الْآيَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي التَّوَسُّمِ : وَهُوَ تَفَعُّلٌ من الْوَسْمِ ، وَهُوَ الْعَلَامَةُ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَطْلُوبٍ غَيْرِهَا . قَالَ الشَّاعِرُ يَمْدَحُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
إنِّي تَوَسَّمْت فِيك الْخَيْرَ نَافِلَةً *** وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي صَادِقُ الْبَصَرِ
وَفِي الْفِرَاسَةِ أَيْضًا ، يُقَالُ : تَفَرَّسْت وَتَوَسَّمْت . وَحَقِيقَتُهَا الِاسْتِدْلَال بِالْخَلْقِ عَلَى الْخُلُقِ ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِجُودَةِ الْقَرِيحَةِ ، وَحِدَّةِ الْخَاطِرِ ، وَصَفَاءِ الْفِكْرِ .
يُحْكَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَمُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ كَانَا جَالِسِينَ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ ، وَدَخَلَ رَجُلٌ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : أَرَاهُ نَجَّارًا ، وَقَالَ الْآخَرُ : بَلْ حَدَّادًا ، فَتَبَادَرَ مَنْ حَضَرَ إلَى الرَّجُلِ فَسَأَلُوهُ ، فَقَالَ لَهُمْ : كُنْت نَجَّارًا ، وَأَنَا الْآنَ حَدَّادٌ ، وَهَذِهِ زِيَادَةٌ عَلَى الْعَادَةِ ، فَزَعَمَتْ الصُّوفِيَّةُ أَنَّهَا كَرَامَةٌ . وَقَالَ غَيْرُهُمْ : بَلْ هِيَ اسْتِدْلَالٌ بِالْعَلَامَةِ ، وَمِنْ الْعَلَامَاتِ ظَاهِرٌ يَبْدُو لِكُلِّ أَحَدٍ ، بِأَوَّلِ نَظَرٍ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ خَفِيٌّ فَلَا يَبْدُو لِكُلِّ أَحَدٍ ، وَلَا يُدْرَكُ بِبَادِئِ النَّظَرِ .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ ) وَهَذَا مُبَيَّنٌ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّوَهُّمَ وَالتَّفَرُّسَ من مَدَارِكِ الْمَعَانِي وَمَعَالِمِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ ، وَلَا يُؤْخَذُ بِهِ مَوْسُومٌ وَلَا مُتَفَرَّسٌ . وَقَدْ كَانَ قَاضِي الْقُضَاةِ الشَّامِيُّ الْمَالِكِيُّ بِبَغْدَادَ أَيَّامَ كَوْنِي بِالشَّامِ يَحْكُمُ بِالْفِرَاسَةِ فِي الْأَحْكَامِ جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَيَّامَ كَانَ قَاضِيهَا ، وَلِشَيْخِنَا فَخْرِ الْإِسْلَامِ أَبِي بَكْرٍ الشَّاشِيِّ جُزْءٌ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ ، كَتَبَهُ لِي بِخَطِّهِ ، وَأَعْطَانِيهِ ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ ؛ فَإِنَّ مَدَارَك الْأَحْكَامِ مَعْلُومَةٌ شَرْعًا ، مُدْرَكَةٌ قَطْعًا ، وَلَيْسَتْ الْفِرَاسَةُ مِنْهَا .