الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
يُرْوَى أَنَّ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ أَوْ الْعَاصِيَ بْنَ وَائِلٍ مَرَّ بِرِمَّةٍ بَالِيَةٍ فَأَخَذَهَا ، وَقَالَ : الْيَوْمَ أَغْلِبُ مُحَمَّدًا ، وَجَاءَ إلَيْهِ ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، أَنْتَ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ يُعِيدُ هَذَا كَمَا بَدَأَهُ ، وَفَتَّتَهُ بِيَدِهِ ، حَتَّى عَادَ رَمِيمًا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ } إلَى آخِرِ السُّورَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي الْعِظَامِ حَيَاةً ، وَأَنَّهُ يُنَجَّسُ بِالْمَوْتِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَحَلٍّ تَحِلُّ الْحَيَاةُ بِهِ فَيَخْلُفُهَا الْمَوْتُ يُنَجَّسُ وَيُحَرَّمُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } وَسَاعَدَنَا أَبُو حَنِيفَةَ فِيهِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا حَيَاةَ فِيهِ وَلَا يُنَجَّسُ بِالْمَوْتِ . وَقَدْ اضْطَرَبَ أَرْبَابُ الْمَذَاهِبِ فِيهِ ، وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ . فَإِنْ قِيلَ : أَرَادَ بِقَوْلِهِ : { مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ } يَعْنِي أَصْحَابَ الْعِظَامِ ، وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ مَقَامَ الْمُضَافِ إلَيْهِ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ مَوْجُودٌ فِي الشَّرِيعَةِ .
قُلْنَا : إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ لِضَرُورَةٍ ، وَلَيْسَ هَاهُنَا ضَرُورَةٌ تَدْعُو إلَى هَذَا الْإِضْمَارِ ، وَلَا يُفْتَقَرُ إلَى هَذَا التَّقْدِيرِ ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ الْكَلَامُ عَلَى الظَّاهِرِ ؛ إذْ الْبَارِي سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ بِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ ، وَالْحَقِيقَةُ تَشْهَدُ لَهُ ؛ فَإِنَّ الْإِحْسَاسَ الَّذِي هُوَ عَلَامَةُ الْحَيَاةِ مَوْجُودٌ فِيهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .