قوله تعالى : { وإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الذِينَ كَفَرُوا } الآية [ 101 ] : فأباح القصر بشرطين : الضرب في الأرض ، والخوف . وظن ظانون أن المراد بالقصر هاهنا ، القصر في صفة الصلاة ، بترك الركوع والسجود إلى الإيماء ، وترك القيام إلى الركوب .
والرازي اختار هذا وقال : الذي حمله على أن القصر عزيمة عندهم ، وأن فريضة الصلاة في حق المسافر ما نزلت إلا ركعتين فلا قصر ، ولا يقال في العزيمة لا جناح ، ولا يقال فيما شرع ركعتين إنه قصر ، كما لا يقال في صلاة الصبح ذلك ، فلا جرم اختار الأول . واحتج عليه بأن الله تعالى قيد القصر بشرطين ، والذي يعتبر فيه الشرطان إنما هو صلاة الخوف .
والذي ذكره فاسد من وجهين : أحدهما : أن صلاة الخوف لا يعتبر فيها الشرطان ، فأنه لو لم يضرب في الأرض ، ولم يوجد السفر ، بل جاءنا الكفار وغزونا في بلادنا ، فتجوز صلاة الخوف ، فلا يعتبر وجود الشرطين على ما قاله . فإن حملنا على قصر الصفة ، لم يشترط فيه الضرب في الأرض ، وإن حملنا على قصر الركعات ، لم يعتبر فيه الخوف فسقط ترجيحه أحد الحملين على الآخر ، باعتبار الشرطين فيه .
الثاني : أن في الأخبار ما يدل على أن المراد بكتاب الله تعالى ما قلناه ، وهو ما روي عن يعلى بن أمية قال : قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : كيف نقصر وقد أَمِنّا ؟ وقال الله تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جنَاحٌ أَنْ تَقْصرُوا مِنَ الصَّلاةِ إنْ خِفْتمْ }{[1009]} الآية ، فقال : عجبت مما عجبت ، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته{[1010]} " ، وقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما لنا لا نقصر وقد أمنّا ؟ دليل قاطع على أن مفهوم الآية القصر في الركعات ، ولم يذكر أصحاب أبي حنيفة على هذا تأويلاً يساوي الذكر .
وإذا قالوا لم يشرع الله في السفر إلا ركعتين ، فليست الأربعة مشروعة ، وإذا لم تكن الأربعة مشروعة ما دام السفر ، فلم صح الاقتداء بالمقيم ، وإذا اقتدي به ، فلم لزمته الأربع ؟ وقد قالوا : لو اقتدى به في التشهد لزمهُ الأربع ، ومالك يشترط إدراك ركعة . فإن قيل لنا : وعندكم ، لم لزمته الأربع ؟ قيل : إن نوى الأربع ، فليلزمه الأربع ، وإن لم ينو فلا ، فهو صحيح على أصلنا . . فأما عندهم فاختلاف الصلاتين يمنع القدوة ، وهذا بيّن . ولا فرق بين سفر الحج والغزو ، وسفر التجارة . وابن مسعود يقول : لا نقصر إلا في حج أو جهاد . وعطاء يقول : لا أرى القصر إلا في سبيل من سبل الله عز وجل .
وقول الله تعالى : { وإذَا ضَرَبْتُمْ فيِ الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } : يعم كل سفر . وقال مالك : إذا خرج للصيد لا لمعاشه ولكن متنزها ، أو خرج لمشاهدة بلده متنزهاً ومتلذذاً ، لم يقصر . وقال الشافعي رضي الله عنه : لا قصر في سفر المعصية . وقد شرحنا ذلك في سورة البقرة .
وقوله { ضَرَبْتُمْ في الأَرْضِ } مطلق ، وقوله : يمسح المسافر ثلاثة أيام مطلق ، غير أن الإطلاق يقيد بالمعنى المفهوم من الرخص .
ولعل أبا حنيفة يرى القصر عزيمة فيقول : صلاة غير المقيم لم تشرع إلا كذلك ، فإذا لم تشرع في غير حالة الإقامة إلا كذلك ، لم تكن شرعت لإعانته على ما هو بصدده . إلا أن هذا الكلام باطل بالوجوه التي قدمناها .
والإشكال أنه ليس في كتاب الله تعالى تقييد المدة ، ويعتبر في السفر مسيرة ثلاثة أيام أو ستة عشر فرسخاً ، على ما اختلف العلماء وبينا سببه فيما تقدم فلا نعيده .