قوله تعالى : { ذلك ومن يعظم شعائر الله . . . . } إلى قوله تعالى : { فإلهكم إله واحد } :
الشعائر جمع شعيرة ، وهو كل شيء أشعر الله به تعالى وأعلم . وقد اختلف ما المراد بها في الآية . فقيل الهدي والأنعام المشعرة . ومعنى تعظيمها التسمين والاهتبال بها والمغالاة في ثمنها ، وإليه ذهب ابن عباس وغيره {[9823]} وقد أنكر القاضي أبو إسحاق هذا القول وإنما هي جميع الشعائر . قال : ومما يبين ذلك قوله تعالى : { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله } [ الحج : 36 ] فأخبر تعالى أن البدن من الشعائر . ومن قال بالقول الأول يريد أن يجعل البدن جميع الشعائر ، قال ومما يبين ذلك قوله تعالى : { لكم فيها منافع إلى أجل مسمى } وذلك يقتضي أن يكون أجلا مؤقت كالوقوف بعرفة والمبيت بالمزدلفة ورمي الجمار . وقيل الشعائر مواضع الحج ومعالمه كالبيت والصفا والمروة ومنى وعرفة والمزدلفة وغير ذلك ، وإليه ذهب ابن عمر وغيره {[9824]} . وقد روي عن زيد بن أسلم {[9825]} أنه قال : الشعائر ست : الصفا والمروة والجمار والمشعر الحرام وعرفة والركن . والحرمات خمس : الكعبة الحرام والبيت الحرام والشهر الحرام والمسجد الحرام والمحرم حتى يحل . واختلف الذين ذهبوا إلى القول الأول في المنافع المذكورة في الآية ما هي ، فقال مجاهد وغيره {[9826]} : أراد أن للناس في أنعامهم منافع من الصوف واللبن وغير ذلك ما لم يبعثها ربها هديا ، وإذا بعثها لم يحل له شيء من ذلك . وبعثها هو الأجل المسمى . وقال عطاء وغيره : لكم في الهدي المبعوث منافع من الركوب والاحتلاب لمن اضطر ، والأجل نحرها . ولأجل هذا الخلاف في التفسير يختلف الفقهاء في مسائل . فمن ذلك ركوب الهدي ، أجازه مالك من غير فدح ولم يجزه أبو حنيفة إلا عند الضرورة . قال : فإن نقصها للركوب تصدق بمقدار ما نقصها . فأجازه أهل الظاهر جملة من غير تفصيل وبه يقول أحمد وإسحاق . وأوجب بعضهم ركوبها لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور لسائق البدنة : " اركبها " {[9827]} . ومن ذلك لبن الهدي ، كرهه مالك ولا يعذر في فعيلها ، وأجازه بعضهم عند الضرورة وأجازه بعضهم من غير تفصيل . وقال أبو حنيفة إن نقصها الشرب فعليه قيمة ذلك ، وقد نسبه بعضهم للشافعي . والآية على هذا التأويل الواحد حجة لمن أجاز شيئا من ذلك . واختلف الذين ذهبوا إلى القول الثاني في المنافع أيضا ما هي ، فقالت فرقة : المنافع التجارة وطلب الرزق . وقالت فرقة المنافع كسب الأجر والمغفرة ، والأجل على هذا القول الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة .
وقوله تعالى : { ثم محلها } معناه ثم أخر هذا كله إلى طواف الإفاضة بالبيت العتيق . فالبيت على هذا التأويل مراد بنفسه فاقتضى هذا أن الحاج بعد هذا الطواف قد حل له كل شيء من ممنوعات الحج . وقد اختلف فيما أبيح للحاج بعد رمي جمرة العقبة قبل طواف الإفاضة . فقال الشعبي وأبو حنيفة يحل له كل شيء إلا النساء . وقال إسحاق {[9828]} في أحد قوليه يحل له كل شيء إلا النساء والصيد . وقال مالك {[9829]} يحل له كل شيء إلا النساء والصيد والطيب ، وهذا أليق بظاهر الآية لأنها تقتضي أن الذي يتم به الحج الطواف وتلك الأشياء لا تجوز قبل تمام الحج فينبغي أن لا تحل إلا بعد الطواف . واحتج مالك رحمه الله تعالى في الموطأ {[9830]} بهذه الآية على صحة قول عمر رضي الله تعالى عنه في طواف الوداع : لا يصدرن أحد من الحاج حتى يطوف بالبيت فإن أخر النسك الطواف بالبيت . قال القاضي أبو إسحاق وقوله تعالى : { ثم محلها إلى البيت العتيق } فإذا طاف الحاج بعد هذه المشاعر فقد حل بالبيت . قال الباجي : وهذا الذي قاله يحتاج إلى تأمل لأنه يحتمل أن يريد به حل من الإحلال ، ويحتمل أن يريد حل من الحلول وهو الوصول . وظاهر اللفظ إنما يقتضي أن الشعائر تنتهي إلى البيت العتيق ، أما أن يكون الطواف به أحد الشعائر وأما أن يكون نهايتها وتمامها {[9831]} فثبت بهذا أن طواف الوداع مستحب خلافا لأبي حنيفة أنه واجب .