قوله تعالى : { وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ( 84 ) قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين ( 85 ) قال إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله } :
هذه الآية تعطي إباحة البكاء عمن يموت للإنسان . وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نص في مواطن على جواز ذلك منها في دفن ابنه إبراهيم ، قال : " تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب " {[9425]} . ومنها في موت ابن لابنته . قال الراوي فدفع إليه الصبي ونفسه تقعقع كأنها شنة ففاضت عيناه . فقال سعد بن عبادة : يا رسول الله ما هذا ؟ قال : " رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله تعالى من عباده الرحماء " {[9426]} .
ومنها حديث أنس قال : شهدنا بنتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على القبر وعيناه تدمعان وقال عليه الصلاة والسلام لعمر إذا نهى النساء عن البكاء : " دعهن يا عمر فإن النفس مصابة والعين دامعة والعهد قريب " {[9427]} . وكره البكاء من أخذ بظاهر الحديث : " أن الميت ليعذب ببكاء الحي عليه " {[9428]} وإليه ذهب عمر وابن عمر . وقد مر الكلام عليه . وهذا الذي ذكرناه هو البكاء دون النوح {[9429]} . فأما مع النوح فلا يجوز باتفاق . وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه في غير ما حديث {[9430]} . واختلف العلماء فيمن يستحق اسم الصبر بعد قولهم بجواز البكاء من غير نوح . فقال قوم هو الذي يكون في حال المصيبة مثله قبلها ولا يظهر منه حزن في جارحة ولا لسان . وجاء مثل هذا عن ابن مسعود والصلت بن أشيم {[9431]} وشريح {[9432]} وابن شبرمة وربيعة . وقال قوم هو الصبر المحمود وهو التسليم للقضاء والرضا به وترك بثه للناس . فأما جزع القلب وحرق القلب ودمع العين فلا يخرج العبد من معاني الصابرين إذا لم يتجاوز به إلى ما لا يجوز له فعله بأن النفوس مجبولة على الجزع من المصائب ، وحكي هذا عن جماعة من السلف منهم الحسن . وقال طلحة بن مطرف {[9433]} : لا تشك مرضك ولا مصيبتك . قال {[9434]} وأنبئت أن يعقوب بن إسحاق صلى الله عليهما دخل عليه جار له فقال له : يا يعقوب ما لي أراك قد انهشمت وفنيت ولم تبلغ من العمر ما بلغ أبوك ؟ قال : هشمني وأفناني ما ابتلاني الله تعالى به من فقد يوسف . فأوحى الله تعالى إليه : يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي ؟ قال يا رب : خطيئة فاغفرها . قال : غفرتها لك . فكان بعد ذلك أسيل : { قال إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله } ولما مات سعيد بن أبي الحسن {[9435]} بكى عليه الحسن حولا . فقيل له : يا أبا سعيد {[9436]} تأمرنا بالصبر وتبكي {[9437]} . قال الحمد لله الذي جعل هذه الرحمة في قلوب المؤمنين يرحم بها بعضهم بعضا ، تدمع العين ويحزن القلب وليس ذلك من الجزع إنما الجزع ما كان من اللسان واليد . الحمد لله الذي لم يجعل بكاء يعقوب على يوسف وبالا عليه ، وقد بكى عليه حتى ابيضت عيناه من الحزن{[9438]} . وحكي أنه لم يفارق الحزن قلب يعقوب ثمانين سنة ، فما جاء في الآية من أمر يعقوب حجة لمن يرى من يفعل ذلك صابرا .