باب قطع السارق
قال الله تعالى { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } روى سفيان عن جابر عن عامر قال قراءة عبدالله فاقطعوا أيديهما وروى ابن عوف عن إبراهيم في قراءتنا فاقطعوا أيمانهما .
قال أبو بكر لم تختلف الأمة في أن اليد المقطوعة بأول سرقة هي اليمين فعلمنا أن مراد الله تعالى بقوله { أيديهما } أيمانهما فظاهر اللفظ في جمعه الأيدي من الاثنين يدل على أن المراد اليد الواحدة من كل واحد منهما كقوله تعالى { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } لما كان لكل واحد منهما قلب واحد إضافة إليهما بلفظ الجمع كذلك لما أضاف الأيدي إليهما بلفظ الجمع دل على أن المراد إحدى اليدين من كل واحد منهما وهي اليمنى .
وقد اختلف في قطع اليسرى في المرة الثالثة وفي قطع الرجل اليمنى في الرابعة وسنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى .
ولم تختلف الأمّة في خصوص هذه الآية ؛ لأن اسم السارق يقع على سارق الصلاة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنّ أَسْوَأَ النّاسِ سَرِقَةً هُوَ الّذي يَسْرِقُ صَلاَتَهُ " قيل : يا رسول الله وكيف يسرق صلاته ؟ قال : " لا يُتِمُّ رُكُوعَها وسُجُودَها " . ويقع على سارق اللسان ؛ رَوَى ليث بن سعد قال : حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير مرثد بن عبدالله عن أبي رُهْمٍ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أُسْرِقَ السَّارِقُ الّذي يَسْرِقُ لِسَانَ الأَمِيرِ " فثبت بذلك أنه لم يُرِدْ كلَّ سارق .
والسرقة اسم لغوي مفهوم المعنى عند أهل اللسان بنفس وروده غير محتاج إلى بيان ، وكذلك حكمه في الشرع ، وإنما علّق بهذا الاسم حكم القطع كالبيع والنكاح والإجارة وسائر الأمور المعقولة معانيها من اللغة قد عُلّقت بها أحكام يجب اعتبار عمومها بوجود الاسم إلاّ ما قام دليل خصوصه ، فلو خُلّينا وظاهر قوله : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } لوجب إجراءُ الحكم على الاسم إلاّ ما خصه الدليل ؛ إلاّ أنه قد ثبت عندنا أن الحكم متعلق بمعنى غير الاسم يجب اعتباره في إيجابه ، وهو الحِرْزُ والمقدار ، فهو مجمل من جهة المقدار يحتاج إلى بيان من غيره في إثباته ، فلا يصح من أجل ذلك اعتبار عمومه في إيجاب القطع في كل مقدار . والدليل على إجماله وامتناع اعتبار عمومه ما حدثنا عبدالباقي قال : حدثنا معاذ بن المثنى قال : حدثنا عبدالرحمن بن المبارك قال : حدثنا وهيب عن أبي واقد قال : حدثني عامر بن سعد عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلاّ في ثَمَنِ المِجَنِّ " . وروى ابن لهيعة عن أبي النصر عن عمرة عن عائشة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تُقْطَعُ يَدُ السّارِقِ إلاّ فيما بَلَغَ ثَمَنَ المِجَنِّ فما فَوْقَهُ " . ورَوَى سفيان عن منصور عن مجاهد عن عطاء عن أيمن الحبشي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أدْنَى ما يُقْطَعُ فيه السَّارِقُ ثَمَنُ المِجَنِّ " . فثبت بهذه الأخبار أن حكم الآية في إيجاب القطع موقوفٌ على ثمن المجنّ ، فصار ذلك كوروده مع الآية مضموماً إليها ، وكان تقديرها : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما إذا بلغت السرقة ثمن المجنّ ؛ وهذا لفظ مفتقر إلى البيان غير مُكْتَفٍ بنفسه في إثبات الحكم ، وما كان هذا سبيله لم يصح الاحتجاج بعمومه . ووجه آخر يدلّ على إجمالها في هذا الوجه ، وهو ما رُوي عن السلف في تقويم المِجَنِّ ؛ فرُوي عن عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمرو وأيمن الحبشي وأبي جعفر وعطاء وإبراهيم في آخرين : " أن قيمته كانت عشرة دراهم " . وقال ابن عمر : " قيمته ثلاثة دراهم " . وقال أنس وعروة والزهري وسليمان بن يسار : " قيمته خمسة دراهم " . وقالت عائشة : " ثمن المجنّ ربع دينار " . ومعلوم أنه لم يكن ذلك تقويماً منهم لسائر المجانّ لأنها تختلف كاختلاف الثياب وسائر العروض ، فلا محالة أن ذلك كان تقويماً للمِجَنَّ الذي قَطَعَ فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم . ومعلوم أيضاً أنهم لم يحتاجوا إلى تقويمه من حيث قَطَعَ فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، إذ ليس في قَطْعِ النبي صلى الله عليه وسلم في شيء بعينه دلالة على نفي القَطْعِ عما دونه ، كما أن قَطْعَهُ السّارِقَ في المجنّ غير دالٍّ على أن حكم القطع مقصور عليه دون غيره ، إذ كان ما فعله بعض ما تناوله لفظ العموم على حسب حدوث الحادثة ؛ فإذاً لا محالة قد كان من النبي صلى الله عليه وسلم توقيفٌ لهم حين قَطَعَ السارقَ على نَفْي القطع فيما دونه ، فدلّ ذلك على إجمال حكم الآية في المقدار كدلالة الأخبار التي قدّمناها لفظاً من نَفْيِ القطع عما دون قيمة المجنّ ، فلم يَجُزْ من أجل ذلك اعتبار عموم الآية في إثبات المقدار ووجب طلب معرفة قيمة المجنّ الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم . وليس إجمالُها في المقدار بموجب إجمالها في سائر الوجوه من الحِرْزِ وجنس المقطوع فيه وغير ذلك ، بل جائز أن يكون عموماً في هذه الوجوه مجملاً في حكم المقدار فحسب ، كما أن قوله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة } [ التوبة : 103 ] عموم في جهة الأموال الموجَبِ فيها الصدقة مُجْملٌ في المقدار الواجب منها . وكان شيخنا أبو الحسن يذهب إلى أن الآية مجملة من حيث عُلّق فيها الحكم بمعانٍ لا يقتضيها اللفظ من طريق اللغة ، وهو الحرز والمقدار ؛ والمعاني المعتبرة في إيجاب القَطْعِ متى عُدِمَ منها شيء لم يجب القطع مع وجود الاسم ؛ لأن اسم السرقة موضوع في اللغة لأخذ الشيء على وجه الاستخفاء ، ومنه قيل " سارق اللسان " و " سارق الصلاة " تشبيهاً بأخذ الشيء على وجه الاستخفاء ، والأصل فيه ما ذكرنا . وهذه المعاني التي ذكرنا اعتبارها في إيجاب القطع لم يكن الاسم موضوعاً لها في اللغة ، وإنما ثبت ذلك من جهة الشرع ، فصارت السرقة في الشرع اسماً شرعيّاً لا يصحّ الاحتجاج بعمومه إلا فيما قامت دلالته .
واختُلفَ في مقدار ما يُقطع فيه السارق فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزُفَر ومحمد والثوري : " لا قطع إلاّ في عشرة دراهم فصاعداً أو قيمتها من غيرها " . ورُوي عن أبي يوسف ومحمد : " أنه لا قطع حتى تكون قيمة السرقة عشرة دراهم مضروبة " . ورَوَى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة : " أنه إذا سرق ما يساوي عشرة دراهم مما يجوز بين الناس قُطع " . وقال مالك والأوزاعي والليث والشافعي : " لا قَطْعَ إلا في ربع دينار فصاعداً " ، قال الشافعي : " فلو غَلَتِ الدراهم حتى يكون الدرهمان بدينار قُطِعَ في ربع دينار ، وإن كان ذلك نصف درهم ، وإن رخصت الدنانير حتى يكون الدينار بمائة درهم قُطع في ربع دينار ، وذلك خمسة وعشرون درهماً " . ورُوي عن الحسن البصري أنه قال : " يقطع في درهم واحد " ، وهو قول شاذٌّ قد اتفق الفقهاء على خلافه . وقال أنس بن مالك وعروة والزهري وسليمان بن يسار : " لا يُقطع إلا في خمسة دراهم " ، ورُوي نحوه عن عمر وعليّ أنهما قالا : " لا يُقطع إلا في خمسة " . وقال ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأيمن الحبشي وأَبو جعفر وعطاء وإبراهيم : " لا قَطْعَ إلا في عشرة دراهم " ؛ قال ابن عمر : " يُقْطع في ثلاثة دراهم " . ورُوي عن عائشة القَطْعُ في ربع دينار . ورُوي عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالا : " لا تُقطَعُ اليَدُ إلا في أربعة دراهم " .
والأصل في ذلك أنه لما ثبت باتّفاق الفقهاء من السلف ومن بَعْدَهم أن القطع لا يجب إلا في مقدار متى قصر عنه لم يجب ، وكان طريقُ إثبات هذا الضَّرْبِ من المقادير التوقيفَ أو الاتفاقَ ، ولم يثبت التوقيفُ فيما دون العشرة وثبت الاتفاقُ في العشرة ، أثبتناها ولم نثبتْ ما دونها لعدم التوقيف والاتفاق فيه ؛ ولا يصح الاحتجاج بعموم قوله : { وَالسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما } لما بَيّنّا أنه مجملٌ بما اقترن إليه من توقيف الرسول عليه السلام على اعتبار ثمن المجنّ ، ومن اتفاق السلف على ذلك أيضاً ، فسقط الاحتجاج بعمومه ووجب الوقوف عند الاتفاق في القطع في العشرة ونَفْيُه عما دونها لِمَا وَصَفْنا . وقد رُويت أخبارٌ توجب اعتبارَ العشرة في إيجاب القطع ، منها ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال : حدثني أبي قال : حدثنا نصر بن ثابت عن الحجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا قَطْعَ فيما دُونَ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ " . وقد سمعنا أيضاً في سنن ابن قانع حديثاً رواه بإسنادٍ له عن زُحَرِ بن ربيعة عن عبدالله بن مسعود ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تُقْطَعُ اليَدُ إلاّ في دِينَارٍ أو عَشْرَةِ دَرَاهِمَ " . وقال عمرو بن شعيب : قلت لسعيد بن المسيب : إن عروة الزهري وسليمان بن يسار يقولون لا تُقطع اليد إلا في خمسة دراهم ! فقال : أما هذا فقد مضت السنَّة فيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم ؛ قال ابن عباس وأيمن الحبشي وعبدالله بن عمر ، وقالوا : " كان ثمن المجنّ عشرة دراهم " .
فإن احتجّوا بما رُوي عن ابن عمر وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قَطَعَ في مِجَنٍّ قيمته ثلاثة دراهم ، وبما رُوي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تُقْطَعُ يَدُ السّارِقِ في رُبْعِ دِينَارٍ " . قيل له : أما حديث ابن عمر وأنس فلا دلالة فيه على موضع الخلاف ، لأنهما قَوَّماه ثلاثة دراهم وقد قَوَّمه غيرهما عشرة ، فكان تقديم الزائد أوْلى . وأما حديث عائشة فقد اختُلف في رَفْعه ، وقد قيل إن الصحيح منه أنه موقوف عليها غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الأثبات من الرواة رووه موقوفاً ، ورَوَى يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إلاّ في ثَمَنِ المِجَنِّ ثُلُثِ دِينَارٍ أوْ نِصْفِ دِينَارٍ فَصَاعِداً " ، وَرَوَى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة : " أن يد السارق لم تكن تُقطع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أدنى من ثمن المجنّ ، وكان المجن يومئذ له ثمنٌ ولم تكن تُقطع في الشيء التافه " ؛ فهذا يدل على أن الذي كان عند عائشة من ذلك القطع في ثمن المجنّ وأنه لم يكن عندها عن النبي صلى الله عليه وسلم غير ذلك ، إذ لو كان عندها عن رسول الله في ذلك شيء معلوم المقدار من الذهب أو الفضة لم تكن بها حاجة إلى ذكر ثمن المجنّ ، إذْ كان ذلك مُدْرَكاً من جهة الاجتهاد ولا حَظَّ للاجتهاد مع النصّ . وهذا يدل أيضاً على أن ما رُوي عنها مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنْ ثبت فإنما هو تقدير منها لثمن المجنّ اجتهاداً ؛ وقد روى حماد بن زيد عن أيوب عن عبدالرحمن بن القاسم عن عمرة عن عائشة قالت : " تُقْطَعُ يَدُ السارق في ربع دينار فصاعداً " ، قال أيوب : وحدث به يحيى عن عمرة عن عائشة ورفعه ، فقال له عبدالرحمن بن القاسم : إنها كانت لا ترفعه ، فترك يحيى رَفْعَهُ . فهذا يدلّ على أن من رواه مرفوعاً فإنما سمعه من يحيى قبل تَرْكِهِ الرفْعَ .
مطلب : خبر الحظر أوْلى من خبر الإباحة
ثم لو ثبت هذا الحديث لعارضه ما قدّمّناه من الرواية عن النبي صلى الله عليه و سلم من وجوه مختلفة في نفي القطع عن سارق ما دون العشرة ، وكان يكون حينئذ خبرنا أوْلى لما فيه من حظر القطع عما دونها وخبرهم مبيحٌ له ، وخبر الحظر أوْلى من خبر الإباحة . وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ يَسْرُقُ الحَبْلَ فَيُقْطَعُ فيه ، ويَسْرُقُ البَيْضَةَ فَيُقْطَعُ فيها " ، فربما ظنّ بعضُ من لا رويّة له أنه يدل على أن ما دون العشرة يُقطع فيه لذِكْرِ البيضة والحبل وهما في العادة أقلّ قيمة من عشرة دراهم ، وليس ذلك على ما يظنه ؛ لأن المرادَ بيضةُ الحديد ، وقد رُوي عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في بيضة من حديد قيمتها أحد وعشرون درهماً ؛ ولأنه لا خلاف بين الفقهاء أن سارق بيضة الدجاج لا قَطْعَ عليه ، وأما الحبل فقد يكون مما يساوي العشرة والعشرين وأكثر من ذلك .
فصل
مطلب : في معنى قوله عليه السلام : " لا قطع على خائن "
وأما اعتبارُ الحِرْزِ فالأصل فيه ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لا قَطْعَ على خَائِنٍ " رواه ابن عباس وجابر . وهو يشتمل على نفي القطع في جميع ما ائْتُمن الإنسان فيه ، فمنها أن الرجل إذا ائْتَمَنَ غيرَهُ على دخول بيته ولم يُحْرِزْ منه ماله لم يجب عليه القطع إذا خانه لعموم لفظ الخبر ، ويصير حينئذ بمنزلة المودع والمضارب ؛ وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " لا قَطْعَ على خائن " وجوبَ القطع على جاحد الوديعة والمضاربة وسائر الأمانات ؛ ويدل أيضاً على نفي القطع عن المستعير إذا جحد العارية .
مطلب : في تأويل ما ورد عنه عليه السلام من أنه قطع يد المرأة التي كانت تستعير المتاع وتجحده
وما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قطع المرأة التي كانت تستعير المتاع وتجحده فلا دلالة فيه على وجوب القطع على المستعير إذا خان ، إذْ ليس فيه أنه قَطَعَها لأجل جحودها للعارية ، وإنما ذكر جحود العارية تعريفاً لها إذ كان ذلك معتاداً منها حتى عرفت به ، فذكر ذلك على وجه التعريف . وهذا مثل ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للرجلين أحدهما يحجم الآخر في رمضان : " أَفْطَرَ الحَاجِمُ والمَحْجُومُ " فذكر الحِجَامة تعريفاً لهما والإفطارُ واقع بغيرها . وقد رُوي في أخبار صحيحة أن قريشاً أهَمَّهُمْ شأنُ المرأة المخزومية التي سرقت ، وهي هذه المرأة التي ذكر في الخبر أنها كانت تستعير المتاع وتجحده ؛ فبيَّن في هذه الأخبار أنه قطعها لسرقتها .
ويدل على اعتبار الحرز أيضاً حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه سئل عن حَرِيسَةِ الجبل فقال : " فيها غَرَامَةُ مِثْلِها وجَلْدَات نَكَال ، فإذا أواها المراح وبلغ ثمن المجنّ ففيه القطع " ، وقال : " ليس في الثمر المعلق قَطْعٌ حتى يأويه الجَرِينُ ، فإذا أواه الجرين ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجنّ " . ودلالة هذا الخبر على وجوب اعتبار الحرز أظْهَرُ من دلالة الخبر الأول ، وإن كان كل واحد منهما مكتفياً بنفسه في وجوب اعتباره . ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في أن الحِرْزَ شرطٌ في القطع ، وأصله من السنّة ما وصفنا .
والحِرْزُ عِند أصحابنا ما بُني للسكنى وحفظ الأموال من الأمتعة وما في معناها ، وكذلك الفساطيط والمضارب والخِيَمُ التي يسكن الناس فيها ويحفظون أمتعتهم بها ، كل ذلك حِرْزٌ وإن لم يكن فيه حافظ ولا عنده ، وسواء سرق من ذلك وهو مفتوح الباب أم لا باب له ، إلا أنه محجر بالبناء ، وما كان في غير بناء و لا خيمة ولا فسطاط ولا مضرب فإنه لا يكون حرزاً إلا أن يكون عنده من يحفظه وهو قريب منه بحيث يكون حافظاً له ، وسواء كان الحافظ نائماً في ذلك الموضع أو مستيقظاً . والأصلُ في كون الحافظ حرزاً له وإن كان في مسجد أو صحراء حديثُ صفوان بن أمية حين كان نائماً في المسجد ورداؤه تحت رأسه ، فسرقه سارق ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطعه ؛ ولا خلاف أن المسجد ليس بحرز ، فثبت أنه كان مُحْرَزاً لكون صفوان عنده ؛ ولذلك قال أصحابنا : " لا فرق بين أن يكون الحافظُ له نائماً أو مستيقظاً " لأن صفوان كان نائماً ، وليس المسجد عندهم في ذلك كالحمّام ، فمن سرق من الحمام لم يُقطع ، وكذلك الخانُ والحوانيت المأذون في دخولها وإن كان هناك حافظ ، مِنْ قِبَلِ أن الإذْنَ موجود في الدخول من جهة مالك الحمّام والدار فخرج الشيء من أن يكون مُحْرَزاً من المأذون له في الدخول ، ألا ترى أن من أذن لرجل في دخول داره أن الدار لم تخرج من أن تكون حرزاً في نفسها ولا يقطع مع ذلك المأذون له في الدخول ؟ لأنه حين أذن له في الدخول فقه ائتمنه ولم يحرز ماله عنه ، كذلك كل موضع يُستباح دخوله بإذن المالك فهو غيرُ حِرْزٍ من المأذون له في الدخول . وأما المسجد فلم يتعلق إباحة دخوله بإذن آدمي فصار كالمفازة والصحراء ، فإذا سَرَقَ منه وهناك حافظ له قُطِعَ . وحُكي عن مالك أن السارق من الحمّام يُقطع إن كان هناك حافظ له . قال أبو بكر : لو وجب قَطْعُه لوجب قَطْعُ السارق من الحانوت المأذون له في الدخول إليه ، لأن صاحب الحانوت حافظ له ؛ ومعلوم أن إذنه له في دخوله قد أخرجه من أن يكون ماله فيه محرزاً منه ، فكان بمنزلة المؤتمن ؛ ولا فرق بين الحمام والحانوت المأذون في دخوله .
