قوله تعالى : { يا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } فيه أمرٌ للنبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ الناس جميعاً ما أرسله به إليهم من كتابه وأحكامه ، وأن لا يكتم منه شيئاً خوفاً من أحد ولا مداراةً له ، وأخبر أنه إن ترك تبليغ شيء منه فهو كمن لم يبلغ شيئاً ، بقوله تعالى : { وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } فلا يستحقَّ منزلة الأنبياء القائمين بأداء الرسالة وتبليغ الأحكام . وأخبر تعالى أنه يعصمه من الناس حتى لا يصلوا إلى قتله ولا قَهْره ولا أسْرِه ، بقوله تعالى : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } ؛ وفي ذلك إخبارٌ أنه لم يكن تقية من إبلاغ جميع ما أرسل به إلى جميع من أرسل إليهم . وفيه الدلالة على بطلان قول الرافضة في دعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كَتَمَ بعض المبعوثين إليهم على سبيل الخوف والتَّقِيَّةِ ؛ لأنه تعالى قد أمره بالتبليغ ، وأخبر أنه ليس عليه تقية بقوله تعالى : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } . وفيه دلالةٌ على أن كل ما كان من الأحكام بالناس إليه حاجةٌ عامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلَغه الكافة وأن وروده ينبغي أن يكون من طريق التواتر ، نحو الوضوء مِنْ مَسِّ الذكر ومن مسّ المرأة ومما مسّته النار ونحوها ، لعموم البَلْوَى بها ؛ فإذا لم نجد ما كان منها بهذه المنزلة وارداً من طريق التواتر علمنا أن الخبر غير ثابت في الأصل ، أو تأويله ومعناه غير ما اقتضاه ظاهره من نحو الوضوء الذي هو غسل اليد دون وضوء الحدث .
مطلب : في الدليل على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم
وقد دل قوله تعالى : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ كان من أخبار الغيوب التي وُجِدَ مُخْبِرُها على ما أخبر به ؛ لأنه لم يَصِلْ إليه أحدٌ بقتل ولا قهر ولا أسْرٍ مع كثرة أعدائه المحاربين له مُصَالَتَةً والقصد لاغتياله مخادعَةً ، نحو ما فعله عامر بن الطفيل وأرْبِد ، فلم يصلا إليه ؛ ونحو ما قصده به عُمَيْر بن وهب الجمحي بمواطأةٍ من صفوان بن أمية ، فأعلمه الله إياه ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عمير بن وهب بما تواطأ هو وصفوان بن أمية عليه وهما في الحجر من اغتياله ، فأسلم عمير وعَلِمَ أن مثله لا يكون إلاّ من عند الله تعالى عالم الغيب والشهادة ، ولو لم يكن ذلك من عند الله لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم الناس ولا ادَّعى أنه معصوم من القتل والقهر من أعدائه وهو لا يأمن أن يوجد ذلك على خلاف ما أخبر به فيظهر كذبه مع غناه عن الإخبار بمثله . وأيضاً لو كانت هذه الأخبار من عند غير الله لما اتّفق في جميعها وجود مُخْبَرَاتِها على ما أخبر به ، إذْ لا يتفق مثلها في أخبار الناس إذا أخبروا عما يكون على جهة الحَدْسِ والتخمين وتعاطي علم النجوم والزرق والفال ونحوها ، فلما اتّفق جميع ما أخبر به عنه من الكائنات في المستأنف على ما أخبر به ولا تخلَّفَ شيءٌ منها ، علمنا أنها من عند الله العالم بما كان وما يكون قبل أن يكون .