الْآيَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي الْحِجْرِ وَتَفْسِيرِهِ :
وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهَا دِيَارُ ثَمُودَ .
الثَّانِي : أَنَّهُ وَادٍ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ كُلُّ بِنَاءٍ بَنَيْته وَحَظَرْت عَلَيْهِ ، وَمِنْهُ : { وَحِجْرًا مَحْجُورًا } وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَهُنَا دِيَارُ ثَمُودَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَمَّا نَزَلَ الْحِجْرَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَهُمْ أَلَّا يَشْرَبُوا من بِئْرِهَا ، وَلَا يَسْتَقُوا مِنْهَا ، فَقَالُوا : قَدْ عَجَنَّا وَاسْتَقَيْنَا . فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَطْرَحُوا ذَلِكَ الْعَجِينَ وَيُهْرِيقُوا الْمَاءَ ) .
وَعَنْهُ فِيهِ أَيْضًا ( أَنَّ النَّاسَ نَزَلُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْضَ ثَمُودَ الْحِجْرَ ، وَاسْتَقَوْا من بِئْرِهَا ، وَاعْتَجَنُوا بِهِ ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُهَرِيقُوا مَا اسْتَقَوْا من بِئْرِهَا ، وَأَنْ يَعْلِفُوا الْإِبِلَ الْعَجِينَ ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا من الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَرِدُهَا النَّاقَةُ ) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : رَوَى مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِ الْحِجْرِ : لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ ، إلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ حَذَرًا أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ ) .
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ ، قَالَ : ( لَمَّا نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِجْرَ قَالَ : لَا تَسْأَلُوا الْآيَاتِ ، فَقَدْ سَأَلَهَا قَوْمُ صَالِحٍ فَكَانَتْ تَرِدُ من هَذَا الْفَجِّ ، وَتَصْدُرُ من هَذَا الْفَجِّ ، وَكَانَتْ تَشْرَبُ مَاءَهُمْ يَوْمًا ، وَيَشْرَبُونَ لَبَنَهَا يَوْمًا ، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَعَقَرُوهَا ، فَأَخَذَتْهُمْ صَيْحَةٌ أَخْمَدَتْ مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ مِنْهُمْ ، إلَّا رَجُلًا وَاحِدًا مِنْهُمْ كَانَ فِي حَرَمِ اللَّهِ فَقِيلَ : مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : أَبُو رِغَالٍ . فَلَمَّا خَرَجَ من الْحَرَمِ أَصَابَهُ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ ) .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : ( أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَرْقِ مَاءِ دِيَارِ ثَمُودَ ، وَإِلْقَاءِ مَا عُجِنَ وَحِيسَ بِهِ ) . لِأَجْلِ أَنَّهُ مَاءُ سُخْطٍ ، فَلَمْ يَجُزْ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، فِرَارًا من سَخَطِ اللَّهِ . وَقَالَ : اعْلِفُوهُ الْإِبِلَ ؛ فَكَانَ فِي هَذَا دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ من الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ يَجُوزُ أَنْ يَعْلِفَهُ الْإِبِلُ وَالْبَهَائِمُ ؛ إذْ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا ، وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ مَالِكٌ فِي الْعَسَلِ النَّجِسِ إنَّهُ تُعْلَفُهُ النَّحْلُ . وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا دَارُ سُخْطٍ وَبُقْعَةُ غَضَبٍ ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَدْخُلُوهَا إلَّا بَاكِينَ ) . ( وَرُوِيَ أَنَّهُ تَقَنَّعَ بِرِدَائِهِ ، وَأَوْضَعَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى خَرَجَ عَنْهَا ) .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فَصَارَتْ هَذِهِ بُقْعَةً مُسْتَثْنَاةً من قَوْلِهِ : ( جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا ، وَجُعِلَ تُرَابُهَا طَهُورًا ) ؛ فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهَا ، وَلَا الْوُضُوءُ من مَائِهَا ، وَلَا الصَّلَاةُ فِيهَا . وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْمَقْبَرَةُ وَالْحَمَّامُ ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ . وَهُوَ حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ : ( الْمَزْبَلَةُ ، وَالْمَجْزَرَةُ ، وَالْمَقْبَرَةُ ، وَالْحَمَّامُ ، وَالطَّرِيقُ ، وَظَهْرُ الْكَعْبَةِ ، وَأَعْطَانُ الْإِبِلِ ) . وَذَكَرَ عُلَمَاؤُنَا مِنْهَا جُمْلَةً ، وَجِمَاعُهَا هَذِهِ الثَّمَانِيَةُ .
التَّاسِعُ : الْبُقْعَةُ النَّجِسَةُ .
الْعَاشِرُ : الْبُقْعَةُ الْمَغْصُوبَةُ .
الْحَادِيَ عَشَرَ : أَمَامَك جِدَارٌ عَلَيْهِ نَجَسٌ .
الثَّانِيَ عَشَرَ : الْكَنِيسَةُ .
الثَّالِثَ عَشَرَ : الْبِيعَةُ .
الرَّابِعَ عَشَرَ : بَيْتٌ فِيهِ تَمَاثِيلُ .
الْخَامِسَ عَشَرَ : الْأَرْضُ الْمُعْوَجَّةُ .
السَّادِسَ عَشَرَ : مَوْضِعٌ تَسْتَقْبِلُ فِيهِ نَائِمًا أَوْ وَجْهَ رَجُلٍ .
السَّابِعَ عَشَرَ : الْحِيطَانُ .
وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ ، وَمِنْ هَذَا مَا مُنِعَ لِحَقِّ الْغَيْرِ ، وَمِنْهُ مَا مُنِعَ لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ الْمُحَقَّقَةِ أَوْ لِغَلَبَتِهَا ، وَمِنْهُ مَا مُنِعَ مِنْهُ عِبَادَةً . فَمَا مُنِعَ مِنْهُ لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ إنْ فُرِشَ فِيهِ ثَوْبٌ طَاهِرٌ كَالْمَقْبَرَةِ وَالْحَمَّامِ فِيهَا أَوْ إلَيْهَا ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ ، وَذَكَرَ أَبُو مُصْعَبٍ عَنْهُ الْكَرَاهِيَةَ ، وَفَرَّقَ عُلَمَاؤُنَا بَيْنَ الْمَقْبَرَةِ الْجَدِيدَةِ وَالْقَدِيمَةِ ، لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ إلَّا أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهَا مَاءٌ كَثِيرٌ ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمَقْبَرَةِ يَتَأَكَّدُ إذَا كَانَتْ لِلْمُشْرِكِينَ لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ وَأَنَّهَا دَارُ عَذَابٍ كَالْحِجْرِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : ( لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا يُصَلَّى إلَيْهَا ) .
وَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ ) يُحَذِّرُ مِمَّا صَنَعُوا .
وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ : لَا يُصَلَّى فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ ، وَإِنْ فَرَشَ ثَوْبًا ، كَأَنَّهُ رَأَى لَهَا عِلَّتَيْنِ : الِاسْتِقْذَارَ بِهَا وَقِفَارَهَا ، فَتُفْسِدُ عَلَى الْمُصَلِّي صَلَاتَهُ ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَلَا بَأْسَ بِهِ ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُصَلَّى عَلَى بِسَاطٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ إلَّا من ضَرُورَةٍ . وَكَرِهَ ابْنُ الْقَاسِمِ الصَّلَاةَ إلَى قِبْلَةٍ فِيهَا تَمَاثِيلُ ، وَفِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ ، فَإِنْ فَعَلَ أَجْزَأَهُ .
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ لَا تُجْزِئُ . وَذَلِكَ عِنْدِي بِخِلَافِ الْأَرْضِ ؛ فَإِنَّ الدَّارَ لَا تُدْخَلُ إلَّا بِإِذْنٍ ، وَالْأَرْضُ وَإِنْ كَانَتْ مِلْكًا فَإِنَّ الْمَسْجِدِيَّةَ فِيهَا قَائِمَةٌ لَا يُبْطِلُهَا الْمِلْكُ .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ : " لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ " .