الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } بَيَانٌ لِمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ) ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُعْطَى إلَّا عَلَى وَجْهِ قَصْدِهِ ، وَبِحُكْمِ مَا يَنْعَقِدُ ضَمِيرُهُ عَلَيْهِ ، وَهَذَا أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْأُمَمِ مِنْ أَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا يُعْطَى ثَوَابَ عَمَلِهِ فِيهَا ، وَلَا يُبْخَسُ مِنْهُ شَيْئًا .
وَاخْتُلِفَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي وَجْهِ التَّوْفِيَةِ ؛ فَقِيلَ فِي ذَلِكَ صِحَّةُ بَدَنِهِ أَوْ إدْرَارُ رِزْقِهِ . وَقِيلَ : هَذِهِ الْآيَةُ مُطْلَقَةٌ ، وَكَذَلِكَ الْآيَةُ الَّتِي فِي حم عسق : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ } الْآيَةُ قَيَّدَهَا وَفَسَّرَهَا بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ سُبْحَانَ ، وَهِيَ قَوْلُهُ { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ } إلَى : { مَحْظُورًا } فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْعَبْدَ يَنْوِي وَيُرِيدُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُرِيدُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : اُخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ؛ فَقِيلَ : إنَّهُ الْكَافِرُ ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلَهُ حُكْمُهُ الْأَفْضَلُ الَّذِي بَيَّنَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : هِيَ فِي الْكَفَرَةِ ، وَفِي أَهْلِ الرِّيَاءِ . قَالَ الْقَاضِي : هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ يَنْوِي غَيْرَ اللَّهِ بِعَمَلِهِ ، كَانَ مَعَهُ أَصْلُ إيمَانٍ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ . ( وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «قَالَ اللَّهُ : إنِّي لَا أَقْبَلُ عَمَلًا أُشْرِكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي ، أَنَا أَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ عَنْ الشِّرْكِ » .
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَزَلَ إلَى الْعِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ ، وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ ، فَأَوَّلُ مَنْ يُدْعَى بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ ، وَرَجُلٌ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ : أَلَمْ أُعَلِّمْك مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي ؟ قَالَ : بَلَى يَا رَبِّ . قَالَ : فَمَاذَا عَمِلْت فِيمَا عَلِمْت ؟ قَالَ : كُنْت أَقُومُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ . فَيَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : كَذَبْتَ ، وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ : كَذَبْتَ ، وَيَقُولُ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ : بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ قَارِئٌ ؛ فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ .
وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : أَوَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْك حَتَّى لَمْ أَدَعَكَ تَحْتَاجُ إلَى أَحَدٍ ؟ فَيَقُولُ : بَلَى يَا رَبِّ . فَيَقُولُ : فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُك ؟ قَالَ : كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ ، فَيَقُولُ اللَّهُ : كَذَبْت ، وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ : كَذَبْت : بَلْ أَرَدْت أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ جَوَادٌ ، فَقَدْ قِيلَ لَك ذَلِكَ .
وَيُؤْتَى بِاَلَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَيُقَالُ لَهُ : فِيمَاذَا قُتِلْت ؟ فَيَقُولُ : أُمِرْت بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِك فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ . فَيَقُولُ اللَّهُ : كَذَبْت ، وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ : كَذَبْت ، وَيَقُولُ اللَّهُ : بَلْ أَرَدْت أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ جَرِيءٌ ، فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ .
ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُكْبَتَيَّ وَقَالَ : ( يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ، أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أَيْ فِي الدُّنْيَا ، وَهَذَا نَصٌّ فِي مُرَادِ الْآيَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .