قوله تعالى : { فإذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فاذْكُرُوا اللهَ قِيَاماً وقعوداً } الآية [ 103 ] :
واعلم أن الله تعالى ذكر لفظ الذكر في غير هذا الموضع ، وأراد به الصلاة في قوله تعالى : { الّذينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وعلىَ جُنُوبهم{[1017]} } ، فروي أن عبد الله بن مسعود ، رأى الناس يضجون في المسجد فقال : ما هذه الضجة ؟ قالوا : أليس الله تعالى يقول : اذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم ؟ قال : إنما يعني بهذه الصلاة المكتوبة ، إن لم تستطع قائماً فقاعداً ، وإلا فعلى جنبك .
وقال الحسن في قوله تعالى : { الّذينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وقُعوداً وَعَلىَ جُنُوبهِمْ } : هذه رخصة من الله تعالى للمريض أن يصلي قاعداً ، فإن لم يستطع فعلى جنبه .
والمراد نفس الصلاة ، لأن الصلاة ذكر الله تعالى ، وقد اشتملت على الأذكار المفروضة والمسنونة ، فسماها الله تعالى ذكراً لذلك ، وسماها ركوعاً ، وكل ذلك تعبير عن الصلاة بما تشتمل عليه الصلاة .
فأما الذكر الذي في قوله عز وجل : { فإذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاَةَ }{[1018]} فيحتمل أن يكون معناه ذكر الله تعالى بالقلب وباللسان وهو الظاهر ، فإنه تعالى ذكر ذلك بعد الفراغ من الصلاة ، فقال : { فإذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاَةَ فاذْكُرُوا اللهَ قِيَاماً وقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ } .
وقوله تعالى : { فإذَا اطْمَأنَنْتُم{[1019]} } : معناه فإذا رجعتم إلى أوطانكم ، فعودوا إلى إتمام الصلاة ودعوا القصر ، فإنه زال الخوف والسفر ، فارجعوا إلى إتمام الأركان إن كان القصر قصراً في الأوصاف .
قال الله تعالى : { إنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمنينَ كتَاباً مَوْقُوتاً{[1020]} } : قال عبد الله بن مسعود : موقوت : منجم ، كلما مضى نجم دخل نجم آخر ، وقال زيد بن أسلم مثل ذلك ، فنزلت الآية على أن الصلاة مفروضة في أوقات معلومة على نوب مضبوطة ، غير أن هذه دلالة حملية{[1021]} ، وأشار إلى تفاصيلها في مواضع أخر من كتابه ، من غير تحديد أوائلها وأواخرها ، وبين على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم مقاديرها فيما ذكره الله تعالى في الكتاب في أوقات الصلوات ، فمن جملة تلك الآيات : قوله تعالى : { أَقمْ الصَّلاَةَ لدُلُوكِ الشّمْسِ إلىَ غَسَقِ اللّيْلِ وَقُرْآنَ الفَجْرِ{[1022]} } .
وروي عن ابن عباس أنه قال : دلوك الشمس ، زوالها عن بطن السماء لصلاة الظهر ، إلى غسق الليل ، وهو صلاة المغرب ، وروي عن ابن عمر مثل ذلك في دلوكها أنه زوالها ، وقال ابن مسعود : دلوكها : زوالها ،
وروي عنه وعن ابن عباس في رواية أخرى ، أن دلوكها غروبها .
واللفظ يحتمل المعنيين .
والدلوك في الأصل الميل ، فدلوك الشمس ميلها ، وقد تميل تارة للزوال وتارة للغروب ، فقال الرازي : إذا عنى بالدلوك أول الوقت ، وغسق الليل نهايته ، لأنه تعالى قال : إلى غسق الليل وإلى غاية .
ومعلوم أن وقت الظهر لا يتصل بغسق الليل ، لأن بينهما وقت العصر ، فالأظهر أن يكون المراد بالدلوك هاهنا هو الغروب ، وغسق الليل اجتماع الظلمة ، لأن وقت المغرب يتصل بغسق الليل ويكون نهايته .
والاعتراض على ما ذكر أن يقال : إنه لو كان على ما ذكره ، ما كان في كتاب الله إشارة إلى صلاة الظهر والعصر ، والظهر أول ما نزل من الصلوات ، والعصر الصلاة الوسطى عند الأكثرين ، فكيف يجوز أن لا يقع التعرض لهما ، ويقع التعرض لصلاة الليل أولاً إلى صلاة الفجر ويغفل صلاتي النهار مع أن الميل في الشمس غير غروب الشمس ، فإن الشمس تميل قبل أن تغرب ، فلا يقال : مالت الشمس بمعنى غربت ، إلا أن يقال : مالت للغروب ، فإنه يقال للشمس وقت الظهر : إنها مائلة ، ولا يقال لها بعدما غربت مائلة .
يبقى أن يقال : إن الله تعالى قال : { إلَى غَسَقِ اللّيلِ } ، ولا يتصل أول الظهر بغسق الليل ، فيقال : ليس كذلك ، فإن ما بين زوال الشمس المعبر عنه بالدلوك ، إلى غسق الليل ، وقت لصلوات عدة وهي الظهر ، والعصر ، والمغرب ، فيفيد ذلك أن من وقت الزوال إلى غسق الليل ، لا يخرج أن يكون وقتاً لصلاة ، فيدخل فيه الظهر والعصر والمغرب ، فأبان الله تعالى أن بين زوال الشمس إلى غسق الليل وقت لصلوات عدة ، فيدخل فيها الظهر والعصر والمغرب ، ويحتمل أن يدخل فيه العتمة أيضاً ، لأن الغاية قد تدخل في الحكم ، كقوله : { وأَيْدِيَكُمْ إلىَ المَرَافقِ{[1023]} } ، وقوله : { حَتّى تَغْتَسَلُوا } ، والغسل داخل في شرط الإباحة .
وإذا حمل الدلوك على الزوال ، اشتملت الآية على خمس صلوات ، فالأربعة من الزوال إلى غسق الليل ، والخامسة قرآن الفجر .
ولما كان بين الصبح والظهر وقت ليس من أوقات الصلوات المفروضة ، أبان الله تعالى أن من وقت الزوال إلى وقت العتمة وقتاً للصلاة مفعولة فيه .
وأفرد الفرد بالذكر ، إذ كان بينه وبين الصلوات المفروضة وقت ليس من أوقات الصلوات المفروضة .
وقال تعالى في بيان المواقيت أيضاً على نحو ما سلف : { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيْ النّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللّيْلِ{[1024]} } ، وروي عن عمر وعن الحسن في قوله طرفي النهار : الصبح والظهر والعصر ، وزلفاً من الليل : المغرب والعشاء ، فعلى هذا القول قد انتظمت الآية الصلوات الخمس . وروى يونس عن الحسن : { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيْ النّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللّيْلِ } قال : المغرب والعشاء . فعلى هذا القول قد انتظمت الآية الصلوات الخمس . وعن الحسن في رواية : أقم الصلاة طرفي النهار ، قال : هو الفجر والعصر . وعن ابن عباس : جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة . { فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُون } : المغرب والعشاء ، { وحِينَ تُصْبِحُون } : الفجر ، { وَعَشِيّاَ } : العصر ، { وحِينَ تُظْهِرُون{[1025]} } ، الظهر . وعن الحسن مثله ، وعن ابن عباس : { وَسَبِّحْ بحَمْدِ رّبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقبْلَ غُرُوبها وَمِنْ آناءِ اللّيْلِ فَسَبِّحْ وأطْرافَ النّهارِ لَعّلكَ تَرْضَى{[1026]} } .
قوله تعالى : { وَلاَ تَهِنُوا فيِ ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ{[1027]} } : تحريض على الجهاد ، ونهي عن الونا والضعف ، وذكر العلة فيه فقال : { وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ }{[1028]} أي إن الألم الذي ينالكم محتمل في مقابلة عظيم الثواب عند الله تعالى ، ذلك ليعلم أن المشاق في التكاليف محتملة ، لما يرجى فيها من ثواب الله تعالى .