الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُد وَقَالَ يَأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا من كُلِّ شَيْءٍ إنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ ) . وَأَنَّهُ قَالَ : ( إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا ، إنَّمَا وَرَّثُوا عِلْمًا ) . وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُد } قُلْنَا ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَرَادَ بِالْإِرْثِ هَاهُنَا نُزُولَهُ مَنْزِلَتَهُ فِي النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ ، وَكَانَ لِدَاوُدَ تِسْعَةَ عَشَرَ وَلَدًا ذَكَرًا وَأُنْثَى ، فَخَصَّ سُلَيْمَانَ بِالذِّكْرِ ، وَلَوْ كَانَتْ وِرَاثَةَ مَالٍ لَانْقَسَمَتْ عَلَى الْعَدَدِ ، فَخَصَّهُ بِمَا كَانَ لِدَاوُدَ ، وَزَادَهُ من فَضْلِهِ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ من بَعْدِهِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ } :
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْقَوْلُ فِي مَنْطِقِ الطَّيْرِ ، وَهُوَ صَوْتٌ تَتَفَاهَمُ بِهِ فِي مَعَانِيهَا عَلَى صِيغَةٍ وَاحِدَةٍ ، بِخِلَافِ مَنْطِقِنَا ، فَإِنَّهُ عَلَى صِيَغٍ مُخْتَلِفَةٍ ، نَفْهَمُ بِهِ مَعَانِيَهَا .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَفِي الْمُوَاضَعَاتِ غَرَائِبُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ صَوْتَ الْبُوقِ تُفْهَمُ مِنْهُ أَفْعَالٌ مُخْتَلِفَةٌ من حَلٍّ وَتَرْحَالٍ ، وَنُزُولٍ وَانْتِقَالٍ ، وَبَسْطٍ وَرَبْطٍ ، وَتَفْرِيقٍ وَجَمْعٍ ، وَإِقْبَالٍ وَإِدْبَارٍ ، بِحَسْبِ الْمُوَاضَعَةِ وَالِاصْطِلَاحِ .
وَقَدْ كَانَ صَاحِبُنَا مُمَوَّسٌ الدُّرَيْدِيُّ يَقْرَأُ مَعَنَا بِبَغْدَادَ ، وَكَانَ من قَوْمٍ كَلَامُهُمْ حُرُوفُ الشَّفَتَيْنِ ، لَيْسَ لِحُرُوفِ الْحَلْقِ عِنْدَهُمْ أَصْلٌ .
فَجَعَلَ اللَّهُ لِسُلَيْمَانَ مُعْجِزَةَ فَهْمِ كَلَامِ الطَّيْرِ وَالْبَهَائِمِ وَالْحَشَرَاتِ ؛ وَإِنَّمَا خَصَّ الطَّيْرَ لِأَجْلِ سَوْقِ قِصَّةِ الْهُدْهُدِ بَعْدَهَا . أَلَا تَرَاهُ كَيْفَ ذَكَرَ قِصَّةَ النَّمْلِ مَعَهَا ، وَلَيْسَتْ من الطَّيْرِ .
وَلَا خِلَافَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ كُلَّهَا لَهَا أَفْهَامٌ وَعُقُولٌ .
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : الْحَمَامُ أَعْقَلُ الطَّيْرِ . وَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِيِّينَ : اُنْظُرُوا إلَى النَّمْلَةِ كَيْفَ تُقَسِّمُ كُلَّ حَبَّةٍ تَدَّخِرُهَا نِصْفَيْنِ لِئَلَّا يَنْبُتَ الْحَبُّ ، إلَّا حَبَّ الْكُزْبَرَةِ فَإِنَّهَا تُقَسِّمُ الْحَبَّةَ مِنْهُ عَلَى أَرْبَعٍ ، لِأَنَّهَا إذَا قُسِّمَتْ بِنِصْفَيْنِ تَنْبُتُ ، وَإِذَا قُسِّمَتْ بِأَرْبَعَةِ أَنْصَافٍ لَمْ تَنْبُتْ . وَهَذِهِ من غَوَامِضِ الْعُلُومِ عِنْدَنَا ، وَأَدْرَكَتْهَا النَّمْلُ بِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ لَهَا .
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْمُظَفَّرِ شَاهْ نُورٍ الْإسْفَرايِينِيّ : وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تُدْرِكَ الْبَهَائِمُ حُدُوثَ الْعَالَمِ ، وَخَلْقَ الْمَخْلُوقَاتِ ، وَوَحْدَانِيَّةَ الْإِلَهِ ، وَلَكِنَّا لَا نَفْهَمُ عَنْهُمْ ، وَلَا تَفْهَمُ عَنَّا ، أَمَّا أَنَّا نَطْلُبُهَا وَهِيَ تَفِرُّ مِنَّا فَبِحُكْمِ الْجِنْسِيَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ سُلَيْمَانَ النَّبِيَّ مَرَّ عَلَى قَصْرٍ بِالْعِرَاقِ ، فَإِذَا فِيهِ كِتَابٌ :
خَرَجْنَا من قُرَى إصْطَخْرِ *** إلَى الْقَصْرِ فَقُلْنَاهُ
فَمَنْ سَالَ عَنْ الْقَصْرِ *** فَمَبْنِيًّا وَجَدْنَاهُ
وَعَلَى الْقَصْرِ نَسْرٌ ، فَنَادَاهُ سُلَيْمَانُ ، فَأَقْبَلَ إلَيْهِ ، فَقَالَ : مُذْ كَمْ أَنْتَ هَاهُنَا ؟ قَالَ : مُذْ تِسْعِمِائَةِ سَنَةٍ . وَوَجَدْت الْقَصْرَ عَلَى هَيْئَتِهِ .
قَالَ الْقَاضِي : قَرَأْت بِمَدِينَةِ السَّلَامِ عَلَى أَبِي بَكْرِ النَّجِيبِ بْنِ الْأَسْعَدِ قَالَ : أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فَتُّوحٍ الرُّصَافِيُّ ، أَنْبَأَنَا الْخَطِيبُ أَبُو بَكْرٍ الْحَافِظُ ، حَدَّثَنِي أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرِّفَاعِيُّ ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ بِأَصْبَهَانَ ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أُسَيْدَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْغَلَّابِيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى الْإِفْرِيقِيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ، وَعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ : كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد يَرْكَبُ الرِّيحَ من إصْطَخْرَ فَيَتَغَدَّى بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَتَعَشَّى بِإِصْطَخْرِ . فَقَالَ : إنَّ ابْنَ حَبِيبٍ أَدْرَكَ مَالِكًا ، وَمَا أَرَاهُ وَلَا هَذَا الْحَدِيثَ إلَّا مَقْطُوعًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَرَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( نَزَلَ نَبِيٌّ من الْأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ ، فَأَمَرَ بِجِهَازِهِ فَأُخْرِجَ من تَحْتِهَا ، ثُمَّ أَمَرَ بِبَيْتِهَا فَأُحْرِقَ ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً ) .