الْآيَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَأَذَانٌ من اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ من الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْأَذَانُ : هُوَ الْإِعْلَامُ لُغَةً من غَيْرِ خِلَافٍ ، الْمَعْنَى بَرَاءَةٌ من اللَّهِ وَسُولِهِ وَأَذَانٌ من اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، أَيْ هَذِهِ بَرَاءَةٌ ، وَهَذَا إعْلَامٌ وَإِنْذَارٌ : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } . { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ بِمِنًى فَقَالَ : { أَيُّهَا النَّاسُ أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا ؟ قُلْنَا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ .
أَتَدْرُونَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : شَهْرٌ حَرَامٌ . قَالَ : أَتَدْرُونَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : بَلَدٌ حَرَامٌ . قَالَ : إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ) .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا قَالَ : ( بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ فِي الْمُؤَذِّنِينَ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ يُؤَذِّنُونَ بِمِنًى أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ .
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : ثُمَّ أَرْدَفَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَلِيٍّ ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ بِبَرَاءَةَ .
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ بِبَرَاءَةَ ، وَأَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ ) .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عُمَرَ وَابْنِ الْأَحْوَصِ ، حَدَّثَنَا أَبِي أَنَّهُ ( شَهِدَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، وَذَكَّرَ ، وَوَعَظَ ، ثُمَّ قَالَ : أَيُّ يَوْمٍ أَحْرَمُ ، أَيُّ يَوْمٍ أَحْرَمُ ؛ أَيُّ يَوْمٍ أَحْرَمُ ؟ قَالَ : فَقَالَ النَّاسُ : يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا ، أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ عَلَى نَفْسِهِ ، لَا يَجْنِي وَالِدٌ عَلَى وَلَدِهِ ، وَلَا وَلَدٌ عَلَى وَالِدِهِ ، إنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ ، فَلَيْسَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ من أَخِيهِ إلَّا مَا حَلَّ من نَفْسِهِ ، أَلَا وَإِنَّ كُلَّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ ، لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ، غَيْرَ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ ، أَلَا وَإِنَّ كُلَّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ من دِمَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ دَمُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ ، أَلَا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ عَوَارٍ عِنْدَكُمْ ، لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ؛ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ ، وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا . أَلَا إنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ حَقًّا ، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ ، وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ . أَلَا وَإِنَّ حَقَّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ ) .
هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَرُوِيَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : ( سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ، فَقَالَ : يَوْمُ النَّحْرِ ) .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : ( بَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ ، وَأَتْبَعَهُ عَلِيًّا ، فَبَيْنَمَا أَبُو بَكْرٍ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ إذْ سَمِعَ رُغَاءَ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَصْوَاءِ ، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ فَزِعًا يَظُنُّ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا هُوَ عَلِيٌّ ، فَدَفَعَ إلَيْهِ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يُنَادِيَ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ ، فَانْطَلَقَا وَحَجَّا ، فَقَامَ عَلِيٌّ فَنَادَى أَيَّامَ التَّشْرِيقِ : ذِمَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَرِيئَةٌ من كُلِّ مُشْرِكٍ ، فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، وَلَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ ، وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا مُؤْمِنٌ ) . وَكَانَ عَلِيٌّ يُنَادِي فَإِذَا أَعْيَا قَامَ أَبُو بَكْرٍ يُنَادِي بِهَا .
وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ يَثِيعَ قَالَ : ( سَأَلْت عَلِيًّا بِأَيِّ شَيْءٍ بُعِثْت فِي الْحَجَّةِ ؟ قَالَ : بُعِثْت بِأَرْبَعٍ : أَلَّا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إلَى مُدَّتِهِ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَأَجَلُهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ ، وَلَا يَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ) .
قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : ( بَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَرَاءَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ ، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ : لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُبَلِّغَ هَذَا إلَّا رَجُلٌ من أَهْلِي فَدَعَا عَلِيًّا ، فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ ) .
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ من حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ؛ فَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : لَا نَشُكُّ أَنَّ الْحَجَّ الْأَكْبَرَ يَوْمُ النَّحْرِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي تُرْمَى فِيهِ الْجَمْرَةُ ، وَيُنْحَرُ فِيهِ الْهَدْيُ ، وَتُرَاقُ فِيهِ الدِّمَاءُ ، وَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي يَنْقَضِي فِيهِ الْحَجُّ ؛ مَنْ أَدْرَكَ لَيْلَةَ النَّحْرِ فَوَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ أَدْرَكَ الْحَجَّ ، وَهُوَ انْقِضَاءُ الْحَجِّ وَهُوَ الْحَجُّ الْأَكْبَرُ .
وَنَحْوَهُ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ ، وَأَشْهَبُ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَكَمِ عَنْهُ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ ، وَعَلِيٌّ ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ، فَقَالَ : ( هُوَ يَوْمٌ يُحْلَقُ فِيهِ الشَّعْرُ ، وَتُرَاقُ فِيهِ الدِّمَاءُ ، وَيُحَلُّ فِيهِ الْحَرَامُ ، وَتُوضَعُ فِيهِ النَّوَاصِي ) .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ : ( إنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ ) وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : ( الْحَجُّ الْأَكْبَرُ الْقِرَانُ ، وَالْحَجُّ الْأَصْغَرُ الْعُمْرَةُ ) . قَالَ الْقَاضِي : إذَا نَظَرْنَا فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ فَالْمُنَقَّحُ مِنْهَا أَنَّ الْحَجَّ الْأَكْبَرَ الْحَجُّ ، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ ؛ لَكِنَّا إذَا بَحَثْنَا عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فَلَا شَكَّ أَنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عَرَفَةَ ، مَنْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ بِهَا فِي يَوْمِهَا أَدْرَكَ الْحَجَّ ، وَمَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِهَا فَلَا حَجَّ لَهُ ؛ بَيْدَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَحْثِ عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ، وَذَكَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خُطْبَتِهِ ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ لِثُبُوتِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ .
فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَمَرَ بِالْأَذَانِ يَوْمَ النَّحْرِ ، وَلِثُبُوتِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَيْضًا ، فَإِنَّهُ قَالَ يَوْمُ النَّحْرِ : ( أَيُّ يَوْمٍ هَذَا ، أَلَيْسَ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ؟ ) كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ عَنْ الزُّبَيْرِ ( أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَقَالَ : أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا ؟ فَيَقُولُونَ : هُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ) . وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ .
وَقَدْ احْتَجَّ ابْنُ أَبِي أَوْفَى عَلَى أَنَّهُ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ بِانْقِضَاءِ الْحَجِّ فِيهِ من النُّسُكِ ، وَإِلْقَاءِ التَّفَثِ ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ . . . } الآية . وَغَاصَ مَالِكٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، فَجَمَعَ بَيْنَ الدَّلَائِلِ ، وَقَالَ : إنَّ يَوْمَ النَّحْرِ فِيهِ الْحَجُّ كُلُّهُ ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ إنَّمَا هُوَ فِي لَيْلَتِهِ ، وَفِي صَبِيحَتِهِ الرَّمْيُ وَالْحَلْقُ وَالنَّحْرُ وَالطَّوَافُ ، فَلَا يَبْقَى بَعْدَ هَذَا إشْكَالٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ " بَرَاءَةٌ " عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ لِيُقِيمَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ قِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ لَوْ بَعَثْت بِهِ إلَى أَبِي بَكْرٍ . فَقَالَ : ( إنَّهُ لَا يُؤَدِّي عَنِّي إلَّا رَجُلٌ من أَهْلِ بَيْتِي . ثُمَّ دَعَا عَلِيًّا ، فَقَالَ لَهُ : اُخْرُجْ بِهَذِهِ الْقُصَّةِ من صَدْرِ بَرَاءَةَ ، وَأَذِنَّ فِي النَّاسِ يَوْمَ النَّحْرِ إذَا اجْتَمَعُوا بِمِنًى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ كَافِرٌ ، وَلَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ ، وَمَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَهْدٌ فَهُوَ لَهُ إلَى مُدَّتِهِ .
فَخَرَجَ عَلِيٌّ عَلَى نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَدْرَكَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ قَالَ : أَمِيرٌ أَمْ مَأْمُورٌ ؟ قَالَ بَلْ مَأْمُورٌ . ثُمَّ مَضَيَا ، فَأَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ الْحَجَّ ، وَالْعَرَبُ إذْ ذَاكَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ عَلَى مَنَازِلِهِمْ من الْحَجِّ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، حَتَّى إذَا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ قَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ بِاَلَّذِي أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَقَدْ سَمِعْت بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ : إنَّمَا سُمِّيَ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ مَنْ كَانَ يَقِفُ بِعَرَفَةَ ، وَمَنْ كَانَ يَقِفُ بِالْمُزْدَلِفَةِ ، وَكَانَ النِّدَاءُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَجْتَمِعُ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِيهِ أَوْلَى وَأَبْلَغَ فِي الْمُرَادِ .
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي الْمَعْنَى ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ سَمَّاهُ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَالْوُقُوفُ كُلُّهُ بِعَرَفَةَ . سَمِعْت أَبَا سَعِيدٍ مُحَمَّدَ بْنَ طَاهِرٍ الشَّهِيدَ يَقُولُ : سَمِعْت الْأُسْتَاذَ أَبَا الْمُظَفَّرِ طَاهِرَ بْنَ مُحَمَّدِ شَاهْ بُورٍ يَقُولُ : إنَّمَا أَرْسَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا بِبَرَاءَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ ؛ لِأَنَّ بَرَاءَةَ تَضَمَّنَتْ نَقْضَ الْعَهْدِ الَّذِي كَانَ عَقَدَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَتْ سِيرَةُ الْعَرَبِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْعَقْدُ إلَّا الَّذِي عَقَدَهُ أَوْ رَجُلٌ من بَيْتِهِ ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقْطَعَ أَلْسِنَةَ الْعَرَبِ بِالْحُجَّةِ ، وَأَنْ يُرْسِلَ ابْنَ عَمِّهِ الْهَاشِمِيِّ من بَيْتِهِ بِنَقْضِ الْعَهْدِ ، حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُمْ مُتَكَلِّمٌ .
وَهَذَا بَدِيعٌ فِي فَنِّهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : اُخْتُلِفَ فِي قَوْلِ عَلِيٍّ فِي التَّأْذِينِ : هَلْ كَانَ بِثَلَاثِ آيَاتٍ أَوْ تِسْعٍ إلَى قَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } . أَوْ إلَى قَوْلِهِ : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } .
وَهَذَا إنَّمَا نَشَأَ من رِوَايَاتٍ وَرَدَتْ ، مِنْهَا قَوْلُهُ : وَلَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ . وَفِيهَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُقَاتِلَ أَهْلَ الْكِتَابِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ .
وَاَلَّذِي يَصِحُّ من ذَلِكَ أَنَّ تَأْذَيْنَهُ إنَّمَا كَانَ إلَى قَوْلِهِ : { غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَغَيْرُ ذَلِكَ من الْآيَاتِ إنَّمَا وَرَدَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، أَوْ فِي أَوْقَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ بِأَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ ، مِنْهَا مَا قَالَهُ فِي تَأْذِينِهِ ، وَمِنْهَا مَا زَادَ عَلَيْهِ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ من الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ من أَهْلِ الْعَهْدِ مَنْ خَاسَ بِعَهْدِهِ ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ ، فَأَذِنَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ فِي نَقْضِ عَهْدِ مَنْ خَاسَ ، وَأَمَرَ بِالْوَفَاءِ لِمَنْ بَقِيَ عَلَى عَهْدِهِ إلَى مُدَّتِهِ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } .
الْمَعْنَى : كَيْفَ يَبْقَى لَهُمْ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَهُمْ قَدْ نَقَضُوهُ ؛ وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ قُرَيْشٌ الَّذِينَ عَاهَدَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ ؛ أَمَرَ أَنْ يُتِمَّ لَهُمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ ، وَكَانَ قَدْ بَقِيَ لَهُمْ مِنْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ من يَوْمِ النَّحْرِ ؛ وَهَذَا وَهْمٌ ؛ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ كَانَ عَهْدُهَا مَنْقُوضًا مِنْهُمْ وَمِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَقَدْ كَانَ الْفَتْحُ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ كَانَ عَاهَدَ من الْعَرَبِ كَخُزَاعَةَ وَبَنِي مُدْلِجٍ ، فَلَا بُدَّ من أَنْ يُوَفَّى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ .