قوله تعالى : { يَا بَني آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } الآية :[ 31 ] :
ظاهره الأمر بأخذ الزينة عند كل مسجد ، للفعل الذي يتعلق بالمسجد ، تعظيماً للمسجد والفعل الواقع فيه ، مثل الاعتكاف والصلاة والطواف ، ولا يدل ظاهر ذلك على وجوب الستر في الصلاة في المسجد أو خارج المسجد ، فإن القدر الذي يستر العورة لا يسمى زينة وتجملاً .
وكثير من المتكلمين في أحكام القرآن زادوا في ذلك دلالة على الوجوب للصلاة ، لأن الذي أمرنا بذلك عند كل مسجد لم يكن لعين المسجد ، وإنما كان للفعل الواقع في المسجد ، والذي عظم المسجد لأجله الطواف والصلاة ، أما الطواف فلا يعم كل مسجد ، وفي القرآن عند كل مسجد ، والاعتكاف لم يشرف المسجد لأجله ، بل كان عبادة لأجل المسجد ، فلم يبق إلا الفعل الذي يشرف به المسجد ، ووجب تعظيم المسجد لأجله وهو الصلاة .
فإذا قيل : { خُذُوا زِينَتَكُم عِندَ كُلَّ مَسْجِدٍ } ، عرف به أنه لم يجب للمسجد ، وإنما وجب لما عظم المسجد لأجله وهو الصلاة ، فمتى وجب الستر للصلاة كان شرطاً ، إلا أن الدليل قام على الزيادة على قدر الستر ، وأنها غير واجبة ، فبقي مقدار الستر واجباً .
ومالك لا يوجب الستر شرطاً للصلاة ، ويقول إن فقد الستر لا يبطل الصلاة ، ويقول : قوله تعالى : { خُذُوا زِينَتَكُم عِندَ كُلَّ مَسْجِدٍ } ، روى الرواة أنه نزل في ستر الطواف والنهي عنه عرياناً ، وهذا فيه نظر ، فإنه تعالى قال : { عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } ، والطواف يختص بمسجد معين . والثاني : أنه إن ورد على سبب خاص ، لا يمتنع لأجله التعلق بعموم اللفظ .
ويرد على هذا ، أن الذي ورد الستر فيه - لم يجعل الستر شرطاً - وهو الطواف ، فكيف يجعل شرطاً لما سواه ؟
ويجاب عنه بأن وجوب الستر لأجل الطواف ظاهر في كونه شرطاً له ، وأنه يمتنع الاعتداد به دونه ، ولكن قام الدليل في الطواف على خلاف الظاهر ، وبقى ما عداه على ما يقتضيه الأصل .
وهذا يرد عليه ، أن الأصل أن ما وجب لغيره يفهم منه أنه إذا أتى به دونه ، كان تاركاً للواجب ، فمن أين أنه لا تجب الصلاة دونه ؟
والذي احتج به مالك ، أن ستر العورة لم يجب للصلاة ، فقد روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال : قلت : يا رسول الله ، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر فقال : " احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك ، قال فقلت : يا رسول الله ، فإذا كان أحدنا خالياً ، فقال : الله أحق أن يستحى منه " {[1314]} ، فإذا لم يكن الستر من فروض الصلاة لم يكن وجوبها متعلقاً بالصلاة ، فإذا لم يتعلق بها لزم منه جواز الصلاة دونه ، وهذا ينعكس في الطهارة التي لم يكن وجوبها إلا للصلاة .
فعلى هذا ، النهي عن الصلاة دون الستر ، كالنهي عن الصلاة في البقعة المغصوبة .
الجواب أن الستر في غير الصلاة إنما يجب عند ظهوره للناس ، فلو استخلى بنفسه ، فيجوز أن يكشف فخذه ، وإن كان في السوءتين خلاف ، وإذا أراد الصلاة وجب ستر جميع ذلك ، فذلك يدل على أن الستر وجب للصلاة .
وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يصلين أحدكم في ثوب واحد ليس على فخذه منه شيء{[1315]} " ، وعن عائشة أنها روت أنه عليه الصلاة والسلام قال : " لا يقبل الله صلاة امرأة إلا بخمار{[1316]} " ، فنفى قبولها لمن بلغت الحيض ، فصلتها مكشوفة الرأس ، كما نفى قبولها مع عدم الطهارة بقوله : " لا يقبل الله الصلاة بغير طهور " .
وقد روي عن مالك أنه قال فيمن صلى في ثوب نجس أو عارياً ، إنه يعيد ما دام الوقت ، وهذا يتعلق به عليه ، ويدل على بطلان قوله انه لا تعلق له بالصلاة ، فهذا تمام هذا الكلام .
وذكر إسماعيل بن إسحاق في نصرة قول مالك ، أن صلاة العريان جائزة ، فلو كان الستر شرطاً لما جاز ، كما لا يجوز صلاة الحائض ، لأن الحيض ينافي الطهارة .
وهذا غلط فاحش ، فإن صلاة الأمي جائزة ، مع أن القراءة شرط للصلاة أو فرضها ، وأن منافاة الحيض للصلاة لا لمكان عدم الطهارة ، فإن الحيض ينافي الصوم أيضاً ، وليس من شرطه الطهارة ، لكنه محض تعبد .
ومما نعلق به ، أن الوضوء لما كان شرطاً وجب عليه أن ينوي الطهارة للصلاة ، ولو كان الستر واجباً للصلاة ، لوجب أن ينوي به الصلاة ، وليس كالاستقبال ، فإن الاستقبال الواجب يقترن بالصلاة بخلاف الستر ، فنية الصلاة تشتمل على الاستقبال ، وقد أجاب علماؤنا عنه بأن نية الصلاة تشتمل عليه ، وهذا قررناه في مسائل الخلاف{[1317]} .
قوله تعالى : { وكُلُوا واشْرَبُوا ولاَ تُسرِفُوا } الآية :[ 31 ] :
ظاهرة يوجب الأكل والشرب من غير إسراف ، وقد أريد به الإباحة في بعض الأحوال والإيجاب في بعضها ، فأما الإيجاب ، فمثل أن يضعف عن أداء الواجبات ، فواجب عليه أن يأكل ما يزول معه الضرر ، وظاهر هذا يقتضي الأكل والشرب في المأكولات والمشروبات إلا أن يحظره دليل بعد أن لا يكون مسرفاً فيما يأتيه من ذلك ، فإنه أطلق الأكل والشرب على شرط أن لا يكون مسرفاً فيهما ، والإسراف هو مجاوزة الحد ، فتارة يتجاوز حد الحلال إلى الحرام ، وتارة في الإنفاق والتمحيق ، كما قال الله تعالى : { إنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إخوَانَ الشّيَاطِينَ{[1318]} } ، والإسراف مذموم ، ونقيضه الإقتار وهما مذمومان ، والاقتصاد والتوسط هو المشروع ، ومنه قيل دين الله تعالى بين المقصر والغالي وقد قال تعالى : { والّذِينَ إذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقتُروا وكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامَاً{[1319]} } ، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عَنْقِكَ وَلاَ تَبْسُطهْا كُلَّ البَسْطِ{[1320]} } ،
ومن الإسراف في الأكل والأكل فوق الشبع ، وكل ذلك محظور .