قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيل اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } .
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى : { لَهْوَ الْحَدِيثِ } : هو الغِنَاءُ وما اتّصل به : فرَوى الترمذي والطبري وغيرهما عن أبي أُمامة الباهلي أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يحل بَيْع المغنيات ، ولا شراؤهنّ ، ولا التجارة فيهن ، ولا أثمانهن ) ؛ وفيهن أنزل الله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ ليُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ . . . } الآية .
وروى عَبْدُ الله بن المبارك عن مالك بن أَنَس ، عن محمد بن المنكدر ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ جلس إلى قَيْنَة يسمَعُ منها صُبَّ في أُذُنَيه الآنُك يوم القيامة ) .
وروى ابنُ وهب ، عن مالك بن أنس ، عن محمد بن المنكدر أنّ الله يقول يوم القيامة : «أَيْنَ الذين كانوا ينزّهون أنفسهم وأسماعَهم عن اللهو ومَزَامير الشيطان ؟ ادخلوهم في رياض المسك » . ثم يقول للملائكة : أسمعوهم حَمْدِي وشُكري ، وثنائي عليهم ، وأخبروهم أن لا خَوْفَ عليهم ولا هم يحزنون .
ومن رواية مكحول ، عن عائشة ، قالت : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ( من مات وعنده جارية مغنّيةٌ فلا تصلّوا عليه ) .
الثاني : أنه الباطل .
الثالث : أنه الطبل ؛ قاله الطبري .
المسألة الثانية : في سبب نزولها :
وفيه قولان :
أحدهما : أنها نزلت في النضْرِ بن الحارث ، كان يجلس بمكة ، فإذا قالت قريش : إِنّ محمداً قال كذا وكذا ضحك منه ، وحدّثهم بأحاديث ملوكِ الفرس ، ويقول : حديثي هذا أحسَنُ من قُرْآن محمد .
الثاني : أنها نزلت في رجل من قريش اشترى جاريةً مغنية ، فشُغل الناسُ بِلَهْوِهَا عن استماع النبي صلى الله عليه وسلم .
المسألة الثالثة :
هذه الأحاديثُ التي أوردناها لا يصح منها شيء بحال ، لعدم ثِقَةِ نَاقِلِيها إلى من ذكر من الأعيان فيها .
وأصحُّ ما فيه قولُ مَنْ قال : إنه الباطل .
فأما قولُ الطبري : إنه الطبل فهو على قسمين : طبل حرب ، وطَبْل لَهْو ؛ فأما طبل الحرب فلا حرجَ فيه ؛ لأنه يقيم النفوس ، ويرهب على العدو ، وأما طبل اللَّهْوِ فهو كالدفّ . وكذلك آلات اللهو المشْهِرَة للنكاح يجوز استعمالها فيه ، لما يحسن مَنَ الكلام ، ويسلم من الرّفث .
وأما سماعُ القينات فقد بينا أنه يجوز للرجل أن يسمع غناءَ جاريته ، إذ ليس شيء منها عليه حراماً ، لا من ظاهرها ولا من باطنها ، فكيف يُمنع من التلذذ بصوتها ؟ ولم يجز الدف في العُرْس لعينه ، وإنما جاز لأنه يشهره ، فكلّ ما أشهره جاز .
وقد بينا جوازَ الزَّمر في العُرْس بما تقدم من قول أبي بكر : أَمِزْمَار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ( دعْهُما يا أبا بكر ؛ فإنه يوم عيد ) ؛ ولكن لا يجوز انكشافُ النساءِ للرجال ولا هَتْك الأستار ، ولا سماع الرّفَثِ ، فإذا خرج ذلك إلى ما لا يجوز منع من أوله ، واجتنب من أصله .