فإن قال قائل : يُقطع السارق من الحانوت والخان المأذون له . قيل له : هو كالخائن للودائع والعواري والمضاربات وغيرها ، إذْ لا فرق بين ما ذكرنا وبينها ، وقد ائتمنه صاحبه بأن لم يحرزه كما ائتمنه في إيداعه ؛ وقال عثمان البتي : " إذا سرق من الحمام قطع " .
واختُلف في قطع النبّاش ، فقال أبو حنيفة والثوري ومحمد والأوزاعي : " لا قطع على النّباش " ، وهو قول ابن عباس ومكحول . وقال الزهري : " اجتمع رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن كان مروان أميراً على المدينة أن النّبّاش لا يُقطع وَيُعَزَّرُ ، وكان الصحابة متوافرين يومئذ " . وقال أبو يوسف وابن أبي ليلى وأبو الزناد وربيعة : " يُقْطَعُ " ، ورُوي مثله عن ابن الزبير وعمر بن عبدالعزيز والشعبي والزهري ومسروق والحسن والنخعي وعطاء ، وهو قول الشافعي . والدليل على صحة القول الأوّل أن القبر ليس بحِرْزٍ ، والدليل عليه اتفاق الجميع على أنه لو كان هناك دراهم مدفونة فسرقها لم يُقطع لعدم الحرز ، والكفن كذلك .
فإن قيل : إن الأحْرَازَ مختلفةٌ ، فمنها شريجة البقال حرز لما في الحانوت ، والإصطبل حرز للدواب ، والدور للأموال ، ويكون الرجل حرزاً لما هو حافظٌ له ، وكل شيء من ذلك حرز لما يحفظ به ذلك الشيء في العادة ولا يكون حرزاً لغيره ، فلو سرق دراهم من إصطبل لم يُقطع ، ولو سرق منه دابة قُطع ؛ كذلك القبر هو حرز للكفن وإن لم يكن حِرْزاً للدراهم . قيل له : هذا كلام فاسد من وجهين ، أحدهما : أن الأحراز على اختلافها في أنفسها ليست مختلفة في كونها حرزاً لجميع ما يُجعل فيها ، لأن الإصطبل لما كان حرزاً للدواب فهو حرزٌ للدراهم والثياب ويقطع فيما يسرقه منه ، وكذلك حانوت البقال هو حرز لجميع ما فيه من ثياب ودراهم وغيرها ؛ فقول القائل " الإصطبل حرز للدواب ولا يُقطع من سرق منه دراهم " غلطٌ . والوجه الآخر : أن قضيتك هذه لو كانت صحيحة لكانت مانعةً من إيجاب قَطْعِ النّباش ؛ لأن القبر لم يُحْفَرْ ليكون حرزاً للكفن فيُحفظ به ، وإنما يحفر لدفن الميت وسَتْرِهِ عن عيون الناس ؛ وأما الكَفَنُ فإنما هو للبلَى والهلاك . ودليل آخر ، وهو أن الكفنَ لا مالك له ، والدليل عليه أنه من جميع المال ، فدلَّ على أنه ليس في ملك أحد ولا موقوف على أحد ؛ فلما صح أنه من جميع المال وجب أن لا يملكه الوارث كما لا يملكون ما صرف في الدين الذي هو من جميع المال .
ويدل عليه أيضاً أن الكفن يُبْدأ به على الديون ، فإذا لم يملك الوارث ما يقضي به الديون فهو أن لا يملك الكفن أوْلى ، وإذا لم يملكه الوارث واستحال أن يكون الميت مالكاً وجب أن لا يقطع سارقه كما لا يقطع سارق بيت المال وأخذ الأشياء المباحة التي لا مالك لها .
فإن قال قائل : جواز خصومة الوارث في المطالبة بالكفن دليل على أنه ملكه . قيل له : الإمام يطالب بما يسرق من بيت المال ولا يملكه . ووجه آخر ، وهو أن الكفن يجعل هناك للبِلَى والتلف لا للقِنْيَةِ والتبقية ، فصار بمنزلة الخبز واللحم والماء الذي هو للإتلاف لا للتبقية .
فإن قال قائل : القبر حِرْزٌ للكفن ، لما رَوَى عبادة بن الصامت عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كَيْفَ أَنْتَ إِذا أَصَابَ النّاسَ مَوْتٌ يَكُونُ البَيْتُ فِيهِ بالوَصِيفِ ؟ " يعني القبر . قلت : الله ورسوله أعلم ! قال : " علَيْكَ بالصَّبْرِ ! " فسمى القبر بيتاً . وقال حماد بن أبي سليمان : " يقطع النباش لأنه دخل على الميت بيته " . وروى مالك عن أبي الرحال عن أمه عمرة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المختفي والمختفية " . وروت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مَنِ اخْتَفَى مَيْتاً فكأنما قَتَلَهُ " وقال أهل اللغة المختفي النباشُ . قيل له : إنما سماه بيتاً على وجه المجاز ، لأن البيت موضوع في لغة العرب لما كان مبنيّاً ظاهراً على وجه الأرض ، وإنما سُمّي القبر بيتاً تشبيهاً بالبيت المبني ، ومع ذلك فإن قطع السارق ليس معلقاً بكونه سارقاً من بيت إلا أن يكون ذلك البيت مبنيّاً ليُحْرَزَ به ما يُجعل فيه ، وقد بينا أن القبر ليس بحرز ؛ ألا ترى أن المسجد يسمَّى بيتاً ، قال الله تعالى : { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه } [ النور : 36 ] ولو سرق من المسجد لم يقطع إذا لم يكن له حافظ ؟ وأيضاً فلا خلاف أنه لو كان في القبر دراهم مدفونة فسرقها لم يُقطع وإن كان بيتاً ، فعلمنا أن قطع السرقة غير متعلق بكونه بيتاً . وأما ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لعن الله المختفي " وما رُوي أنه قال : " من اختفى ميتاً فكأنما قتله " فإن هذا إنما هو لعنٌ له ، واستحقاق اللعن ليس بدليل على وجوب القطع ؛ لأن الغاصب والكاذب والظالم كل هؤلاء يستحقون اللعن ولا يجب قطعهم ؛ وقوله : " من اختفى ميتاً فكأنما قتله " فإنه لم يوجب به قطعاً وإنما جعله كالقاتل ؛ وإن كان معناه محمولاً على حقيقة لفظه فواجب أن نقتله ، وهذا لا خلاف فيه ، ولا تعلق لذلك بالقطع .
باب من أين يقطع السارق
قال الله تعالى : { وَالسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } واسم اليد يقع على هذا العضو إلى المَنْكبِ ، والدليل عليه أن عماراً تيمم إلى المنكب بقوله تعالى : { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } [ المائدة : 6 ] ولم يخطىء من طريق اللغة ؛ وإنما لم يثبت ذلك لورود السنّة بخلافه . ويقع على اليد إلى مفصل الكفّ أيضاً ، قال الله تعالى : { إذا أخرج يده لم يكد يراها } [ النور : 40 ] وقد عُقل به ما دون المرفق . وقال تعالى لموسى : { وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء } [ النمل : 12 ] ويمتنع أن يُدخل يده { إلى المرافق } [ المائدة : 6 ] فلو لم يقع الاسم على ما دون المرفق لما ذكرها إلى المرافق ؛ وفي ذلك دليل على وقوع الاسم إلى الكوع ، فلما كان الاسم يتناول هذا العضو إلى المفصل وإلى المرفق وإلى المنكب اقتضى عموم اللفظ القطع من المنكب إلا أن تقوم الدلالة على أن المراد ما دونه . وجائز أن يقال إن الاسم لما تناولها إلى الكوع ولم يَجُزْ أن يقال إن ذلك بعض اليد بل يطلق عليه اسم اليد من غير تقييد وإن كان قد يطلق أيضاً على ما فوقه إلى المرفق تارة وإلى المنكب أخرى ثم قال تعالى : { فَاقْطَعُوا أيْدِيَهُمَا } وكانت اليد محظورة في الأصل فمتى قطعناها من المفصل فقد قضينا عهدة الآية ، لم يَجُزْ لنا قَطْعُ ما فوقه إلاّ بدلالة ، كما لو قال : " أعط هذا رجالاً " فأعطاه ثلاثة منهم فقد فعل المأمور به ، إذ كان الاسم يتناولهم ، وإن كان اسم الرجال يتناول ما فوقهم .
فإن قال قائل : يلزمكم في التيمم مثله بقوله تعالى : { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } [ المائدة : 6 ] ، وقد قلتم فيه إن الاسم لما تناول العضو إلى المرفق اقتضاه العموم ولم ينزل عنه إلا بدليل . قيل له : هما مختلفان مِنْ قِبَلِ أن اليد لما كانت محظورة في الأصل ثم كان الاسم يقع على العضو إلى المفصل وإلى المرفق لم يَجُزْ لنا قطع الزيادة بالشكّ ، ولما كان الأصل الحدث واحتاج إلى استباحة الصلاة لم يُزل أيضاً إلاّ بيقين وهو التيمم إلى المرفق . ولا خلاف بين السلف من الصدر الأول وفقهاء الأمصار أن القَطْعَ من المَفْصِلِ ، وإنما خالف فيه الخوارج وقطعوا من المَنْكِبِ لوقوع الاسم عليه ؛ وهم شذوذ لا يعدّون خلافاً . وقد رَوَى محمد بن عبدالرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد سارق من الكُوع " . وعن عمر وعليّ أنهما قطعا اليد من المفصل . ويدل على أن ما دون الرسغ لا يقع عليه اسم اليد على الإطلاق قولُه تعالى : { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } [ المائدة : 6 ] ولم يقل أحد إنه يقتصر بالتيمم على ما دون المفصل ، وإنما اختلفوا فيما فوقه .
واختلفوا في قَطْعِ الرِّجْل من أي موضع هو ، فرُوي عن عليّ أنه قطع سارقاً من خصر القدم . وروى صالح السمان قال : رأيت الذي قطعه عليّ رضي الله عنه مقطوعاً من أطراف الأصابع ، فقيل له : من قطعك ؟ فقال : خير الناس . قال أبو رزين : سمعت ابن عباس يقول : " أيعجز من رأى هؤلاء أن يقطع كما قطع هذا الأعرابي ؟ يعني نحوه فلقد قطع فما أخطأ ، يقطع الرجل ويَذَرُ عقبها " . ورُوي مثله عن عطاء وأبي جعفر من قولهما . وعن عمر رضي الله عنه في آخرين : " يُقطع الرجل من المفصل " وهو قول فقهاء الأمصار . والنظر يدل على هذا القول لاتّفاقهم على قطع اليد من المفصل الظاهر وهو الذي يلي الزند ، وكذلك الواجب قطع الرجل من المفصل الظاهر الذي يلي الكعب الناتىء . وأيضاً لما اتفقوا على أنه لا يترك له من اليد ما ينتفع به للبطش ولم يقطع من أصول الأصابع حتى يبقى له الكفّ ، كذلك ينبغي أن لا يترك له من الرجل العقب فيمشي عليه ؛ لأن الله تعالى إنما أوجب قطع اليد ليمنعه الأخْذَ والبطش بها ، وأمر بقطع الرجل ليمنعه المَشْيَ بها ، فغير جائز ترك العقب للمشي عليه . ومن قطع من المفصل الذي هو على ظهر القدم فإنه ذهب في ذلك أن هذا المفصل من الرجل بمنزلة مفصل الزند من اليد ، لأنه ليس بين مفصل ظهر القدم وبين مفصل أصابع الرجل مفصل غيره ، كما أنه ليس بين مفصل الزند ومفصل أصابع اليد مفصل غيره ، فلما وجب في اليد قطع أقرب المفاصل إلى مفصل الأصابع كذلك وجب أن يقطع في الرجل من أقرب المفاصل إلى مفصل الأصابع . والقول الأول أظهر ؛ لأن مفصل ظهر القدم غير ظاهر كظهور مفصل الكعب من الرجل ومفصل الزند من اليد ، فلما وجب قطع مفصل اليد الظاهر منه كذلك يجب أن يكون في الرجل ، ولما استُوعبت اليدُ بالقطع وجب استيعاب الرجل أيضاً ؛ والرجل كلها إلى مفصل الكعب بمنزلة الكف إلى مفصل الزند . وأما القطع من أصول أصابع الرجل فإنه لم يثبت عن علي من جهة صحيحة ، وهو قول شاذّ خارج عن الاتفاق والنظر جميعاً .
واختُلف في قطع اليد اليسرى والرجل اليمنى ، فقال أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب ، حين رجع إلى قول علي لما استشاره ، وابنُ عباس : " إذا سرق قُطعت يده اليمنى ، فإن سرق بعد ذلك قطعت رجله اليسرى ، فإن سرق لم يقطع وحُبس " ، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر ومحمد . ورُوي عن عمر : " أنه تقطع يده اليسرى بعد الرجل اليمنى ، فإن سرق قُطعت رجله اليمنى ، فإن سرق حُبس حتى يُحْدِثَ توبة " ، وعن أبي بكر مثل ذلك . إلا أن عمر قد رُوي عنه الرجوع إلى قول عليّ كرم الله وجهه . وقال مالك والشافعي : " تُقْطع اليد اليسرى بعد الرجل اليسرى والرجل اليمنى بعد ذلك ، ولا يُقتل إن سرق بعد ذلك " . ورُوي عن عثمان بن عفان وعبدالله بن عمر وعمر بن عبدالعزيز أنهم قتلوا سارقاً بعدما قُطعت أطرافه . ورَوَى سفيان عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه أن أبا بكر أراد أن يقطع الرجل بعد اليد والرِّجْل ، فقال له عمر : السنّة اليد . وروى عبدالرحمن بن يزيد عن جابر عن مكحول أن عمر قال : " لا تقطعوا يده بعد اليد والرِّجْل ولكن احبسوه عن المسلمين " . وقال الزهري : انتهى أبو بكر إلى اليد والرجل . وروى أبو خالد الأحمر عن حجّاج عن سِمَاكٍ عن بعض أصحابه : أن عمر استشارهم في السارق فأجمعوا على أنه تُقطع يده اليمنى فإن عاد فرجله اليسرى ثم لا يقطع أكثر من ذلك ؛ وهذا يقتضي أن يكون ذلك إجماعاً لا يسع خلافه ؛ لأن الذين يستشيرهم عمر هم الذين ينقعد بهم الإجماع . وقد رَوَى سفيان عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه : أن أبا بكر الصديق قطع اليد بعد قطع اليد والرجل ، في قصة الأسود الذي نزل بأبي بكر ثم سرق حليّ أسماء ؛ وهو مرسلٌ وأصله حديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة : أن رجلاً خدم أبا بكر فبعثه مع مصدّق وأوصاه به ، فلبث قريباً من شهر ثم جاءه وقد قطعه المصدق ، فلما رآه أبو بكر قال له : مالك ؟ قال : وجدني خنت فريضة فقطع يدي ، فقال أبو بكر : إني لأراه يخون أكثر من ثلاثين فريضة ، والذي نفسي بيده لئن كنت صادقاً لأَقِيدَنَّكَ منه ! ثم سرق حليّ أسماء بنت عميس فقطعه أبو بكر . فأخبرت عائشة أن أبا بكر قطعه بعد قَطْع المصدق يده ، وذلك لا يكون إلا قطع الرجل اليسرى . وهو حديث صحيح لا يُعَارَضُ بحديث القاسم ، ولو تعارضا لسقطا جميعاً ، ولم يثبت بهذا الحديث عن أبي بكر شيء ، ويبقى لنا الأخبار الأُخَرُ التي ذكرناها عن أبي بكر والاقتصار على الرجل اليسرى .
فإن قيل : روى خالد الحذّاء عن محمد بن حاطب أن أبا بكر قطع يداً بعد يد ورجل . قيل له : لم يقل في السرقة ، ويجوز أن يكون في قِصَاصٍ ؛ وقد رُوي عن عمر بن الخطاب مثل ذلك ، وتأويله ما ذكرناه . فحصل من اتفاق السلف وجوب الاقتصار على اليد والرجل ، وما روي عنهم من مخالفة ذلك فإنما هو على وجهين : إما أن يكون الحكاية في قطع اليد بعد الرجل أو قطع الأربع من غير ذكر السرقة فلا دلالة فيه على القطع في السرقة ، أو يكون مرجوعاً عنه كما رُوي عن عمر ثم رُوي عنه الرجوع عنه . وقد رُوي عن عثمان أنه ضرب عنق رجل بعدما قطع أربعته ، وليس فيه دلالة على قول المخالف ؛ لأنه لم يذكر أنه قطعه في السرقة ، ويجوز أن يكون قطعه من قصاص . ويدل على صحة قول أصحابنا قوله تعالى : { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } وقد بيّنا أن المراد أيمانهما ، وكذلك هو في قراءة ابن مسعود وابن عباس والحسن وإبراهيم . وإذا كان الذي تتناوله الآية يداً واحدة لم تَجُزِ الزيادة عليها إلا من جهة التوقيف أو الاتفاق ، وقد ثبت الاتّفاق في الرجل اليسرى واختلفوا بعد ذلك في اليد اليسرى ، فلم يجز قطعها مع عدم الاتفاق والتوقيف ، إذ غير جائز إثبات الحدود إلا من أحد هذين الوجهين . ودليل آخر ، وهو اتفاق الأمة على قَطْعِ الرجل بعد اليد ، وفي ذلك دليل على أن اليد اليسرى غير مقطوعة أصلاً ؛ لأن العلة في العدول عن اليد اليسرى بعد اليمنى إلى الرجل في قطعها على هذا الوجه إبطالُ منفعة الجنس ، وهذه العلة موجودة بعد قطع الرجل اليسرى . ومن جهة أخرى أنه إنما لم تُقطع رجله اليمنى بعد رجله اليسرى لما فيه من بطلان منفعة المشي رأساً ، كذلك لا تقطع اليد اليسرى بعد اليمنى لما فيه من بطلان منفعة البطش ، وهو منافع اليد كالمشي من منافع الرجل . ودليل آخر ، وهو اتفاق الجميع على أن المحارب وإن عظم جُرْمُهُ في أَخْذِ المال لا يزاد على قطع اليد والرجل لئلا تبطل منفعة جنس الأطراف ، كذلك السارق وإن كثر الفعل منه بأن عظم جرمه فلا يوجب الزيادة على قطع اليد والرجل .
