الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَدَاوُد وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ وَالنَّسَائِيُّ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ } .
فِيهَا ثَمَانِي عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { وَدَاوُد وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ } :
لَمْ يُرِدْ - إذْ جَمَعَهُمَا فِي الْقَوْلِ - اجْتِمَاعَهُمَا فِي الْحُكْمِ ، فَإِنَّ حَاكِمَيْنِ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ لَا يَجُوزُ ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ ؛ وَإِنَّمَا حَكَمَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادٍ بِحُكْمٍ ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ هُوَ الْفَاهِمُ لَهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي دُسْتُورٍ فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ :
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ لِرَسُولِهِ مَا جَرَى من الْأُمَمِ وَعَلَيْهَا ، وَأَقْوَالَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَفْعَالَهَا ، فَأَحْسَنَ الْقَصَصَ وَهُوَ أَصْدَقُهُ ؛ فَإِنَّ الإسرائليات ذَكَرُوهَا مُبَدَّلَةً وَبِزِيَادَةٍ بَاطِلَةٍ مَوْصُولَةٍ ، أَوْ بِنُقْصَانٍ مُحَرَّفٍ لِلْمَقْصِدِ مَنْقُولَةٍ ، وَمَا نُقِلَ من حَدِيثِ نَفْشِ الْغَنَمِ ، وَقَضَاءِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ فِيهَا ، اُنْظُرُوا إلَيْهِ ، فَمَا وَافَقَ مِنْهُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ فَهُوَ صَحِيحٌ ، وَمَا خَالَفَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ ، وَمَا لَمْ يَرِدْ لَهُ فِيهِ ذِكْرٌ فَهُوَ مُحْتَمَلٌ ، رَبُّك أَعْلَمُ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي ذِكْرِ وَصْفِ مَا قَضَاهُ النَّبِيَّانِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ فِيهِ :
وَفِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَانَ زَرْعًا وَقَعَتْ فِيهِ الْغَنَمُ لَيْلًا ، قَالَهُ قَتَادَةُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ كَانَ كَرْمًا نَبَتَتْ عَنَاقِيدُهُ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَشُرَيْحٍ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّفْشَ رَعْيُ اللَّيْلِ ، وَالْهَمَلَ رَعْيُ النَّهَارِ ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي ذِكْرِ وَصْفِ قَضَائِهِمَا :
أَمَّا حُكْمُ دَاوُد فَإِنَّهُ يُرْوَى أَنَّهُ قَضَى لِصَاحِبِ الْحَرْثِ بِالْغَنَمِ . وَأَمَّا حُكْمُ سُلَيْمَانَ فَإِنَّهُ قَضَى بِأَنْ تُدْفَعَ الْغَنَمُ لِصَاحِبِ الْحَرْثِ عَلَّه يَغْتَلُّهَا ، وَيُدْفَعَ الْحَرْثُ إلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ لِيَقُومَ بِعِمَارَتِهِ ، فَإِذَا عَادَ فِي السَّنَةِ الْمُقْبِلَةِ إلَى مِثْلِ حَالَتِهِ رُدَّ إلَى كُلِّ أَحَدٍ مَالُهُ ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، فَرَجَعَ دَاوُد إلَى حُكْمِ سُلَيْمَانَ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي صِفَةِ حُكْمِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا :
رَوَى الزُّهْرِيُّ ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَحَرَامُ بْنُ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ ( أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ دَخَلَتْ حَائِطًا ، فَأَفْسَدَتْ ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظُهَا بِالنَّهَارِ ، وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتْ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ ضَامِنٌ عَلَى أَهْلِهَا ) . وَفِي رِوَايَةٍ : ( وَعَلَى أَهْلِ الْمَوَاشِي حِفْظُهَا بِاللَّيْلِ ) . وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا كَلَامَ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فِي هَذِهِ دَلِيلٌ عَلَى رُجُوعِ الْقَاضِي عَمَّا حَكَمَ بِهِ ، إذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْحَقَّ فِي غَيْرِهِ ، وَهَكَذَا فِي رِسَالَةِ عُمَرَ إلَى أَبِي مُوسَى : فَأَمَّا أَنْ يَنْظُرَ قَاضٍ فِيمَا حَكَمَ بِهِ قَاضٍ فَلَا يَجُوزُ لَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَدَاعَى إلَى مَا لَا آخِرَ لَهُ ، وَفِيهِ مَضَرَّةٌ عُظْمَى من جِهَةِ نَقْضِ الْأَحْكَامِ ، وَتَبْدِيلِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ ، وَعَدَمِ ضَبْطِ قَوَانِينِ الْإِسْلَامِ ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَحَدٌ من الْخُلَفَاءِ إلَى نَقْضِ مَا رَآهُ الْآخَرُ ، وَإِنَّمَا كَانَ يَحْكُمُ بِمَا يَظْهَرُ إلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إنَّ دَاوُد لَمْ يَكُنْ أَنْفَذَ الْحُكْمَ ، وَظَهَرَ لَهُ مَا قَالَ غَيْرُهُ .
