الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إبْرَاهِيمَ : { سَأَسْتَغْفِرُ لَك رَبِّي إنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } فَتَعَلَّقَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ فِي الِاسْتِغْفَارِ لِأَبِي طَالِبٍ ، إمَّا اعْتِقَادًا ، وَإِمَّا نُطْقًا بِذَلِكَ ، كَمَا وَرَدَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ ؟ فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ أَنَّ اسْتِغْفَارَ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ كَانَ عَنْ وَعْدٍ قَبْلَ تَبَيُّنِ الْكُفْرِ مِنْهُ ؛ فَلَمَّا تَبَيَّنَ الْكُفْرَ مِنْهُ تَبَرَّأَ مِنْهُ ، فَكَيْفَ تَسْتَغْفِرُ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ لِعَمِّك ، وَقَدْ شَاهَدْت مَوْتَهُ كَافِرًا ؟ وهي :
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : وَظَاهِرُ حَالِ الْمَرْءِ عِنْدَ الْمَوْتِ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِهِ فِي الْبَاطِنِ ، فَإِنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ حُكِمَ لَهُ بِالْإِيمَانِ ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ حُكِمَ لَهُ بِالْكُفْرِ ، وَرَبُّك أَعْلَمُ بِبَاطِنِ حَالِهِ ، بَيْدَ ( أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ هَلْ نَفَعْت عَمَّك بِشَيْءٍ ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُك وَيَحْمِيك ؟ قَالَ : سَأَلْت رَبِّي لَهُ ، فَجَعَلَهُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ تَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ ، وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ ) . وَهَذِهِ شَفَاعَةٌ فِي تَخْفِيفِ الْعَذَابِ ، وَهِيَ الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ ، وَهَذَا هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْلِهِ : فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ -يَعْنِي بِمَوْتِهِ كَافِرًا- تَبَرَّأَ مِنْهُ .
وَقِيلَ : تَبَيَّنَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ . وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ .
وَقَدْ قَالَ عَطَاءٌ : مَا كُنْت لِأَمْتَنِعَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى أَمَةٍ حَبَشِيَّةٍ حُبْلَى مِنَ الزِّنَا ، فَإِنِّي رَأَيْت اللَّهَ لَمْ يَحْجُبْ الصَّلَاةَ إلَّا عَنْ الْمُشْرِكِينَ ، فَقَالَ : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } .
وَصَدَقَ عَطَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ من ذَلِكَ أَنَّ الْمَغْفِرَةَ جَائِزَةٌ لِكُلِّ مُذْنِبٍ ؛ فَالصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ ، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ حَسَنَةٌ ؛ وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ الصَّلَاةَ عَلَى الْعُصَاةِ ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ؛ فَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ ، وَهَذَا مَا لَا جَوَابَ لَهُمْ عَنْهُ .