فإن قال قائل : قوله عز وجل : { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } يقتضي قطع اليدين جميعاً ، ولولا الاتفاق لما عدلنا عن اليد اليسرى في السرقة الثانية إلى الرجل اليسرى . قيل له : أما قولك إن الآية مقتضية لقطع اليد اليسرى ، فليس كذلك عندنا ؛ لأنها إنما اقتضت يداً واحدة لما ثبت من إضافتها إلى الاثنين بلفظ الجمع دون التثنية ، وأن ما كان هذا وصفه فإنه يقتضي يداً واحدة من كل واحد منهما ؛ ثم قد اتفقوا أن اليد اليمنى مرادة فصار كقوله تعالى : " فاقطعوا أيمانهما " فانتفى بذلك أن تكون اليسرى مرادة باللفظ ، فيسقط الاحتجاج بالآية في إيجاب قطع اليسرى . وعلى أنه لو كان لفظ الآية محتملاً لما وَصَفْتَ لكان اتفاقُ الأمة على قطع الرجل بعد اليمنى دلالةً على أن اليسرى غير مرادة ، إذ غير جائز ترك المنصوص والعدول عنه إلى غيره .
واحتج موجبو قطع الأطراف بما رواه عبدالله بن رافع قال : أخبرني حماد بن أبي حميد عن محمد بن المنكدر عن جابر : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي بسارق قد سرق فأمر به أن تقطع يده ، ثم أُتي به مرة أخرى قد سرق فأمر به أن تُقطع رجله ، ثم أُتي به مرة أخرى قد سرق فأمر به أن تقطع يده ، ثم سرق فأمر به أن تقطع رجله ، حتى قُطعت أطرافه كلها " ، وحماد بن أبي حميد ممن يضعف . وهو مختصر ، وأصله ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن عبدالله بن عبيد بن عقيل الهلالي : حدثنا جدّي عن مصعب بن ثابت بن عبدالله بن الزبير عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله قال : جِيء بسارق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " اقتلوه ! " فقالوا : يا رسول الله إنما سرق ! فقال : " اقطعوه ! " قال : فقُطع ، ثم جيء به الثانية ، فقال : " اقتلوه ! " فقالوا : يا رسول الله إنما سرق ! قال : " اقطعوه ! " قال : فقُطع ، ثم جيء به الثالثة ، فقال : " اقتلوه ! " فقالوا : يا رسول الله إنما سرق ! قال : " اقطعوه ! " ثم أتي به الرابعة ، فقال : " اقتلوه ! " فقالوا : يا رسول الله إنما سرق ! قال : " اقطعوه ! " ثم أُتي به الخامسة ، فقال : " اقتلوه ! " قال جابر : فانطلقنا به فقتلناه . ورواه أبو معشر عن مصعب بن ثابت بإسناد مثله ، وزاد : خرجنا به إلى مربد النعم ، فحملنا عليه النَّعم ، فأشار بيده ورجليه فنفرت الإبل عنه ، فلقيناه بالحجارة حتى قتلناه . ورواه يزيد بن سنان حدثني هشام بن عروة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال : " أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارقٍ فقطع يده ، ثم أُتي به قد سرق فقطع رجله ، ثم أُتي به قد سرق فأمر بقتله " ؛ ورواه حماد بن سلمة عن يوسف بن سعد عن الحارث بن حاطب : أن رجلاً سرق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقتلوه ! " فقال القوم : إنما سرق ! فقال : " اقطعوه ! " فقطعوه ، ثم سرق على عهد أبي بكر الصديق فقطعه ، ثم سرق فقطعه ، حتى قطعت قوائمه كلها ، ثم سرق الخامسة فقال أبو بكر : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعْلَمَ به حين أمر بقتله ؛ فأمر به فقُتل . والذي ذكرناه من حديث مصعب بن ثابت هو أصل الحديث الّذي رواه حماد بن أبي حميد ، وفيه الأمر بقتله بدياً ، ومعلوم أن السرقة لا يستحقّ بها القتل ، فثبت أن قطع هذه الأعضاء لم يكن على وجه الحدّ المستحق بالسرقة وإنما كان على جهة تغليظ العقوبة والمثلة ، كما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة العُرَنيين أنه قطع أيديهم وأرجلهم وسملهم ، وليس السمل حدّاً في قُطّاع الطريق ، فلما نُسِخَت المُثَلَةُ نُسخ بها هذا الضرب من العقوبة ، فوجب الاقتصار على اليد والرجل لا غير . ويدل على أن قطع الأربع كان على وجه المثلة لا على جهة الحدّ أن في حديث جابر أنهم حملوا عليه النَّعم ثم قتلوه بالحجارة ، وذلك لا يكون حدّاً في السرقة بوجه .
باب ما لا يقطع فيه
قال أبو بكر : عموم قوله : { وَالسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما } يوجب قطع كل من تناول الاسم في سائر الأشياء ، لأنه عموم في هذا الوجه وإن كان مجملاً في المقدار ، إلا أنه قد قامت الدلالة من سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم وقول السلف واتفاق فقهاء الأمصار على أنه لم يرد به العموم ، وأن كثيراً مما يُسمَّى آخذه سارقاً لا قَطْعَ فيه . واختلف الفقهاء في أشياء منه .
ذكر الاختلاف في ذلك
قال أبو حنيفة ومحمد : " لا قطع في كل ما يسرع إليه الفساد ، نحو الرطب والعنب والفواكه الرطبة واللحم والطعام الذي لا يبقى ولا في الثمر المعلّق والحنطة في سنبلها ، سواء كان لها حافظ أو لم يكن . ولا قَطْعَ في شيء من الخشب إلا السّاج والقنا . ولا قطع في الطين والنّورة والجصّ والزرنيخ ونحوه . ولا قطع في شيء من الطير . ويُقطع في الياقوت والزمرد . ولا قطع في شيء من الخمر ولا في شيء من آلات الملاهي " . وقال أبو يوسف : " يُقطَعُ في كل شيء سُرِقَ من حِرْزٍ إلا في السِّرْقِينِ والتراب والطين " . وقال مالك : " لا يقطع في الثمر المعلق ولا في حَرِيسَةِ الجبل ، وإذا أواه الجَرِينُ ففيه القطع . وكذلك إذا سرق خشبة ملقاةً فبلغ ثمنها ما يجب فيه القطع ، ففيه القطعُ " . وقال الشافعي : " لا قطع في الثمر المعلق ولا في الجُمَّار لأنه غير محرز ، فإن أُحْرِز ففيه القطع رطباً كان أو يابساً " . وقال عثمان البتي : " إذا سرق الثمر على شجرة فهو سارق يُقطع " . قال أبو بكر : روى مالك وسفيان الثوري وحمّاد بن سلمة عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان : أن مروان أراد قطع يد عبد وقد سرق وَدِيّاً ، فقال رافع بن خديج : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا قَطْعَ في ثَمَرٍ ولا كَثَرٍ " . وروى سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن محمد بن حبان عن عمه واسع بن حبان بهذه القصة ، فأدخل ابن عيينة بين محمد بن حبان وبين رافع واسع بن حبان . ورواه الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن محمد بن حبان عن عمةٍ له بهذه القصة ، وأدخل الليث بينهما عمةً له مجهولة . ورواه الدراوردي عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن أبي ميمونة عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ، فجعل الدراوردي بين محمد بن يحيى ورافع أبا ميمونة . فإن كان واسع بن حبان كنيته أبو ميمونة فقد وافق ابن عيينة ، وإن كان غيره فهو مجهول لا يُدْرَى من هو . إلا أن الفقهاء قد تلقّوا هذا الحديث بالقبول وعملوا به ، فثبت حجته بقبولهم له ، كقوله : " لا وَصِيَّةَ لوَارِثٍ " واختلاف المتبايعين لمّا تلقاه العلماء بالقبول ثبتت حجته ولزم العمل به .
وقد تنازع أهل العلم معنى قوله : " لا قَطْعَ في ثَمَرٍ ولا كَثَرٍ " فقال أبو حنيفة ومحمد : " هو على كل ثمر يسرع إليه الفساد " وعمومه يقتضي ما يبقى منه وما لا يبقى ، إلا أن الكلّ متفقون على وجوب القطع فيما قد استحكم ولا يسرع إليه الفساد ، فخصّ ما كان بهذا الوصف من العموم وصار ذلك أصلاً في نفي القطع عن جميع ما يسرع إليه الفساد . وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا قَطْعَ في طَعَامٍ " ، وذلك ينفي القطع عن جميع الطعام ، إلا أنه خصّ ما لا يسرع إليه الفساد بدليل . وقال أبو يوسف ومن قدمنا قوله : إن نَفْيَه القطع عن الثمر والكثر لأجل عدم الحرز ، فإذا أُحرز فهو وغيره سواء ؛ وهذا تخصيص بغير دلالة . وقوله : " ولا كثر " أصلٌ في ذلك أيضاً ؛ لأن الكَثَرَ قد قيل فيه وجهان : أحدهما الجُمَّارُ ، والآخر النخل الصغار ، وهو عليهما جميعاً ، فإذا أراد به الجمّار فقد نفى القطع عنه لأنه مما يفسد وهو أصل في كل ما كان في معناه ، وإن أراد به النخل فقد دل على نفي القطع في الخشب ؛ فنستعملهما على فائدتيهما جميعاً . وكذلك قال أبو حنيفة : " لا قطع في خشب إلا الساج والقنا " وكذلك يجيء على قوله في الأبنوس ؛ وذلك أن الساج والقنا والأبنوس لا يوجد في دار الإسلام إلا مالاً فهو كسائر الأموال . وإنما اعتبر ما يوجد في دار الإسلام مالاً مِنْ قِبَلِ أن الأملاك الصحيحة هي التي توجد في دار الإسلام ، وما كان في دار الحرب فليس بمُلْكٍ صحيح ، لأنها دار إباحة وأملاكُ أهلها مباحة ، فلا يختلف فيها حكم ما كان منه مالاً مملوكاً وما كان منه مباحاً ؛ فلذلك سقط اعتبار كونها مباحة في دار الحرب ، فاعتبر حكم وجودها في دار الإسلام ، فلما لم توجد في دار الإسلام إلا مالاً كانت كسائر أموال المسلمين التي ليست مباحة الأصل .
