الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى { الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي قَوْله تَعَالَى { الْأَعْرَابُ } :
اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ لِسَبِيلِ الْعِلْمِ تَسْلُكُونَهَا ، وَصَرَفَكُمْ عَنْ الْجَهَالَاتِ تَرْتَكِبُونَهَا أَنَّ بِنَاءَ " ع ر ب " يَنْطَلِقُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى مَعَانٍ لَا تَنْتَظِمُ فِي مَسَاقٍ وَاحِدٍ ، وَعَلَى رَأْيِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ الْأَبْنِيَةَ تَنْظُرُ إلَى الْمَعَانِي من مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَجِدُهُ الطَّالِبُ لَهُ ، وَقَدْ يَعْسُرُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ يَعْدَمُهُ وَيَنْقَطِعُ لَهُ . وَهَذَا الْبِنَاءُ مِمَّا لَمْ يَتَّفِقْ لِي رَبْطُ مَعَانِيهِ بِهِ .
وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ الْأَعْرَابِ فِي الْقُرْآنِ هَاهُنَا ، وَجَاءَ فِي السُّنَّةِ ذِكْرُ الْعَرَبِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ ؛ وَلُغَةُ الْعَرَبِ مَنْسُوبَةٌ إلَى الْعَرَبِ ، وَالْعَرَبُ اسْمٌ مُؤَنَّثٌ ، فَإِذَا صَغَّرُوهُ أَسْقَطُوا الْهَاءَ فَقَالُوا : عُرَيْبٌ . وَيُقَالُ : عَرَبٌ وَعُرْبٌ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالْعَيْنِ ، وَبِضَمِّ الْفَاءِ وَبِإِسْكَانِ الْعَيْنِ . وَالْعَارِبَةُ وَالْعَرْبَاءُ ؛ وَهُمْ أَوَائِلُهُمْ ، أَوْ قَبَائِلُ مِنْهُمْ ، يُقَالُ إنَّهُمْ سَبْعٌ ، سَمَّاهُمْ ابْنُ دُرَيْدٍ وَغَيْرُهُ . وَيُقَالُ الْأَعْرَابُ وَالْأَعَارِيبُ .
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : الْأَعْرَابِيُّ لَزِيَمُ الْبَادِيَةِ ، وَالْعَرَبِيُّ مَنْسُوبٌ إلَى الْعَرَبِ وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ هَذِهِ النِّسْبَةَ قَدْ تَكُونُ نِسْبَةَ جِنْسٍ كَالْأَعْرَابِيِّ ، وَقَدْ تَكُونُ نِسْبَةَ لِسَانٍ ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْأَعَاجِمِ إذَا تَعَلَّمَهَا .
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ أَنَّ الْأَعْرَابَ جَمْعٌ ، وَهُوَ بِنَاءٌ لَهُ فِي الْوَاحِدِ أَمْثَالٌ مِنْهَا : فُعْلٌ وَفَعْلٌ وَفِعْلٌ وَفَعَلٌ ، كَقُفْلٍ وَأَقْفَالٍ ، وَفَلْسٍ وَأَفْلَاسٍ ، وَحِمْلٍ وَأَحْمَالٍ ، وَجَمَلٍ وَأَجْمَالٍ ، وَلَمْ أَجِدْ عَرَبًا بِكَسْرِ الْفَاءِ إلَّا فِي نَوْعٍ مِنَ النَّبَاتِ لَا يَسْتَجِيبُ مَعَ سَائِرِ الْأَبْنِيَةِ ، وَيَا لَيْتَ شَعْرِي مَا الَّذِي يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْأَعْرَابِيُّ مَنْسُوبًا إلَى الْأَعْرَابِ ، وَالْعَرَبِيُّ مَنْسُوبًا إلَى الْعَرَبِ ، وَيَكُونُ الْأَعْرَابُ هُمْ الْعَرَبَ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( يَا سَلْمَانُ ؛ لَا تَبْغَضْنِي فَتُفَارِقَ دِينَك . قَالَ : وَكَيْفَ أَبْغُضُك يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : تَبْغُضُ الْعَرَبَ ) . وَقَالَ : ( مَنْ غَشَّ الْعَرَبَ لَمْ يَدْخُلْ فِي شَفَاعَتِي ) . وَقَالَ : ( مِنَ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ هَلَاكُ الْعَرَبِ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( لَتَفُرُّنَّ مِنَ الدَّجَّالِ حَتَّى تَلْحَقُوا بِالْجِبَالِ . قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ فَأَيْنَ الْعَرَبُ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : هُمْ قَلِيلٌ ) .
وَقَالَ أَيْضًا : ( سَامٌ أَبُو الْعَرَبِ ، وَيَافِثُ أَبُو الرُّومِ ، وَحَامٌ أَبُو الْحَبَشِ ) .
وَمِنْ غَرِيبِ هَذَا الِاسْمِ أَنَّ بِنَاءَهُ فِي التَّرْكِيبِ لِلتَّعْمِيمِ بِنَاءَ الْحُرُوفِ فِي الْمَخَارِجِ عَلَى التَّرْتِيبِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : وَهِيَ فَائِدَةُ الْقَوْلِ :
اعْلَمُوا -وَفَّقَكُمْ اللَّهُ- أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ، فَكَانَ مِمَّا عَلَّمَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْعَرَبُ وَالْأَعْرَابُ وَالْعَرَبِيَّةِ ، وَلَا نُبَالِي كَيْفَ كَانَتْ كَيْفِيَّةُ التَّعليمِ من لَدُنْ آدَمَ إلَى الْأَزْمِنَةِ الْمُتَقَادِمَةِ قَبْلَنَا ، وَقَبْلَ فَسَادِ اللُّغَةِ ، فَكَانَ هَذَا اسْمَ اللِّسَانِ ، وَاسْمَ الْقَبِيلَةِ ، حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا سَيِّدَهَا ، بَلْ سَيِّدَ الْأُمَمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَعْطَى اللَّهُ لَهَا اسْمًا شَرِيفًا ، وَهُوَ نَبِيٌّ ، رَسُولٌ . . . إلَى سَائِرِ أَسْمَائِهِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهَا فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ وَالْقَبَسِ وَغَيْرِهِ ، وَأَعْطَى مَنْ آثَرَ دِينَهُ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ اسْمًا أَشْرَفَ من ( ع ر ب ) وَمِنْ ( ق ر ش ) وَهُوَ ( ه ج ر ) ، فَقَالَ : الْمُهَاجِرُونَ ، وَأَعْطَى مَنْ آوَى وَنَاضَلَ اسْمًا أَشْرَفَ مِنَ الَّذِي كَانَ وَهُوَ ( ن ص ر ) فَقَالَ : الْأَنْصَارُ ، وَعَمَّهُمْ بِاسْمٍ كَرِيمٍ شَرِيفِ الْمَوْضِعِ وَالْمَقْطَعِ ، وَهُوَ ( ص ح ب ) فَقَالَ : أَصْحَابِي ، وَأَعْطَى مَنْ لَمْ يَرَهُ حَظًّا فِي التَّشْرِيفِ بِاسْمٍ عَامٍّ يَدْخُلُونَ بِهِ فِي الْحُرْمَةِ ، وَهِيَ الْأُخُوَّةُ ، فَقَالَ : ( وَدَدْتُ أَنِّي رَأَيْت إخْوَانَنَا . قُلْنَا : أَلَسْنَا بِإِخْوَانِك يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي ، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ يَأْتُونَ من بَعْدُ ) فَمَنْ دَخَلَ فِي الْهِجْرَةِ أَوْ تَرَسَّمَ بِالنُّصْرَةِ فَقَدْ كَمُلَ لَهُ شَرَفُ الصُّحْبَةِ ، وَمَنْ بَقِيَ عَلَى رَسْمِهِ الْأَوَّلِ بَقِيَ عَلَيْهِ اسْمُهُ الْأَوَّلُ ، وَهُمْ الْأَعْرَابُ .
وَلِذَلِكَ قِيلَ ( لَمَّا صَارَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ فِي الرَّعِيَّةِ قَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ : يَا سَلَمَةُ ، تَعَرَّبْت ، ارْتَدَدْت عَلَى عَقِبَيْك . فَقَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَذِنَ لِي فِي التَّعْرِيبِ ) ، وَبَعْدَ هَذَا فَاعْلَمُوا وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ كَانَ عَلَيْهِ فَرْضًا أَنْ يَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَكُونَ مَعَهُ ، حَتَّى تَتَضَاعَفَ النُّصْرَةُ ، وَتَنْفَسِحَ الدَّوْحَةُ ، وَتَحْتَمِيَ الْبَيْضَةُ ، وَيَسْمَعُوا من رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِينَهُمْ ، وَيَتَعَلَّمُوا شَرِيعَتَهُمْ حَتَّى يُبَلِّغُوهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( تَسْمَعُونَ وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ ) ، وَيُسْمَعُ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْكُمْ ، فَمَنْ تَرَكَ ذَلِكَ ، وَبَقِيَ فِي إبِلِهِ وَمَاشِيَتِهِ ، وَآثَرَ مَسْقَطَ رَأْسِهِ ، فَقَدْ غَابَ عَنْ هَذِهِ الْحُظُوظِ ، وَخَابَ عَنْ سَهْمِ الشَّرَفِ ، وَكَانَ مَنْ صَارَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ صَارَ إلَيْهِ مُؤَهَّلًا لِحَمْلِ الشَّرِيعَةِ وَتَبْلِيغِهَا ، مُتَشَرِّفًا بِمَا تَقَلَّدَ من عُهْدَتِهَا ، وَكَانَ مَنْ بَقِيَ فِي مَوْضِعِهِ خَائِبًا من هَذَا الْحَظِّ مُنْحَطًّا عَنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ . وَاَلَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ يُشَاهِدُونَ آيَاتِهِ ، وَيُطَالِعُونَ غُرَّتَهُ الْبَهِيَّةِ ، كَانَ الشَّكُّ يَخْتَلِجُ فِي صُدُورِهِمْ ، وَالنِّفَاقُ يَتَسَرَّبُ إلَى قُلُوبِهِمْ ، فَكَيْفَ بِمَنْ غَابَ عَنْهُ ، فَعَنْ هَذَا وَقَعَ الْبَيَانُ بِقَوْلِهِ : { الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَعَلَى إعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ مَغْرَمًا لَا مَغْنَمًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْلَمُ لَهُ اعْتِقَادُهُ ؛ فَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ وَسِيلَةً إلَى اللَّهِ ، وَقُرْبَةً وَرَغْبَةً فِي صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِضَاهُ عَنْهُ .