وَقَالَ آخَرُونَ : لَمْ يَكُنْ حُكْمًا ، وَإِنَّمَا كَانَتْ فُتْيَا ؛ فَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ ذَلِكَ من دَاوُد كَانَ فُتْيَا فَهُوَ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ النَّبِيُّ ، وَفُتْيَاهُ حُكْمٌ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ الْآخَرُ : إنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَنْفَذَ الْحُكْمَ فَظَهَرَ لَهُ مَا قَالَ غَيْرُهُ . فَهُوَ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : { إذْ يَحْكُمَانِ } ، فَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ قَدْ حَكَمَ ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ : إنَّ الْفُتْيَا حُكْمٌ ، وَهُوَ صَحِيحٌ لَفْظًا ، وَفِي بَعْضِ الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُقَلِّدَ قَوْلُهُ ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُجْتَهِدَ قَوْلُ غَيْرِهِ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ اللَّهَ أَوْحَى أَنَّ الْحُكْمَ حُكْمُ سُلَيْمَانَ ، فَعَلَى هَذَا كَانَ الْقَضَاءُ من اللَّهِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ . وَهَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَجُوزُ لَهُمْ الْحُكْمُ بِالِاجْتِهَادِ ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ التَّمْحِيصِ أَنَّ اجْتِهَادَهُمْ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ ، فَلَا إحَالَةَ فِي أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا إذَا عُدِمَ النَّصُّ ، وَهُمْ لَا يَعْدَمُونَهُ ، لِأَجْلِ نُزُولِ الْمَلَكِ .
قُلْنَا : إذَا لَمْ يَنْزِلْ الْمَلَكُ فَقَدْ عَدِمُوا النَّصَّ .
جَوَابٌ آخَرُ : وَذَلِكَ أَنَّهُ عِنْدَنَا دَلِيلٌ مَعَ عَدَمِ النَّصِّ ، وَعِنْدَهُمْ هُوَ دَلِيلٌ مَعَ وُجُودِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : فِي تَحْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كُلِّهَا :
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا إشْكَالَ فِي أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ ، لَكِنَّ الْمَوَاشِيَ جَاءَ فِيهَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ ) . فَحَكَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ فِعْلَ الْبَهَائِمِ هَدَرٌ ، وَهَذَا عُمُومٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ سَنَدًا وَمَتْنًا ؛ وَحَدِيثُ نَاقَةِ الْبَرَاءِ خَاصٌّ ، وَمَا قَضَى بِهِ دَاوُد وَسُلَيْمَانُ غَيْرُ مَعْلُومٍ عَلَى التَّعْيِينِ مِمَّنْ يَقْطَعُ بِصِدْقِهِ ، فَتَعَيَّنَ أَنْ نَعْتَنِيَ بِشَرْعِنَا ، فَنَقُولَ :
لَا خِلَافَ أَنَّ الْعَامَّ يَقْضِي عَلَيْهِ الْخَاصُّ ، وَقَضَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاقَةِ الْبَرَاءِ بِأَنَّ حِفْظَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ بِالنَّهَارِ عَلَى أَرْبَابِهَا ؛ لِمَا عَلَى أَهْلِ الْمَوَاشِي من الْمَشَقَّةِ فِي حِفْظِهَا بِالنَّهَارِ ، وَبِأَنَّ حِفْظَ الْكُلِّ بِاللَّيْلِ عَلَى أَرْبَابِ الْمَوَاشِي ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ من حِفْظِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ شَاقٌّ عَلَى أَرْبَابِهَا ، فَجَرَى الْحُكْمُ عَلَى الْأَوْفَقِ وَالْأَسْمَحِ بِمُقْتَضَى الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ ، وَمَجْرَى الْمَصْلَحَةِ ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوْفَقَ لِلْفَرِيقَيْنِ ، وَأَسْهَلَ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ ، وَأَحْفَظَ لِلْمَالِكَيْنِ .
وَلَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ ؛ لِمَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّينَ الْمُتَقَدِّمِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ فِي أَصْلِ الضَّمَانِ ، وَإِنَّمَا هُوَ خِلَافٌ فِي صِفَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ : لَا ضَمَانَ عَلَى أَرْبَابِ الْمَوَاشِي فِيمَا أَصَابَتْ بِالنَّهَارِ .
وَقَالَ اللَّيْثُ : يَضْمَنُ أَرْبَابُ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا أَفْسَدَتْ الْمَوَاشِي لَيْلًا أَوْ نَهَارًا لَمْ يَكُنْ عَلَى صَاحِبِهَا ضَمَانٌ . وَتَحْقِيقُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ مَعْنَى حَدِيثِ ( الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ ) وَهَذَا يَنْفِي الضَّمَانَ كُلَّهُ ، وَمَعْنَى حَدِيثِ الْبَرَاءِ ، وَهُوَ نَصٌّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، فَوَجَبَ تَخْصِيصُ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بِحَدِيثِ الْعَجْمَاءِ ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا بِقَضَاءِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ نَصٌّ ، فَنَقُولُ : إنَّهُ يُعَارِضُ هَذَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا ، فَيُفْتَقَرُ حِينَئِذٍ إلَى الْكَلَامِ عَلَيْهِ ، وَالتَّرْجِيحِ فِيهِ ؛ فَوَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَهَا وَقْفَ بِنَاءِ النَّصِّ عَلَيْهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا قُلْنَا : إنَّ أَرْبَابَ الْمَوَاشِي يَضْمَنُونَ مَا أَفْسَدَتْ مَاشِيَتُهُمْ بِاللَّيْلِ ، فَإِنَّهُمْ يَضْمَنُونَ قِيمَةَ الزَّرْعِ عَلَى رَجَاءِ أَنْ يَتِمَّ أَوْ لَا يَتِمّ ؛َ قَالَ عَنْهُ مُطَرِّفٌ ، وَلَا يَسْتَأْنِي بِالزَّرْعِ أَنْ يَنْبُتَ أَوْ لَا يَنْبُتَ كَمَا يَفْعَلُ فِي سِنِّ الصَّغِيرِ .
وَقَالَ عِيسَى ، عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ : قِيمَتُهُ لَوْ حَلَّ بَيْعُهُ .
وَقَالَ أَشْهَبُ ، وَابْنُ نَافِعٍ عَنْهُ فِي الْمَجْمُوعَةِ : وَإِنْ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ .
وَالْأَوَّلُ أَقْوَى ؛ لِأَنَّهَا صِفَتُهُ ، فَيُقَوَّمُ كَذَلِكَ لَوْ تَمَّ أَوْ لَمْ يَتِمَّ ، كَمَا يُقَوَّمُ كُلُّ مُتْلَفٍ عَلَى صِفَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا أَفْسَدَتْ الْمَوَاشِي ذَلِكَ فَعَلَى أَرْبَابِهَا قِيمَةُ مَا أَفْسَدَتْ ، وَإِنْ زَادَ عَلَى قِيمَتِهَا .
وَقَالَ اللَّيْثُ : تَسْقُطُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْقِيمَةِ ، وَهَذَا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ إنَّمَا هِيَ عَلَى أَرْبَابِ الْمَوَاشِي ، وَلَيْسَتْ عَلَى الْمَوَاشِي ، وَتُخَالِفُ هَذَا جِنَايَةُ الْعَبْدِ ، فَإِنَّهَا عَلَيْهِ ، فَيَحْمِلُ السَّيِّدُ مِنْهَا إنْ أَرَادَ فِدَاءَهُ قِيمَتَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : لَوْ لَمْ يُقْضَ فِي الْمُفْسِدِ بِشَيْءٍ حَتَّى نَبَتَ أَوْ انْجَبَرَ فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ مَنْفَعَةُ رَعْيٍ أَوْ شَيْءٍ ضَمِنَ تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَلَا ضَمَانَ رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ .
وَقَالَ أَصْبَغُ : يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ قَدْ تَحَقَّقَ ، وَالْجَبْرُ لَيْسَ من جِهَتِهِ ، فَلَا يُعْتَدُّ لَهُ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَالَ أَصْبَغُ فِي الْمَدِينَةِ : لَيْسَ لِأَهْلِ الْمَوَاشِي أَنْ يُخْرِجُوا مَوَاشِيَهُمْ إلَى قُرَى الزَّرْعِ بِغَيْرِ ذُوَّادٍ ، فَرَكَّبَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا أَنَّ الْبُقْعَةَ لَا تَخْلُو أَنْ تَكُونَ بُقْعَةَ زَرْعِ أَوْ بُقْعَةَ سَرْحٍ ، فَإِنْ كَانَتْ بُقْعَةَ زَرْعٍ فَلَا تَدْخُلُهَا مَاشِيَةٌ إلَّا مَاشِيَةً تُحْتَاجُ فِي الزَّرْعِ ، وَعَلَى أَرْبَابِهَا حِفْظُهَا ، وَمَا أَفْسَدَتْ فَصَاحِبُهَا ضَامِنٌ عَلَى أَهْلِهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا ، وَإِنْ كَانَتْ بُقْعَةَ سَرْحٍ فَعَلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ الَّذِي يَحْرُثُهُ فِيهَا حِفْظُهُ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى أَرْبَابِ الْمَوَاشِي .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَالَ أَشْهَبُ ، وَابْنُ نَافِعٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ : سَوَاءٌ كَانَتْ الثِّمَارُ وَالزُّرُوعُ مُحْظَرًا عَلَيْهَا أَوْ بِغَيْرِ حِظَارٍ ، وَلَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِالْحِظَارِ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : يَخْتَلِفُ . وَهَذَا أَصْوَبُ ؛ فَإِنَّ الْعَجْمَاءَ لَا يَرُدُّهَا حِظَارٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : الْمَوَاشِي عَلَى قِسْمَيْنِ ضَوَارِي ، وَحَرِيسَةٌ ، وَعَلَيْهَا قَسَّمَهَا مَالِكٌ ، فَالضَّوَارِي هِيَ الْمُعْتَادَةُ لِلزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ ، فَقَالَ مَالِكٌ : تُغَرَّبُ وَتُبَاعُ فِي بَلَدٍ لَا زَرْعَ فِيهِ رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ .
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ رَبُّهَا ، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي الدَّابَّةِ الَّتِي ضَرِيَتْ إفْسَادَ الزَّرْعِ : تُغَرَّبُ وَتُبَاعُ .
وَأَمَّا مَا يُسْتَطَاعُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فَلَا يُؤْمَرُ صَاحِبُهُ بِإِخْرَاجِهِ ، هَذَا بَيِّنٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَالَ أَصْبَغُ : النَّحْلُ ، وَالْحَمَامُ ، وَالْإِوَزُّ ، وَالدَّجَاجُ ، كَالْمَاشِيَةِ ، لَا يُمْنَعُ صَاحِبُهَا من اتِّخَاذِهَا ، وَإِنْ أَضَرَّتْ ، وَعَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ حِفْظُ زُرُوعِهِمْ .
وَهَذِهِ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِمَّا لَا يَضُرُّ بِغَيْرِهِ مُكِّنَ مِنْهُ ، وَأَمَّا انْتِفَاعُهُ بِمَا يَتَّخِذُهُ بِإِضْرَارِهِ بِأَحَدٍ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ ، وَهَذِهِ الضَّوَارِي عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمَدِينَةِ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى أَرْبَابِهَا إلَّا بَعْدَ التَّقَدُّمِ . وَأَرَى الضَّمَانَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ التَّقَدُّمِ ، إذَا كَانَتْ ضَوَارِيَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَالَ الْحَسَنُ : لَوْلَا هَذِهِ الْآيَةُ لَرَأَيْت الْقُضَاةَ قَدْ هَلَكُوا ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى أَثْنَى عَلَى سُلَيْمَانَ بِصَوَابِهِ ، وَعَذَرَ دَاوُد بِاجْتِهَادِهِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفُرُوعِ إذَا اخْتَلَفُوا ، هَلْ الْحَقُّ فِي قَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ ، أَمْ جَمِيعُ أَقْوَالِهِمْ حَقٌّ ؟
وَاَلَّذِي نَرَاهُ أَنَّ جَمِيعَهَا حَقٌّ لِقَوْلِهِ : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } . وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ التَّمْحِيصِ ، فَلْيُنْظَرْ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .