الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ من الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : الشَّرِيعَةُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الطَّرِيقِ إلَى الْمَاءِ ، ضُرِبَتْ مَثَلًا لِلطَّرِيقِ إلَى الْحَقِّ لِمَا فِيهَا من عُذُوبَةِ الْمَوْرِدِ ، وَسَلَامَةِ الْمَصْدَرِ ، وَحُسْنِهِ .
المسألة الثَّانِيَةُ : فِي الْمُرَادِ بِهَا من وُجُوهِ الْحَقِّ . وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْأَمْرَ الدِّينُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ السُّنَّةُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الْفَرَائِضُ .
الرَّابِعُ : النِّيَّةُ .
وَهَذِهِ كَلِمَةٌ أَرْسَلَهَا مَنْ لَمْ يَتَفَطَّنْ لِلْحَقَائِقِ ، وَالْأَمْرُ يَرِدُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَيَيْنِ :
أَحَدُهُمَا بِمَعْنَى الشَّأْنِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } . وَالثَّانِي أَنَّهُ أَحَدُ أَقْسَامِ الْكَلَامِ الَّذِي يُقَابِلُهُ النَّهْيُ ، وَكِلَاهُمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا هَاهُنَا ، وَتَقْدِيرُهُ ثُمَّ جَعَلْنَاك عَلَى طَرِيقَةٍ من الدِّينِ ، وَهِيَ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْك أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ من الْمُشْرِكِينَ } .
وَلَا خِلَافَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُغَايِرْ بَيْنَ الشَّرَائِعِ فِي التَّوْحِيدِ وَالْمَكَارِمِ وَالْمَصَالِحِ ، وَإِنَّمَا خَالَفَ بَيْنَهَا فِي الْفُرُوعِ بِحَسْبِ مَا عَلِمَهُ سُبْحَانَهُ .
المسألة الثَّالِثَةُ : ظَنَّ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْعِلْمِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شَرْعَ من قَبْلِنَا لَيْسَ بِشَرْعٍ لَنَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَفْرَدَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمَّتَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِشَرِيعَةٍ ؛ وَلَا نُنْكِرُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمَّتَهُ مُنْفَرِدَانِ بِشَرِيعَةٍ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ من شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَالْعِظَةِ ، هَلْ يَلْزَمُ اتِّبَاعُهُ أَمْ لَا ؟ وَلَا إشْكَالَ فِي لُزُومِ ذَلِكَ ، لِمَا بَيَّنَّاهُ من الْأَدِلَّةِ وَقَدَّمْنَاهَا هُنَا وَفِي مَوْضِعِهِ من الْبَيَانِ .