الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي ذِكْرِ الْعَهْدِ وَالْوَفَاءِ بِهِ : وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَائِدَةِ وَالرَّعْدِ شَرْحُهُ ، وَأَشَرْنَا إلَيْهِ حَيْثُ وَقَعَ ذِكْرُهُ بِمَا أَمْكَنَ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } :
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ : أَمَّا التَّوْكِيدُ فَهُوَ حَلِفُ الْإِنْسَانِ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مِرَارًا ، يُرَدِّدُ فِيهِ الْأَيْمَانَ يَمِينًا بَعْدَ يَمِينٍ ، كَقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَا أَنْقُصُهُ من كَذَا وَكَذَا ، يَحْلِفُ بِذَلِكَ مِرَارًا ثَلَاثَةً أَوْ أَكْثَرَ من ذَلِكَ ، فَقَالَ : كَفَّارَةُ ذَلِكَ وَاحِدَةٌ ، إنَّمَا عَلَيْهِ مِثْلُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ .
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ : هِيَ فِي الْعُهُودِ ، وَالْعَهْدُ يَمِينٌ ، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَهْدَ لَا يُكَفِّرُ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اسْتِهِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ ، يُقَالُ : هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ ) .
وَأَمَّا الْيَمِينُ ، فَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ فِيهَا الْكَفَّارَةَ مُخَلِّصَةً مِنْهَا ، وَحَالَّةُ مَا انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ . وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : التَّوْكِيدُ فِي الْيَمِينِ الْمُكَرَّرَةِ هُوَ أَنْ يَحْلِفَ مَرَّتَيْنِ ، فَإِنْ حَلَفَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ . وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ ، وَأَوْضَحْنَا صِحَّةَ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ ، وَضَعْف هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَن ابْنِ عُمَرَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إنْ كَرَّرَ الْيَمِينَ مِرَارًا ، أَوْ كَثَّرَهَا أَعْدَادًا ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ التَّأْكِيدَ مَعَ التَّوْحِيدِ ، أَوْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ التَّأْكِيدَ مَعَ تَثْنِيَةِ الْيَمِينِ ، فَإِنْ قَصَدَ بِذَلِكَ التَّأْكِيدَ مَعَ التَّوْحِيدِ ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ كَانَ قَصَدَ التَّوْكِيدَ مَعَ تَثْنِيَةِ الْيَمِينِ ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : تَكُونُ يَمِينَيْنِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : تَكُونُ يَمِينًا وَاحِدَةً إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ كَفَّارَتَيْنِ . وَتَعَلَّقَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهَا تَثْنِيَةُ يَمِينٍ ، فَتَثْنِيَةُ الْكَفَّارَةِ أَصْلٌ ، فَلَهُ أَنْ يَعْقِدَهَا بِذَلِكَ .
وَعَوَّلَ مَالِكٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَصَدَ الْكَفَّارَةَ فَيَلْزَمُهُ مَا الْتَزَمَ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْصِدْ الْكَفَّارَةَ ، وَإِنَّمَا قَصَدَ إلَى تَثْنِيَةِ الْيَمِينِ ، فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى كَفَّارَتَيْنِ كَمَا لَوْ حَلَفَ بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَوْ شَيْئَيْنِ ، فَإِنَّ كَفَّارَةً وَاحِدَةً تُجْزِيهِ .