الآية العاشرة : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْبَخْسُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ هُوَ النَّقْصُ بِالتَّعْيِيبِ وَالتَّزْهِيدِ ، أَوْ الْمُخَادَعَةِ عَنْ الْقِيمَةِ ، أَوْ الِاحْتِيَالِ فِي التَّزَيُّدِ فِي الْكَيْلِ أَوْ النُّقْصَانِ مِنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إنَّمَا أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْأَمْوَالِ بِالْأَكْلِ بِالْحَقِّ ، وَالتَّعَامُلِ بِالصِّدْقِ ، وَطَلَبِ التِّجَارَةِ بِذَلِكَ ، فَمَتَى خَرَجَ عَنْ يَدِ أَحَدٍ شَيْءٌ من مَالِهِ بِعِلْمِهِ لِأَخِيهِ فَقَدْ أَكَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يُرْضِي اللَّهَ وَيَرْتَضِيهِ ؛ وَإِنْ خَرَجَ شَيْءٌ من مَالِهِ عَنْ يَدِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ مِمَّا لَا غِنى عَنْهُ فِي ارْتِفَاعِ الْأَسْوَاقِ وَانْخِفَاضِهَا عَنْهُ ؛ فَإِنَّهُ حَلَالٌ جَائِزٌ بِغَيْرِ خِلَافٍ ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ . وَإِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ من ذَلِكَ فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ ؛ فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا جَرَى ذَلِكَ فِي بَيْعٍ كَانَ صَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَمْضَاهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَآخَرُونَ غَيْرُهُمْ : إنَّهُ لَا رَدَّ فِيهِ .
وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ ؛ فَقَدْ ثَبَتَ ( أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِرَجُلٍ كَانَ يَخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ : إذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ ) .
وَفِي غَيْرِ الصَّحِيحِ : ( وَاشْتَرِطْ الْخِيَارَ ثَلَاثًا ) .
وَفِي رِوَايَةٍ : ( وَلَك الْخِيَارُ ثَلَاثًا ) .
فَإِنْ قِيلَ ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : كَانَ هَذَا الرَّجُلُ قَدْ أَصَابَتْهُ مَأْمُومَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَثَّرَتْ فِي عَقْلِهِ ، فَكَانَ يَخْدَعُ لِأَجْلِ ذَلِكَ فِي بَيْعِهِ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قَالَ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ من الْحَالِ ، حَتَّى كَانَ يَقُولُ لِمَا أَصَابَهُ : { لَا خِلَابَةَ لَا خِلَابَةَ } .
فَالْجَوَابُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ كَانَ الَّذِي قَالَهُ لَهُ من حُكْمِهِ لِمَا أَصَابَهُ من عَقْلِهِ لَمَا جَوَّزَ بَيْعَهُ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمَعْتُوهِ لَا يَجُوزُ بِخِيَارٍ ، وَلَا بِغَيْرِ خِيَارٍ ، وَلَكِنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يُصَرِّحَ عَنْ قَوْلِهِ ، حَتَّى يَقَعَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ .
الآية الحادية عشرة : قَوْله تَعَالَى : { لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ من خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } .
هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلْبَ وَقَطْعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ من خِلَافٍ كَانَتْ عُقُوبَةً مُتَأَصِّلَةً عِنْدَ الْخَلْقِ تَلَقَّفُوهَا من شَرْعٍ مُتَقَدِّمٍ فَحَرَّفُوهَا حَتَّى أَوْضَحَهَا اللَّهُ فِي مِلَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَجَعَلَهَا أَعْظَمَ الْعُقُوبَاتِ لِأَعْظَمِ الْإِجْرَامِ ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .