقَبِلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم خبر بَرِيرَةَ فيما أَهْدَتْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان يتصدق عليها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هي لها صَدَقَةٌ ولنا هَدِيَّةٌ " ، فقبل قولها في أنه تُصُدِّقَ به عليها وأن ملك المتصدق قد زال إليها . ويقبل قول الفاسق وشهادته من وجه آخر ، وهو من كان فِسْقُه من جهة الدين باعتقاد مذهب وهم أهل الأهواء فُسَّاقٌ وشهادتهم مقبولة ، وعلى ذلك جرى أمْرُ السلف في قبول أخبار أهل الأهواء في رواية الأحاديث وشهادتهم ، ولم يكن فِسْقُهُمْ من جهة التديُّنِ مانعاً من قبول شهادتهم .
وتقبل أيضاً شهادة أهل الذمّة بعضهم على بعض ، وقد بيناه فيما سلف من هذا الكتاب فهذه الوجوه الثلاثة يُقبل فيها خبر الفاسق ، وهو مستثنًى من جملة قوله تعالى : { إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } لدلائل قد قامت عليه ، فثبت أن مراد الآية في الشهادات وإلزام الحقوق أو إثبات أحكام الدين والفسق التي ليست من جهة الدين والاعتقاد .
وفي هذه الآية دلالة على أن خبر الواحد لا يوجب العلم ، إذ لو كان يوجب العلم بحال لما احْتِيجَ فيه إلى التثبت ، ومن الناس من يحتجّ به في جواز قبول خبر الواحد العدل ويجعل تخصيصه الفاسق بالتثبت في خبره دليلاً على أن التثبت في خبر العدل غير جائز ؛ وهذا غلط لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على أن ما عداه فحكمه بخلافه .