فإن قال قائل : النخل غير مباح الأصل . قيل له : هو مباح الأصل في كثير من المواضع كسائر الجنس المباح الأصل ، وإن كان بعضها مملوكاً بالأخذ والنقل من موضع إلى موضع ؛ وقد رَوَى عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبدالله بن عمر قال : جاء رجل من مُزَيْنَةَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله كيف ترى في حريسة الجبل ؟ قال : " هي عَلَيْهِ ومِثْلُها والنّكَالُ ، ولَيْسَ في شيءٍ مِنَ المَاشِيَةِ قَطْعٌ إِلاّ ما أَوَاهُ المَرَاحُ ، فإذا أواه المراح فبلغ ثمن المِجَنّ ففيه قَطْعُ اليَدِ ، وما لم يَبْلُغْ ثمن المِجَنّ ففيه غَرَامَةُ مِثْلِهِ وَجَلْدَاتُ النّكَالِ " ، قال : يا رسول الله كيف ترى في الثمر المعلق ؟ قال : " هي ومِثْلُهُ معه والنّكَالُ ، وليس في شيء مِنَ الثّمَرِ المُعَلَّقِ قَطْعٌ إلا ما أواه الجَرِينُ ، فما أخذه من الجَرِينِ فبَلَغَ ثمن المجنّ ففيه القطع ، وما لم يبلغ ففيه غَرامةُ مِثْلِهِ وجَلْدَاتُ النّكَالِ " . فنفى في حديث رافع بن خديج القطع عن الثمر رأساً ، ونفى في حديث عبدالله بن عمر القطع عن الثمر إلاّ ما أواه الجرين . وقوله : " حتى يأويه الجَرِينُ " يحتمل معنيين : أحدهما الحرز ، والآخر الإبانةُ عن حال استحكامه وامتناع إسراع الفساد إليه ؛ لأنه لا يأويه الجرين إلا وهو مستحكم في الأغلب ؛ وهو كقوله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } [ الأنعام : 141 ] ولم يُرِدْ به وقوع الحصاد ، وإنما أراد به بلوغه وقت الحصاد ؛ وقوله عليه السلام : " لا يَقْبَلُ اللهُ صَلاَةَ حَائِضٍ إلاّ بخِمَارٍ " ولم يُرِدْ به وجود الحَيْضِ ، وإنما أخبر عن حكمها بعد البلوغ ؛ وقوله : " إذا زَنَى الشَّيْخُ والشَّيْخَةُ فارْجُمُوهُما البَتَّةَ " . ولم يُرِدْ به السنَّ ، وإنما أراد الإحصان ؛ وقوله : " في خَمْسٍ وعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ " أراد دخولها في السنة الثانية وإن لم يكن بأمها مخاضٌ ، لأن الأغلب إذا صارت كذلك كان بأمها مخاض ؛ وكذلك قوله : " حتى يأويه الجرين " يحتمل أن يريد به بلوغ حال الاستحكام ، فلم يجز من أجل ذلك أن يخصّ حديث رافع بن خديج في قوله : " لا قطع في ثمر ولا كثر " .
وإنما لم يقطع في النّورة ونحوها لما روت عائشة قالت : لم يكن قَطْعُ السارق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه ، يعني الحقير . فكل ما كان تافهاً مباح الأصل فلا قطع فيه ، والزرنيخُ والجصُّ والنورةُ ونحوها تافهٌ مباح الأصل ؛ لأن أكثر الناس يتركونه في موضعه مع إمكان القدرة عليه . وأما الياقوت والجوهر فغير تافه وإن كان مباح الأصل ، بل هو ثمين رفيعٌ ليس يكاد يترك في موضعه مع إمكان أخْذِهِ ، فيُقطع فيه وإن كان مباح الأصل ، كما يقطع في سائر الأموال ؛ لأن شرط زوال القطع المعنيان جميعاً من كونه تافهاً في نفسه ومباح الأصل . وأيضاً فإن الجصّ والنورة ونحوها أموال لا يراد بها القنية بل الإتلاف ، فهي كالخبز واللحم ونحو ذلك ؛ والياقوت ونحوه مالٌ يراد به القنية والتبقية كالذهب والفضة . وأما الطير فإنما لم يُقطع فيه لما رُوي عن علي وعثمان أنهما قالا : " لا يُقْطع في الطير " من غير خلاف من أحد من الصحابة عليهما ؛ وأيضاً فإنه مباح الأصل ، فأشبه الحشيش والحطب .
واخْتُلِفَ في السارق من بيت المال ، فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد والشافعي : " لا يُقطع من سرق من بيت المال " ، وهو قول علي وإبراهيم النخعي والحسن . ورَوَى ابن وهب عن مالك أنه يقطع ، وهو قول حماد بن أبي سليمان . ورَوَى سفيان عن سماك بن حرب عن ابن عبيد بن الأبرص أن عَلِيّاً أُتي برجل سرق مِغْفَراً من الخُمْسِ ، فلم يَرَ عليه قطعاً وقال : له فيه نصيب . وروى وكيع عن المسعودي عن القاسم : أن رجلاً سرق من بيت المال ، فكتب فيه سعد إلى عمر ، فكتب إليه عمر : ليس عليه قطع له فيه نصيب . ولا نعلم عن أحد من الصحابة خلاف ذلك . وأيضاً لما كان حقُّه وحقُّ سائر المسلمين فيه سواءً فصار كسارق مال بينه وبين غيره فلا يقطع .
واخْتُلف فيمن سرق خمراً من ذميّ أو مسلم ، فقال أصحابنا ومالك والشافعي : " لا قطع عليه " ، وهو قول الثوري . وقال الأوزاعي في ذمي سرق من مسلم خمراً أو خنزيراً : " غُرم الذمي ويُحدّ فيه المسلم " . قال أبو بكر : الخمر ليست بمال لنا ، وإنما أمر هؤلاء أن تترك مالاً لهم بالعهد والذمة ، فلا يُقطع سارقها لأن ما كان مالاً من وجه وغير مال من وجه فإن أقلّ أحواله أن يكون ذلك شبهة في دَرْءِ الحدّ عن سارقه ، كمن وَطِىءَ جارية بينه وبين غيره . وأيضاً فإن المسلم معاقبٌ على اقتناء الخمر وشربها مأمور بتخليلها أو صبّها ، فمن أخذها فإنما أزال يده عما كان عليه إزالتها عنه لا يقطع .
واختُلف فيمن أقَرَّ بالسرقة مرة واحدة ، فقال أبو حنيفة وزفر ومالك والشافعي والثوري : " إذا أقرّ بالسرقة مرة واحدة قُطِعَ " . وقال أبو يوسف وابن شبرمة وابن أبي ليلى : " لا يقطع حتى يقرّ مرتين " . والدليل على صحة القول الأول ما روى عبدالعزيز بن محمد الدراوردي عن يزيد بن خصيفة عن محمد بن عبدالرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة قال : أُتي بسارق إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله هذا سرق ، فقال : " ما أخَالُهُ سَرَقَ " . فقال السارق : بلى ! قال : " فاذْهَبُوا به فاقْطَعُوهُ " فقُطِعَ . ورواه غير الدراوردي عن يزيد عن محمد بن عبدالرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر فيه أبا هريرة ، منهم الثوري وابن جريج ومحمد بن إسحاق . قال أبو بكر : وعلى أيّ وجه حصلت الرواية من وَصْلٍ أو قَطْع فحكمها ثابت ؛ لأن إرسال من أرسله لا يمنع صحةَ وَصْلِ من وَصَلَه . ومع ذلك لو حصل مرسلاً لكان حكمه ثابتاً ، لأن المرسل والموصول سواء عندنا فيما يوجبان من الحكم ، فقد قطع النبي صلى الله عليه وسلم بإقراره مرة واحدة .
فإن قال قائل : إنما قطعه بشهادة الشهود لأنهم قالوا سرق . قيل له : لو كان كذلك لاقتصر عليها ولم يلقّنه الجحود ، فلما قال بعد قولهم سرق : " وما أخاله سرق " ولم يقطعه حتى أقرّ ، ثبت أنه قُطِعَ بإقراره دون الشهادة .
فإن احتجوا بما روى حماد بن سلمة عن إسحاق عن عبدالله بن أبي طلحة عن أبي المنذر مولى أبي ذرّ عن أبي أمية المخزومي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي بلصّ اعترف اعترافاً ولم يوجد معه المتاع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أخَالُكَ سَرَقْتَ ! " قال : بلى يا رسول الله ! فأعادها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين أو ثلاثاً ، قال : بلى ! فأمر به فقُطع . ففي هذا الحديث أنه لم يقطعه بإقراره مرة واحدة ، وهو أقوى إسناداً من الأول . قيل له : ليس في هذا الحديث بيان موضع الخلاف ، وذلك أنه لم يذكر فيه إقرار السارق مرتين أو ثلاثاً ، وإنما فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعاد القول مرتين أو ثلاثاً قبل أن يقرَّ ثم أقرّ .
فإن قيل : فقد ذكر فيه أنه اعترف اعترافاً ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أخالك سرقت " وأعاده مرتين أو ثلاثاً . قيل له : يحتمل أنه يريد اعترف بعدما قال له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مرتين أو ثلاثاً ، ويحتمل أيضاً أن يكون الاعتراف قد حصل منه عند غير النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا يوجب ذلك القطع عليه . وأيضاً لو ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أعاد عليه ذلك بعد الإقرار الأول ، لما دلّ على أن الإقرار الأول لم يوجب القطع ، إذ ليس يمتنع أن يكون القَطْعُ قد وجب وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوصل إلى إسقاطه بتلقينه الرجوع عنه .
فإن قيل : رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما يَنْبَغِي لوَالٍ آمِرٍ أنْ يُؤْتَى لحدٍّ إلاّ أقامَهُ " فلو كان القطع واجباً بإقراره بدياً لما اشتغل النبي صلى الله عليه وسلم بتلقينه الرجوع عن الإقرار ولسارع إلى إقامته . قيل له : ليس وجوب القطع مانعاً من استثبات الإمام إياه فيه ولا موجباً عليه قطعه في الحال ، لأن ماعزاً قد أقرّ عند النبي صلى الله عليه وسلم بالزنا أربع مرات فلم يَرْجُمْه حتى استثبته وقال : " لعلّكَ لَمَسْتَ ؟ لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ ؟ " وسأل أهله عن صحة عقله وقال لهم : " أَبِهِ جُنَّةٌ ؟ " ولم يدلّ ذلك على أن الرجم لم يكن قد وجب بإقراره أربع مرات . فليس إذاً في هذا الخبر ما يعترض به على خبر أبي هريرة ذكر فيه أنه أمر بقطعه حين أقرّ ، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يُقْدِمُ على إقامة حدّ لم يجب بعد ، وليس يمتنع أن يؤخر إقامة حد قد وجب مستثبتاً لذلك ومتحرياً بالاحتياط والثقة فيه . ويدلّ على صحة ما ذكرنا أيضاً حديثُ ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عبدالرحمن بن ثعلبة الأنصاري عن أبيه : " أن عمرو بن سمرة أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله إني سرقت جملاً لنبي فلان ، فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إنا فَقَدْنا جملاً لنا ، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقُطِعَتْ يده " . ففي هذا الخبر أيضاً قَطْعُه بإقراره مرة واحدة . ومن جهة النظر أيضاً أن السرقة المُقَرَّ بها لا تخلو من أن تكون عيناً أو غير عَيْنٍ ، فإن كانت عيناً ولم يجب القطع بإقرار الأول فقد وجب ضمانها لا محالة مِنْ قِبَلِ أن حق الآدمي فيه يثبت بإقراره مرة واحدة ولا يتوقف على الإقرار ثانياً ، وإذا ثبت الملك للمقرّ له ولم يثبت القطع صار مضموناً عليه ، وحصول الضمان ينفي القطع . وإن كانت السرقة ليست بعين قائمة ، فقد صارت ديناً بالإقرار الأول ، وحصولها ديناً في ذمته ينفي القطع على ما وصفنا .
فإن قال قائل : إذا جاز أن يكون حكم أخذه بدياً على وجه السرقة موقوفاً في القطع على نفي الضمان وإثباته ، فهلاّ جعلت حكم إقراره موقوفاً في تعلق الضمان به على وجوب القطع أو سقوطه ! قيل له : نفس الأخْذِ عندنا على وجه السرقة يوجب القطع فلا يكون موقوفاً ، وإنما سقوط القطع بعد ذلك يوجب الضمان ، ألا ترى أنه إذا ثبتت السرقة بشهادة الشهود كان كذلك حكمها ؟ فإن لم يكن الإقرار بدياً موجباً للقطع فينبغي أن يوجب الضمان ، ووجوب الضمان ينفي القطع ، إذ كان إقراره الثاني لا ينفي ما قد حصل عليه من الضمان النافي للقطع بإقراره الأول .
فإن قيل : ينتقض هذا الاعتلالُ بالإقرار بالزنا ؛ لأن إقراره الأول بالزنا إذا لم يوجب حدّاً فلا بدّ من إيجاب المهر به ؛ لأن الوطء في غير ملك لا يخلو من إيجاب حدّ أو مهر ، ومتى انتفى الحدّ وجب المهر ؛ وإقراره الثاني والثالث والرابع لا يسقط المهر الواجب بدياً بالإقرار الأول ، وهذا يؤدي إلى سقوط اعتبار عدد الإقرار في الزنا ، فلما صح وجوب اعتبار عدد الإقرار في الزنا مع وجود العلة المانعة من اعتبار عدد الإقرار في السرقة بان به فساد اعْتِلاَلِكَ . قيل له : ليس هذا مما ذكرناه في شيء ؛ وذلك أن سقوط الحد في الزنا على وجه الشُّبْهَةِ لا يجب به مهر ، لأن البُضْعَ لا قيمة له إلا من جهة عقد أو شبهة عقد ، ومتى عَرِيَ من ذلك لم يجب مهر . ويدل عليه اتفاقهم جميعاً على أنه لو أقرّ بالزنا مرة واحدة ثم مات أو قامت عليه بَيِّنَةُ بالزنا فمات قبل أن يحدّ لم يجب عليه المهر في ماله ، ولو مات بعد إقراره بالسرقة مرة واحدة لكانت السرقة مضمونة عليه باتفاق منهم جميعاً ؛ فقد حصل من قولهم جميعاً إيجاب الضمان بالإقرار مرة واحدة وسقوط المهر مع الإقرار بالزنا من غير حدّ .
واحتج الآخرون بما روى الأعمش عن القاسم بن عبدالرحمن عن أبيه عن عليّ ، أن رجلاً أقرّ عنده بسرقة مرتين فقال : " قد شَهِدْتَ على نفسك بشهادتين " فأمر به فقُطع وعلّقها في عنقه . ولا دلالة في هذا الحديث على أن مذهب عليّ رضي الله عنه أنه لا يُقْطع إلاّ بالإقرار مرتين ، إنما قال : " شهدت على نفسك بشهادتين " ولم يقل : لو شهدتَ بشهادة واحدة لما قُطِعَتْ . وليس فيه أيضاً أنه لم يقطعه حتى أقرّ مرتين .
ومما يُحْتجُّ به لأبي يوسف من طريق النظر ، أن هذا لما كان حدّاً يسقط بالشبهة وجب أن يعتبر عدد الإقرار فيه بالشهادة ، فلما كان أقل من يقبل فيه شهادة شاهدين وجب أن يكون أقل ما يصحّ به إقراره مرتين ، كالزنا اعتُبر عدد الإقرار فيه بعدد الشهود ؛ وهذا يلزم أبا يوسف أن يعتبر عدد الإقرار في شُرْبِ الخمر بعدد الشهود ؛ وقد سمعت أبا الحسن الكرخي يقول : إنه وجد عن أبي يوسف في شرب الخمر أنه لا يحدّ حى يقرّ مرتين كعدد الشهود ، ولا يلزم عليه حد القذف ؛ لأن المطالبة به حق لآدمي ، وليس كذلك سائر الحدود . وهذا الضرب من القياس مدفوع عندنا ، فإن المقادير لا تؤخذ من طريق المقاييس فيما كان هذا صِفَتُهُ ، وإنما طريقها التوقيف والاتفاق .
باب السرقة من ذوي الأرحام
قال أبو بكر : قوله تعالى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } عموم في إيجاب قَطْعِ كلّ سارقٍ إلا ما خصه الدليل ، على النحو الذي قدمنا ، وعلى ما حكينا عن أبي الحسن ، ليس بعموم وهو مجملٌ مُحتاج فيه إلى دلالة من غيره في إثبات حكمه . ومن جهة أخرى على أصله أن ما ثبت خصوصه بالاتّفاق لا يصح الاحتجاج بعمومه ، وقد بيّناه في أصول الفقه ؛ وهو مذهب محمد بن شجاع . إلا أنه وإن كان عموماً عندنا لو خُلّينا ومقتضاه ، فقد قامت دلالة خصوصه في ذوي الرحم المحرم . وقد اختلف الفقهاء فيه .
ذكر الاختلاف في ذلك
قال أصحابنا : " لا يُقطع من سرق من ذي الرحم " وهو الذي لو كان أحدهما رجلاً والآخر امرأة لم يَجُزْ له أن يتزوجها من أجل الرحم الذي بينهما . ولا تقطع أيضاً عندهم المرأة إذا سرقت من زوجها ، ولا الزوج إذا سرق من امرأته . وقال الثوري : " إذا سرق من ذي رحم منه لم يُقطع " . وقال مالك : " يُقْطَع الزوج فيما سرق من امرأته والمرأة فيما تسرق من زوجها في غير الموضع الذي يسكنان فيه ، وكذلك في الأقارب " . وقال عبيدالله بن الحسن في الذي يسرق من أبويه : " إن كان يدخل عليهم لا يُقطع ، وإن كانوا نَهَوْهُ عن الدخول عليهم فسَرَقَ قُطِع " . وقال الشافعي : " لا قَطْعَ على من سرق من أبويه أو أجداده ، ولا على زوج سرق من امرأته أو امرأة سرقت من زوجها " . والدليل على صحة قول أصحابنا قولُ الله عز وجل : { ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت أبائكم } [ النور : 61 ] إلى قوله : { أو ما ملكتم مفاتحه } [ النور : 61 ] فأباح تعالى الأكْلَ من بيوت هؤلاء ، وقد اقتضى ذلك إباحة الدخول إليها بغير إذنهم ؛ فإذا جاز لهم دخولها لم يكن ما فيها مُحْرَزاً عنهم ، ولا قَطْعَ إلا فيما سُرق من حِرْزٍ . وأيضاً إباحة أكل أموالهم يمنع وجوب القطع فيها ، لما لها فيها من الحق كالشريك ونحوه .
فإن قيل : فقد قال : { أو صديقكم } [ النور : 61 ] ويُقطع فيه مع ذلك إذا سرق من صديقه . قيل له : ظاهر الآية ينفي القطع من الصديق أيضاً ، وإنما خصصناه بدلالة الاتفاق ودلالة اللفظ قائمة فيما عداه ، وعلى أنه لا يكون صديقاً إذا قصد السرقة . ودليل آخر ، وهو أنه قد ثبت عندنا وجوب نفقة هؤلاء عند الحاجة إليه وجواز أخْذِها منه بغير بَدَل ، فأشبه السارق من بيت المال ، لثبوت حقه فيه بغير بدل يلزمه عند الحاجة إليه .
فإن قيل : قد ثبت هذا الحقّ عند الضرورة في مال الأجنبي ولم يمنع من القطع بالسرقة منه . قيل له : يُعترضان من وجهين ، أحدهما : أنه في مال الأجنبي يثبت عند الضرورة وخوف التلف وفي مال هؤلاء يثبت بالفقر وتعذر الكسب ، والوجه الآخر : أن الأجنبي يأخذه ببَدَلٍ وهؤلاء يستحقونه بغير بدل كمالِ بيت المال . وأيضاً فلما استحقّ عليه إحياء نفسه وأعضائه عند الحاجة إليه بالإنفاق عليه ، وكان هذا السارق محتاجاً إلى هذا المال في إحياء يده لسقوط القطع ، صار في هذه الحالة كالفقير الذي يستحقّ على ذي الرحم المحرم منه الإنفاق عليه لإحياء نفسه أو بعض أعضائه . وأيضاً فهو مَقِيسٌ على الأب بالمعنى الذي قدمناه ؛ والله تعالى أعلم .
باب فيمن سرق ما قد قُطع فيه
قال أصحابنا فيمن سرق ثوباً فقُطِعَ فيه ثم سرقه مرة أخرى وهو بعينه : " لم يُقْطَعْ فيه " . والأصل فيه أنه لا يجوز عندنا إثبات الحدود بالقياس ، وإنما طريقها التوقيف أو الاتّفاق ، فلما عَدَمْنَاهُمَا فيما وَصَفْنَا لم يَبْقَ في إثباته إلا القياس ، ولا يجوز ذلك عندنا . فإن قيل : هلاّ قطعته بعموم قوله : { السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } قبل السرقة ! قيل له : السرقة الثانية لم يتناولها العموم لأنها توجب قطع الرجل لو وجب القطع ، والذي في الآية قطع اليد . وأيضاً فإن وجوب قطع السرقة متعلق بالفعل والعَيْنِ جميعاً ، والدليل عليه أنه متى سقط القطْعُ وجب ضمان العين ، كما أن حدَّ الزنا لما تعلق بالوطء كان سقوط الحد موجباً ضمان الوطء ، ولما تعلق وجوب القصاص بقتل النفس كان سقوط القود موجباً ضمان النفس ؛ فكذلك وجوب ضمان العين في السرقة عند سقوط القطع يوجب اعتبار العين في ذلك . فلما كان فعل واحد في عينين لا يوجب إلا قطعاً واحداً ، كان كذلك حكم الفعلين في عين واحدة ينبغي أن لا يوجب إلا قطعاً واحداً ، إذ كان لكل واحد من العينين أعني الفعل والعين تأثير في إيجاب القطع .
فإن قيل : فلو زنى بامرأة فحُدَّ ثم زنى بها مرة أخرى حُدَّ ثانياً مع وقوع الفعلين في عين واحدة . قيل له : لأنه لا تأثير لعين المرأة في تعلّقِ وجوب الحدّ بها ، وإنما يتعلق وجوبُ حدّ الزنا بالوَطْءِ لا غير ؛ والدليل على ذلك أنه متى سقط الحد ضمن الوطء ولم يضمن عين المرأة ، وفي السرقة متى سقط القطعُ ضمن عين السرقة . وأيضاً فلما صارت السرقة في يده بعد القطع في حكم المباح التافه ، بدلالة أن استهلاكها لا يوجب عليه ضمانها ، وجب أن لا يقطع فيها بعد ذلك كما لا يقطع في سائر المباحات التافهة في الأصل وإن حصلت ملكاً للناس كالطين والخشب والحشيش والماء ؛ ومن أجل ذلك قالوا : إنه لو كان غزلاً فنسجه ثوباً بعدما قطع فيه ثم سرقه مرة أخرى قُطِعَ ، لأن حدوث هذا الفعل فيه يرفع حكم الإباحة المانعة كانت من وجوب القطع ، كما لو سرق خشباً لم يقطع فيه ، ولو كان باباً منجوراً فسرق قُطِعَ لخروجه بالصنعة عن الحال الأولى . وأيضاً لما كان وقوع القَطْع فيه يوجب البراءة من استهلاكه قام القطع فيه مقام دَفْعِ قيمته ، فصار كأنه عِوَضُهُ منه ، وأشبه من هذا الوجه وقوع الملك له في المسروق ، لأن استحقاق البدل عليه يوجب له الملك ، فلما أشبه ملكه من هذا الوجه سقط القطع لأنه يسقط بالشبهة أن يشبه المباح من وجه ويشبه الملك من وجه .
باب السارق يوجد قبل إخراج السرقة
قال أبو بكر رحمه الله : اتفق فقهاء الأمصار على أن القطع غير واجب إلا أن يفرق بين المتاع وبين حِرْزِهِ ، والدارُ كلها حِرْزٌ واحد ، فكما لم يخرجه من الدار لم يجب القطع ؛ ورُوي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن عمر ، وهو قول إبراهيم . ورَوَى يحيى بن سعيد عن عبدالرحمن بن القاسم قال : بلغ عائشة أنهم كانوا يقولون : إذا لم يخرج بالمتاع لم يقطع ، فقالت عائشة : " لو لم أجد إلا سكّيناً لقطعته " . ورَوَى سعيدٌ عن قتادة عن الحسن قال : " إذا وجد في بيت فعليه القَطْعُ " . قال أبو بكر : دخوله البيت لا يستحق به اسم السارق ، فلا يجوز إيجاب القطع به ، وأَخْذُهُ في الحرز أيضاً لا يوجب القطع ، لأنه باقٍ في الحرز ، ومتى لم يخرجه من الحِرْزِ فهو بمنزلة من لم يأخذه فلا يجب عليه القطع ؛ ولو جاز إيجاب القطع في مثله لما كان لاعتبار الحرز معنى ؛ والله أعلم .
باب غرم السارق بعد القطع
قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والثوري وابن شبرمة : " إذا قطع السارق فإن كانت السرقة قائمةً بعينها أخَذَهَا المسروق منه ، وإن كانت مستهلكة فلا ضمان عليه " ، وهو قول مكحول وعطاء والشعبي وابن شبرمة وأحد قولي إبراهيم النخعي . وقال مالك : " يضمنها إن كان موسراً ولا شيء عليه إن كان معسراً " . وقال عثمان البتّي والليث والشافعي : " يغرم السرقة وإن كانت هالكة " ، وهو قول الحسن والزهري وحماد وأحد قولي إبراهيم . قال أبو بكر : أما إذا كانت قائمة بعينها فلا خلاف أن صاحبها يأخذها ؛ وقد رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم : " قَطَعَ سارق رداء صفوان وردَّ الرداءَ على صفوان " . والذي يدلّ على نفي الضمان بعد القطع قوله تعالى : { فَاقْطَعُوا أيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ } والجزاءُ اسمٌ لما يستحقّ بالفعل ؛ فإذا كان الله تعالى جعل جميع ما يستحق بالفعل هو القطع ، لم يَجُزْ إيجابُ الضمان معه لما فيه من الزيادة في حكم المنصوص ، ولا يجوز ذلك إلاّ بمثل ما يجوز به النسخ ، وكذلك قوله تعالى : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ } ، فأخبر أن جميع الجزاء هو المذكور في الآية ، لأن قوله تعالى : { إنَّما جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ } ينفي أن يكون هناك جزاءٌ غيره . ومن جهة السنة حديث عبدالله بن صالح قال : حدثني المفضل بن فضالة عن يونس بن يزيد قال : سمعت سعد بن إبراهيم يحدث عن أخيه المسور بن إبراهيم عن عبدالرحمن بن عوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذَا أَقَمْتُمْ عَلَى السَّارِقِ الحَدَّ فلا غُرْمَ عَلَيْهِ " . وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا محمد بن نصر بن صهيب قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شجاع الآدمي قال : حدثني خالد بن خِدَاشٍ قال : حدثني إسحاق بن الفرات قال : حدثنا المفضّل بن فضالة عن يونس عن الزهري عن سعد بن إبراهيم عن المسور بن إبراهيم عن عبدالرحمن بن عوف : أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بسارق ، فأمر بقطعه وقال : " لا غُرْمَ عَلَيْهِ " . وقال عبدالباقي : هذا هو الصحيح ؛ وأخطأ فيه خالد بن خداش ، فقال المسور بن مخرمة .
ويدلّ عليه من جهة النظر امتناعُ وجوب الحدّ والمال بفعل واحد ، كما لا يجتمع الحد والمهر والقَوَدُ والمال ، فوجب أن يكون وجوب القطع نافياً لضمان المال ، إذ كان المال في الحدود لا يجب إلاّ مع الشبهة ، وحصولُ الشبهة ينفي وجوب القطع . ووجه آخر : وهو أن من أصلنا أن الضمان سَبَبٌ لإيجاب الملك ، فلو ضمنّاه لملكه بالأخذ الموجب للضمان فيكون حينئذ مقطوعاً في ملك نفسه وذلك ممتنع ، فلما لم يكن لنا سبيل إلى رفع القطع وكان في إيجاب الضمان إسقاطُ القطع ، امتنع وجوب الضمان .