الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاَلَّذِي أُنْزِلَ إلَيْنَا وَأُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ قَتَادَةُ : وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ ، فَإِنَّهُ رَفَعَ الْجِدَالَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَدْ بَيَّنَّا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي أَنَّهَا لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً ، وَإِنَّمَا هِيَ مَخْصُوصَةٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بُعِثَ بِاللِّسَانِ يُقَاتِلُ بِهِ فِي اللَّهِ ، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ بِالسَّيْفِ وَاللِّسَانِ ، حَتَّى قَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَى الْخَلْقِ لِلَّهِ ، وَتَبَيَّنَ الْعِنَادُ ، وَبَلَغَتْ الْقُدْرَةُ غَايَتَهَا عَشْرَةَ أَعْوَامٍ مُتَّصِلَةٍ ، فَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ قَتَلَ ، وَمَنْ امْتَنَعَ بَقِيَ الْجِدَالُ فِي حَقِّهِ ؛ وَلَكِنْ بِمَا يَحْسُنُ من الْأَدِلَّةِ ، وَيَجْمُلُ من الْكَلَامِ ؛ بِأَنْ يَكُونَ مِنْك لِلْخَصْمِ تَمْكِينٌ ، وَفِي خِطَابِك لَهُ لِينٌ ، وَأَنْ تَسْتَعْمِلَ من الْأَدِلَّةِ أَظْهَرَهَا ، وَأَنْوَرَهَا ، وَإِذَا لَمْ يَفْهَمْ الْمُجَادِلُ أَعَادَ عَلَيْهِ الْحُجَّةَ وَكَرَّرَهَا ، كَمَا فَعَلَ الْخَلِيلُ مَعَ الْكَافِرِ حِينَ قَالَ لَهُ إبْرَاهِيمُ : " رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ " َقَالَ لَهُ الْكَافِرُ : أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ، فَحَسُنَ الْجِدَالُ ، وَنَقَلَ إلَى أَبَيْنَ مِنْهُ بِالِاسْتِدْلَالِ . وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ من الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا من الْمَغْرِبِ . وَهُوَ انْتِقَالٌ من حَقٍّ إلَى حَقٍّ أَظْهَرَ مِنْهُ ، وَمِنْ دَلِيلٍ إلَى دَلِيلٍ أَبْيَنَ مِنْهُ وَأَنْوَرَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا }
فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَهْلُ الْحَرْبِ .
الثَّانِي : مَانِعُو الْجِزْيَةِ .
الثَّالِثُ : مَنْ بَقِيَ عَلَى الْمُعَانَدَةِ بَعْدَ ظُهُورِ الْحُجَّةِ .
الرَّابِعُ : الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي جِدَالِهِمْ ، بِأَنْ خَلَطُوا فِي إبْطَالِهِمْ .
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ مُرَدَّدَةٌ ، وَقَدْ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُجَادَلَاتٌ مَعَ الْمُشْرِكِينَ ، وَمَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَآيَاتُ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ ، وَهِيَ أَثْبَتُ فِي الْمَعْنَى .
وَقَدْ قَالَ لِلْيَهُودِ : { إنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً من دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } . فَمَا أَجَابُوا جَوَابًا .
وَقَالَ لَهُمْ : { إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ من تُرَابٍ } ؛ أَيْ إنْ كُنْتُمْ أَبْعَدْتُمْ وَلَدًا بِغَيْرِ أَبٍ فَخُذُوا وَلَدًا دُونَ أَبٍ وَلَا أُمٍّ .
وَقَالَ : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا } .
وَقَالَ : { وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } .
وَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي حُصَيْنٍ : ( يَا حُصَيْنُ ؛ كَمْ إلَهًا تَعْبُدُ الْيَوْمَ ، قَالَ : إنِّي أَعْبُدُ سَبْعَةً ، وَاحِدًا فِي السَّمَاءِ ، وَسِتًّا فِي الْأَرْضِ : قَالَ : فَأَيُّهُمْ تُعِدُّ لِرَغْبَتِك وَرَهْبَتِك ، قَالَ : الَّذِي فِي السَّمَاءِ . قَالَ : يَا حُصَيْنُ ، أَمَا إنَّك إنْ أَسْلَمْت عَلَّمْتُك ) . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .