الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ من الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : عَدَّدَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ من نِعَمِهِ مَا شَرَحَ فِيهَا ، فَمِنْهَا الظِّلَالُ تَقِي من حَرِّ الشَّمْسِ الَّذِي لَا تَحْتَمِلُهُ الْأَبْدَانُ ، وَلَا يَبْقَى مَعَهُ ، وَلَا دُونَهُ الْإِنْسَانُ ، من شَجَرٍ وَحَجَرٍ وَغَمَامٍ ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْجِبَالُ ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : خَلَقَهَا اللَّهُ عُدَّةً لِلْخَلْقِ ، يَأْوُونَ إلَيْهَا ، وَيَتَحَصَّنُونَ بِهَا ، وَيَعْتَزِلُونَ الْخَلْقَ فِيهَا ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَبَّدُ بِغَارِ حِرَاءٍ ، وَيَمْكُثُ فِيهِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ وَقَدْ خَرَجَ مُهَاجِرًا إلَى رَبِّهِ ، هَارِبًا من قَوْمِهِ ، فَارًّا بِدِينِهِ من الْفِتَنِ مَعَ أَصْحَابِهِ ، وَاسْتَحْصَنَ بِغَارِ ثَوْرٍ ، وَأَقَامَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ مَعَ الصِّدِّيقِ صَاحِبِهِ ، ثُمَّ أَمْضَى هِجْرَتَهُ ، وَأَنْفَذَ عَزْمَتَهُ حَتَّى انْتَهَى إلَى دَارِ هِجْرَتِهِ . وَقَدْ قِيلَ : أَرَادَ بِهِ السَّهْلَ وَالْجِبَالَ ، وَلَكِنَّهُ حَذَفَ أَحَدَهُمَا لِدَلَالَةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
وَمَا أَدْرِي إذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا *** أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي
أَأَلْخَيْرُ الَّذِي أَنَا مُبْتَغِيهِ *** أَمْ الشَّرُّ الَّذِي هُوَ يَبْتَغِينِي
وَكَمَا قَالَ فِي الْحَرِّ بَعْدَ هَذَا : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ } ، أَرَادَ وَالْبَرْدَ ، فَحُذِفَ ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ أَحَدُهُمَا بَقِيَ الْآخَرُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ } ، وَالسِّرْبَالُ : كُلُّ مَا سَتَرَ بِاللِّبَاسِ من ثَوْبٍ من صُوفٍ أَوْ وَبَرٍ أَوْ شَعْرٍ أَوْ قُطْنٍ أَوْ كَتَّانٍ . وَهَذِهِ نِعْمَةٌ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى الْآدَمِيِّ فَإِنَّهُ خَلَقَهُ عَارِيًّا ، ثُمَّ جَعَلَهُ بِنِعْمَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَاسِيًا ؛ وَسَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ سَرَابِيلُهَا جُلُودُهَا أَوْ مَا يَكُونُ من صُوفٍ أَوْ شَعْرٍ أَوْ وَبَرٍ عَلَيْهَا ؛ فَشَرَّفَ الْآدَمِيَّ بِأَنْ كُسِيَ من أَجْزَاءٍ سِوَاهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } ، يَعْنِي : دُرُوعَ الْحَرْبِ ؛ مَنَّ اللَّهُ بِهَا عَلَى الْعِبَادِ عُدَّةً لِلْجِهَادِ ، وَعَوْنًا عَلَى الْأَعْدَاءِ ، وَعَلَّمَهَا ، كَمَا عَلَّمَ صَنْعَةَ غَيْرِهَا ، وَلَبِسَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ ظَاهَرَ يَوْمَ أُحُدٍ بَيْنَ دِرْعَيْنِ ، تُقَاةَ الْجِرَاحَةِ ، وَإِنْ كَانَ يَطْلُبُ الشَّهَادَةَ ، كَمَا يَعُدُّ السَّيْفَ وَالرُّمْحَ وَالسَّهْمَ لِلْقَتْلِ بِهَا لِغَيْرِهِ ، وَالْمُدَافَعَةِ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ ، ثُمَّ يُنْفِذُ اللَّهُ مَا شَاءَ من حُكْمِهِ ، وَلَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَطْلُبَ الشَّهَادَةَ بِأَنْ يَسْتَقْتِلَ مَعَ الْأَعْدَاءِ ، وَلَا بِأَنْ يَسْتَسْلِمَ لِلْحُتُوفِ ، وَلَكِنَّهُ يُقَاتِلُ لِتَكُونَ كَلِمَةَ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ، وَيَأْخُذُ حِذْرَهُ ، وَيَسْأَلُ اللَّهَ الشَّهَادَةَ خَالِصًا من قَلْبِهِ ، وَيُعْطِيه اللَّهُ بَعْدُ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ : { لَعَلَّكُمْ تَسْلَمُونَ } ، بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهَا كَذَلِكَ ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِالضَّمِّ ، فَمَعْنَاهُ : لَعَلَّكُمْ تَنْقَادُونَ إلَى طَاعَتِهِ شُكْرًا عَلَى نِعْمَتِهِ .