الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ : { مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَمَّا اسْتَنْقَذَ اللَّهُ مَنْ فِي الْأَصْلَابِ وَالْأَرْحَامِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَوْحَى اللَّهُ إلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِك إلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَاصْنَعْ الْفُلْكَ . قَالَ : يَا رَبُّ ، مَا أَنَا بِنَجَّارٍ قَالَ : بَلَى ، فَإِنَّ ذَلِكَ بِعَيْنِي ؛ فَأَخَذَ الْقَدُومَ ، فَجَعَلَتْ يَدُهُ لَا تُخْطِئُ ، فَجَعَلُوا يَمُرُّونَ بِهِ فَيَقُولُونَ : هَذَا النَّبِيُّ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ قَدْ صَارَ نَجَّارًا ، فَعَمِلَهَا فِي أَرْبَعِينَ سَنَةً ، ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَنْ احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ، فَحَمَلَ فِيهَا ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ الْمَاءَ مِنْ السَّمَاءِ ، وَفَتَحَ الْأَرْضَ ، وَلَجَأَ ابْنُ نُوحٍ إلَى جَبَلٍ ، فَعَلَا الْمَاءُ عَلَى الْجَبَلِ سَبْعَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ } يَعْنِي عَنْهُ إلَى قَوْلِهِ : { مِنْ الْجَاهِلِينَ } .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّمَا سَأَلَ نُوحٌ رَبَّهُ لِأَجْلِ قَوْلِ اللَّهِ : { احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ } إلَى : { وَأَهْلَكَ } وَتَرَكَ نُوحٌ قَوْلَهُ : إلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُ رَآهُ اسْتِثْنَاءً عَائِدًا إلَى قَوْلِهِ : مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ، وَحَمَلَهُ الرَّجَاءُ عَلَى ذَلِكَ ، فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عَائِدٌ إلَى الْكُلِّ ، وَأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ ، كَمَا سَبَقَ عَلَى بَعْضٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ ، وَأَنَّ الَّذِي سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْ أَهْلِهِ هُوَ ابْنُهُ تَسْلِيَةً لِلْخَلْقِ فِي فَسَادِ أَبْنَائِهِمْ ، وَإِنْ كَانُوا صَالِحِينَ ، وَنَشَأَتْ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ ، وَهِيَ أَنَّ الِابْنَ مِنْ الْأَهْلِ اسْمًا وَلُغَةً ، وَمِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ .