قوله تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أسْلِحَتَكُمْ وَخُذوا حِذْركم } الآية [ 102 ] : فيه إباحة وضع السلاح ، لما فيه من المشقة اللاصقة به في حمل السلاح في حالة المرض والوحل والطين ، فيجوز أن يؤخذ منه أن من توحل ووقع في الطين وضاق عليه وقت الصلاة ، فيجوز له أن يصلي بالإيماء ، كما يجوز له في حالة المرض إذا لم يمكنه السجود ، لأن الله تعالى سوى بين المرض والمطر .
قوله تعالى : { وإذَا كُنْتَ فيهمْ فَأقمْتَ لهُمُ الصَّلاةَ } الآية [ 102 ] : مذهب الشافعي رضي الله عنه في صلاة الخوف ، أن العدو إذا كان في غير وجه القبلة ، جعل الإمام القوم صفين ، وصلى بطائفة ركعة ، وطائفة وجاه العدو ، فإذا سجد سجدوا معه ، وإذا قام قاموا معه ونووا مفارقته ، وأتموا الصلاة لأنفسهم ، وأطال الإمام القيام حتى تحصر الطائفة الأخرى بعد انصراف الطائفة الأولى إلى وجاه ، وصلى الإمام بالطائفة الأخرى ركعة وتشهد وسلم ، وقضى القوم بقية صلاتهم ، وإن كان العدو في جهة القبلة ، أحرم بهم جميعاً وحرسه صف{[1011]} وسجد مع القيام صف ، وباقي الصلاة على ما تقدم .
والفرق بين كون العدو في جهة القبلة ، وكونه في جهة أخرى ، أن العدو إذا كان في غير جهة القبلة ، فإنما يحرم بطائفة واحدة ، وإذا كانوا في جهة واحدة أحرم بهم .
وللناس اختلافات كثيرة في صلاة الخوف ، وأبو حنيفة من بينهم يقول : يركع الإمام ويسجد وينصرفون وهم في الصلاة ، ويجيء القوم الآخرون فيصلي بهم ركعة ثم ينصرفون ، ويجيء الأولون فيقضون بقية صلاتهم .
فأثبتوا ترددات كثيرة في الصلاة من غير حاجة ، والله تعالى يقول : { وإذَا كُنْتَ فيهمْ فَأقمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَليْأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُم فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ } الآية [ 102 ] ، فظن أن السجود يجري على حقيقته ، ولكن لما لم يقل إنهم ينصرفون كرة أخرى .
حمل الشافعي قوله : فإذا سجدتم{[1012]} يعني فإذا صليتم ، فالذي ذكره الشافعي رضي الله عنه ، ليس فيه إلا أن المأموم يقطع نية القدرة ، وذلك نية بعد .
وعلى ما قاله أبو حنيفة تجري ترددات في خلال الصلاة ، وهي خارقة نظام الصلاة من غير حاجة ، ومعلوم أن قطع نية القدوة أمثل من احتمال ترددات لا لحاجة في خلال الصلاة .
وأبو حنيفة قد قال في الذي سبقه الحدث ، إنه يتردد{[1013]} وصلاته صحيحة ، وذلك أيضاً خلاف الأصول ، فلا جرم قال أبو يوسف : الذي كان من ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف ، لا يجوز مثله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنما كان مختصاً به لئلا يفوت الناس الجماعة معه ، لأنه رأى أشياء تخرم نظام الصلاة ، فأما نحن ، فلا يحتمل ما يخالف نظام الصلاة ، وإنما قصارى ما يفعله المأموم قطع نية القدوة فقط ، وذلك غير ممنوع شرعاً .
وإذا كان الخوف أشج من ذلك ، وكان التحام القتال ، فإن المسلمين يصلون على ما أمكنهم مستقبلي القبلة ومستدبريها ، وأبو حنيفة وأصحابه الثلاثة متفقون على أنهم لا يصلون والحالة هذه ، بل يؤخرون الصلاة ، وإن قاتلوا في الصلاة قالوا فسدت الصلاة .
وحكي عن الشافعي رضي الله عنه : إن تابع الطعن والضرب فسدت صلاته .
وليس في القرآن تعرض لذلك على الخصوص ، وإنما فيه : " فلا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة " . وهم يحملون ذلك على قصر الأوصاف ، وقصر الأوصاف عند الخوف ، يشتمل على حالة التحام القتال .
نعم ، صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، صلى صلاة الخوف في مواضع ، على اختلاف في الصفات ، ولم يصلِّ يوم الخندق أربع صلوات حتى مضى هوى من الليل ثم قال : " ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى{[1014]} " ، فقضاهن على الترتيب ، ولم يكن مشتغلاً بالقتال حالة الحفر ، ولا كان الكفار ثم{[1015]} ، وإنما كانوا يستعدون لهم ، والدليل على أنه لم يجر قتال إلا مناوشة في طرف مع بعضهم ، وقوله تعالى : { وكفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ{[1016]} } ، وذلك يدل على أنه لم يجر قتال ، فعلم أن ذلك كان مخصوصاً منسوخاً ، ويعلم ضرورة أن الأفعال في القتال ، مثل الأفعال من المشي والحركات ثم الجيئة والذهاب في خلال صلاة الخوف عندهم لا تنافي صحة الصلاة على ما هو مذهبهم ، فالقتال من أي وجه كان منافياً .